صحيفة المثقف

عصمت نصار: محمد عبده ومدرسته.. من إحياء المشروع الفلسفي إلى تجديد الخطاب الديني (2)

عصمت نصارلم تقف جهود تلاميذ محمد عبده عند إصلاح الأزهر، ولا عند غرس المباحث الفلسفية والدراسات المنطقية والكتب النقدية في معارفه - تلك التي تعمل على توعية الأذهان وتوجيه العقول إلى التأليف والإبداع عوضاً عن الشروح والحواشي - بل تجاوزت ذلك إلى تأهيل الرأي العام لقبول الوجهة العقلية والنزعة الفلسفية؛ لتكون النقطة المركزية التي ينطلق منها مشروعهم الحضاري، وربط ذلك بآليات تجديد الخطاب الديني.

وقد حمل الشيخ مصطفى عبدالرازق ورفاقه - كما بيّنا - راية الجهاد والاستنارة ليس في الأزهر وحده؛ بل في حلقات التثقيف والصالونات الأدبية التي ظهرت في مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

ولعلَّ أشهرها صالون نازلي فاضل، وصالون الجريدة الذي كان يعقده أحمد لطفي السيد (1872م-1963م)، وصالون المقتطف، ثم صالون الأديبة مي زيادة، وكان جميعها من أثرى المنابر الفكرية وأحرصها على نشر المعارف الفلسفيّة في العالم العربي الإسلامي آنذاك.

وقد واصل تلاميذ الإمام هذه النِحلة؛ وذلك بعقدهم حلقة الشيخ أحمد أبو خطوة (1852م-1906م) الذي أجتمع حوله المئات لمتابعة دروس الفلسفة وعلم الكلام والتصوف العملي، وكان الشيخ مصطفى عبد الرازق من أكثر رواد هذه الحلقة إذكاءً لسنة الإمام؛ لفتح باب الحوار بين المستمعين وصاحب الخطاب، وذلك لتبادل الرأي ومناقشة المصطلحات والمفاهيم والرؤى والملابسات واصطناع الأسلوب النقدي الذي يرمي إلى إحياء التفكير الناقد في دراسة الفلسفة.

وقد تولى الشيخ مصطفى عبدالرازق رئاسة الحلقة بعد وفاة الشيخ أبو خطوة، وذلك عقب تشكيله الجمعية الأزهرية عام 1908م. تلك الحلقة التي أضحت خير ممثل لطليعة الشباب المؤيد لإصلاحات الإمام محمد عبده، والمطبق لمنهجه في البحث والدرس والتجديد في العلوم الإسلامية؛ استناداً على المنهج العقلي في التأويل، والمقاصد الشرعية في التطبيق. وقد انتشرت أخبار هذه الحلقة ولاسيما بعد تعيين الشيخ مصطفى عبدالرازق في مدرسة القضاء الشرعي وإقبال أواسط المثقفين على قراءة مقالاته في مجلة الجريدة، ثم مجلات السفور والسياسة الأسبوعية والمقتطف والهلال. وذلك عقب عودته من باريس - التي قضى فيها ست سنوات (1909-1915م)، تلك التي درس في جامعاتها تاريخ الفلسفة والأدب الفرنسي وعلم الاجتماع؛ ذلك فضلاً عن فن الترجمة، وخطوات تطبيق المنهج المقارن بين الاتجاهات والمذاهب، وقواعد تحليل النصوص والآليات الحديثة لتحقيق التراث، ثم فقه الإمام الشافعي والليث بن سعد، وغير ذلك من الكتابات النقدية العقلية التي أتاحت له الرد على غلاة المستشرقين والتصاول معهم بأسلوب هادئ يخلو من القدح والعنت والمغالطات والتعصب والاستناد إلى النظريات والرؤى والأكاذيب التي تفتقر إلى الدقة والموضوعية؛ الأمر الذي أغضب عليه الجامدون من شيوخ الأزهر؛ وسيما بعد استئنافه الحلقات الفلسفية التي كان يعقدها في بيته ومناقشته فيها لعديد من القضايا العقدية والأخلاقية والاجتماعية وتجديد الخطاب الديني، ودور الأزهر في الإصلاح، ومحاربة الفرق الضالة.

