صحيفة المثقف

محمد العباسي: العمالة الوافدة في دول الخليج العربي.. كم هي حاجتنا لها؟

محمد العباسيفي السبعينات من القرن الماضي، وفي ظل تلك الطفرة النفطية في منطقتنا الخليجية وحاجتنا الماسة حينها لتطوير بلداننا وبنيتنا التحتية اضطررنا لجلب العمالة من كل أرجاء الأرض لبلوغ خطط حكوماتنا لبناء الوطن.. كانت الفكرة ناجعة وكلنا شهدنا الدور العظيم لهؤلاء في تحويل دولنا من صحارٍ قاحلة إلى مدن راقية جميلة.. سواء كان هؤلاء الوافدين مجرد أيدٍ مهنية عملت في مجالات الهدم والبناء والتطوير، أو كانوا من أصحاب العلم والخبرة ممن كان لهم أدواراً جليلة في تطوير أبنائنا علمياً ومهنياً.. ولا يسعنا اليوم بعد نصف قرن سوى الثناء عليهم جميعاً دون استثناء وأن نذكرهم بالخير لكل ما جنيناه واكتسبناه ونتمتع به من خيرات.

غير أن تلك الحاجة الماسة حينها لكل تلك الأعداد البشرية الوافدة علينا من الخارج تبدو أنها استنفدت، أو كما قد يعتقد الكثيرين من الشاكين اليوم من الخلل السكاني والبطالة المنتشرة في بلادنا.. هنالك أصوات متنامية وناقدة لسياساتنا المستمرة بالاعتماد على جلب المزيد من العمالة الأجنبية رغم توافر مئات الألاف من شباب الوطن من خريجو الجامعات وأصحاب الحق الأول في شغر الوظائف التي باتت تذهب لغيرهم دون وجه حق واضح المعالم.. ربما لم تزل هناك بعض المواقع والخدمات التي قد تحتاج لبعض تلك الفئات من العمالة الوافدة، سواء كانت في الخدمات التي قد لا يجدها المواطن "المتعلم" مناسبة له، أو بعض المراكز القيادية التي قد تحتاج لها عقول وخبرات لم نزل نفتقر لها من بين أبناء الوطن، ولكن الوضع العام اليوم يختلف عما كان عليه حالنا في القرن الماضي.. الخطط القديمة لم تعد ناجعة وسياساتنا التنموية لم تعد تحتاج لكل هذه الأيدي العاملة المستوردة في ظل تنامي أعداد أبنائنا المؤهلين والعاطلين.. والتركيبة السكانية اليوم باتت تعاني من خلل واضح المعالم يهدد الأجيال المستقبلية، بل والحالية، بشكل لم يعد يحتمل المماطلات الواهية!

لقد تكونت في مجتمعاتنا الطيبة "مافيات" في مجالات عديدة يشهدها الجميع تديرها مجموعات من الوافدين الأجانب وتدر عليهم المليارات.. ربما مصطلح "مافيات" يبدو مبالغ فيه، ولكن الواقع يقول بأن هناك تحركات مشبوهة تطال أبسط الخدمات اليومية وتنتقل إلى مؤسسات عديدة بات يسيطر على ادارتها أشخاص من بعض تلك الجنسيات التي باتت لا توظف إلا من ذات الجنسيات على حساب أبناء الوطن.. (لن أذكر تلك الفئات بالاسم لأن الكل عالم بالأمر وعمن نوجه أصابع الاتهام).. لكن لننظر إلى بعض المهن البسيطة التي تعكس تلك التحركات "المافيوية" حتى بين أفرادها.. كمثال بسيط، لنأخذ مهنة غسيل السيارات، سنجد أنها باتت محصورة بين فئات محددة تسيطر عليها دون فتح المجال لأي دخيل عليها، وتنتشر بين حوارينا ومواقف السيارات عند المساجد والمجمعات وغيرها بعد أن كنا في ماضي الأيام نجد