وفي عام 1920م؛ توسّع في نشر المعارف الفلسفية أثناء عمله بالجمعية الخيرية الإسلامية - بجانب عمله في التفتيش عن المحاكم الشرعية بالأزهر- والندوات التي كان يعقدها عن مشروع الأستاذ الإمام وخطته النهضوية، وذلك استكمالاً للمحاضرات التي كان يُلقيها في جامعة الشعب. وفي هذه الآونة راح ورفاقه من تلاميذ الأستاذ الإمام وأكابر المثقفين وأصحاب الأقلام المهتمين بالفلسفة، ونشر معارفها في الرأي العام مثل أسعد الشدودي (1826م-1906م)، وأحمد فتحي زغلول (1863م -1914م) - وهو من أوائل مترجمي الكتب الفلسفية ذات الصلة بالمشروع الحضاري- وسعد زغلول (1868م-1927م)، وطنطاوي جوهري (1870م-1940م)، وحنا خباز (1871م-1955م)، وأحمد لطفي السيد، وأمين واصف بك (1876م-1928م)، ومحمد الأحمدي الظواهري، وأحمد عبده خير الدين (1883م-1938م)، وإبراهيم رمزي (1884م-1949م)، من أوائل مترجمي الكتب الفلسفية - ومحب الدين الخطيب (1886م-1969م) صاحب المكتبة السلفية وأحد مؤسسي جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، ويُرد إليه نشر أوائل الكتب الفلسفية الصوفية، وسيما كتب الفارابي وابن سينا، ومحمد لطفي جمعة (1886م-1953م)، من أوائل المثقفين المعنيين بقضايا الفلسفة والتنوير، وأحمد أمين (1886م-1954م)، ومنصور فهمي (1886م-1959م)، ومحمد حسين هيكل (1888م-1956م)، وإسماعيل مظهر (1891م-1962م)، وأبو العلا عفيفي (1897م-1966م)، وإبراهيم مدكور (1902م-1996م)، ومحمود أبو الفيض المنوفي (وهو من أكابر كُتاب التصوف في الصحافة المصرية)، ومحمد مختار يونس وسلطان بك محمد (أستاذ الفلسفة والأخلاق بمعهد المعلمين والجامعة الأهليّة بالقاهرة)، وحنا اسعد فهمي، ومحمد على مصطفى، وحسن حسين، وإبراهيم اللبان، وعبده فراج، وغيرهم من أعلام الفكر والأدب، ومنهم أساتذة دار العلوم (الذين تتلمذوا على محاضرات الأستاذ الإمام عن تاريخ ابن خلدون وفلسفته عام 1879م، ودرسوا المنطق لأول مرة في عام 1887م، ثم التوحيد والحكمة العملية في عام 1890م، ثم علم الأخلاق في عام 1897م، ثم تاريخ الفلسفة في عام 1924م)، ومدرسة المعلمين العليا (التي كان يدرس فيها فلسفة التربية والأخلاق)، وأساتذة الجامعة الأمريكية، وأعلام ومترجمي الكتب التراثية الفلسفية، ورواد إحياء نظريات الفلاسفة ومناقبهم في مصر والعالم العربي يناقشون بجدية وبتخطيط علمي كيفية إدراج المعارف الفلسفية، ضمن المعارف العلمية في المدارس المصرية التي شرع سعد زغلول ورفاقه في تطبيقها منذ عام 1907م.

وقد حال بينه وبين ما أراد أمران أولهما: عدم وجود كتب فلسفية مُعَدّة لهذا الأمر من الناحية الفنية، أي تحوي برنامجاً موجزاً عن تاريخ الفلسفة ومميزاتها وأهميتها للفرد والمجتمع، ودورها في المشروع الحضاري، وفهم الدين، وتهيئة العقول للدراسات النقدية لطلاب المرحلة الثانوية.

وثانيهما: توفير عدد كبير من المدرسين المؤهلين للقيام بتدريس الأخلاق والفلسفة والمنطق في القسم الأدبي من المرحلة الثانوية، وتأهيل الطلاب الراغبين في التوسّع في دراستها في الجامعات الأوروبية، أو في الجامعة المصرية المزمع إنشائها في العام التالي.

وحسبنا أن نشير في هذا المقام إلى دقة التخطيط والتنفيذ لخطوات المشروع الحضاري الذي أضطلع به تلاميذ الأستاذ الإمام، وأعضاء الاتجاه المحافظ المستنير الذي يرد إليه فضل إحياء المشروع الفلسفي كما ذكرنا. وقد اجتمعت الآراء في إحدى حلقات الدرس بالجمعية الخيرية الإسلامية على ضرورة السير بخطى منظمة قبل تطبيق مساعي المجتمعين لإدراج المعارف الفلسفية في المدراس النظامية؛ وذلك عن طريق حَثِّ الأقلام الشابة على كتابة المقالات الفلسفية في الصحف، وتشجيع المحترفين في فن الترجمة على تعريب أمهات مبادئ الدراسات الفلسفية الغربية، وإضافة عليها ما عساه أن يكون تقصير منها في نقد بعض الحكماء الشرقيين، وتصانيف أعلام الحضارة الإسلامية؛ وذلك تمهيداً لتأليف الكتب المصرية الفلسفية عقب إنشاء قسم الفلسفة في الجامعة المصرية.

وفي نفس الوقت بذل الكثير من الجهد لإحياء العلوم العقلية، وتشجيع التأليف في الكتب المنطقية في كلية أصول الدين التي خطط لإنشائها الأستاذ الإمام (وقد تعَهّدَ بذلك الشيخ مصطفى المراغي، كما أشرنا، وهو من أكثر أعضاء الجمعية تحيزاً لهذا الأمر شأنه شأن الشيخ الأحمدي الظواهري، الذي عكف في كتابه العلم والعلماء عام 1904م على تبرأة الفلسفة من الاتهامات التي وُسمت بها من قبل العقول الجامدة التي صوّرت أن التحليلات العقلية والكتابات النقديّة تحرض على الارتياب في الدين والأوامر الشرعية. وقد طبق ما أراده الأستاذ الإمام في إصلاحاته كما بيّنا سلفاً).

وفي عام 1908م؛ أنشأت الجامعة الأهلية (جامعة القاهرة) وكان حظ المواد الفلسفية في القسم الأدبي منها موفوراً، فدرست لأول مرة الفلسفة العربية والأخلاق وتاريخ المذاهب الفلسفية، وقام بدريسها سلطان بك محمد، وطنطاوي جوهري.

 وفي عام 1914م؛ شكُلت أول لجنة لنشر باكورة الكتب الفلسفية المترجمة والمحققة والمؤلفة؛ وذلك بأقلام شبيبة المثقفين المصريين، وبإشراف أحمد أمين، ومراجعة كبار المتخصصين، ذلك فضلاً عن المقالات النقدية التي كُتبت في العديد من الصحف عن قيمتها وجودتها، ويرجع لهذه اللجنة الفضل في تشجيع وزارة المعارف على المضي في تزويد المكتبات المدرسية بالكتابات الفلسفية لأول مرة.

وفي عام 1917م؛ أنشأت جامعة الشعب على يد أحد المستشرقين السويديين، اسمه "بروزدر"، وكان همها الأكبر هو نشر المعارف الفلسفية بين الجمهور، ومناقشة القضايا الاجتماعية والفكرية بأسلوب عقلي في محاورات نقاشية مع أكابر الكتاب التنويريين.

 وفي عام 1918م؛ أدرجت مادة الأخلاق في المقررات الدراسية للمدارس الأولية والابتدائية للبنات. وقد جمعت معارفها بين التعاليم الدينية وأنفس النصائح التي وضعها العلماء والفلاسفة.

وفي عام 1919م؛ أنشأت الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وكان ضمن برامجها الثقافية نقد الكتب الأدبية والفلسفية، وذلك بتوجيه من "تشارلز واتسون" الذي تولى الإشراف عليها، وأعلن عن أغراضها التثقيفية.

وفي عام 1925م؛ عقب انضواء الجامعة تحت مظلة وزارة المعارف؛ تشكلت العديد من اللجان من أساتذة الجامعة، والقائمين على التعليم الثانوي للتنسيق بين المناهج الدراسية في مرحلة التعليم الجامعي، وما قبله. وأدرجت مادتي الأخلاق والتربية الوطنية في مقررات المدارس الإلزامية في وزارة أحمد محمد خشبة للمعارف العمومية. وفي نفس العام قررت الوزارة تدريس كتاب أصول الأخلاق تأليف (ي. دني) الذي قام بترجمته إسماعيل رمزي عام 1912م، وذلك لنشره في سائر المكتبات المدرسية؛ ليكون مرجعاً وعوناً لفهم المقررات الدراسية في هذا الميدان. وقد تعرّضت موضوعات الكتاب إلى العديد من المسائل والقضايا الأخلاقية، منها: طبيعة علم الأخلاق ومذاهبه، والتعريفات المختلفة للفضيلة والضمير والواجب.

وفي عام 1928م، في نظارة على الشمسي للمعارف العموميّة، أدرجت مادتا المنطق وعلم النفس ضمن المقررات الدراسية للصف الرابع الثانوي، وأدرجت مادتا الأخلاق والتربية الوطنية ضمن المقررات الدراسية للسنة الثالثة.

وعلى صفحات مجلة العصور نجد إسماعيل مظهر يفسّر ويبرّر إصرار الرأي العام القائد المتمثل في صفوة المثقفين على ضرورة إحياء المشروع العقلي الفلسفي في شتى أروقة ثقافتنا؛ بل في حياتنا اليومية، ما دمنا عازمين مخلصين لتطبيق مشروع نهضويّ ينقذنا من التردي والانحطاط الذي نعيش فيه تلك الأيام. ويقول في ذلك (الحقيقة أنه ليس لدينا مُثُل عليا؛ بل لدينا مُثُل سفلى، نَجدّ وراءها متناهبين حلبتها. لدينا من المُثُل السفلى ما يكفي أمة ناهضة بالفعل.

سائل نفسك: أين المُثُل؟ وأنت تعرف أنك في عصر انحطاط. وأكبر دليل على هذا أننا فهمنا الحياة على غير حقيقتها. فهمنا من المدنية أنها التمتع بظواهرها؛ حتى المرأة؛ فإنها لم تفهم من المدنية الغربية إلا أنها المخالطة الحرة والمرقص. لم تفهم المرأة عندنا أنّ للمدنية الغربية مع مراقصها وملاهيها مُثُلها العليا، تلك المُثُل التي إن فقدتها، فقدت صفة الحضارة وأنها مدنية ... إننا في عصر انحطاط، يتناول كل مرافق الحياة، وكل معايير المدنية. أما حاجتنا؛ فشديدة إلى زعماء يكشفون عن جسم هذه الأمة المسكينة كساء الباطل الذي نسجه الوهم وحاكته الزعامة السياسية؛ كسباً لعطف الجماهير وانتفاعاً بأهوائها.

ونحن في حاجة لمن يقول إننا في عصر انحطاط، وإننا في عصر انحلال تناول كل وجه من وجوه العمل للرقي الحقيقي، نحن نعمل لشهواتنا. وهذا أبعد شيء عن أن نكون عاملين على تكوين وجه صحيح من أوجه الحضارة).

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. عصمت نصَّار

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم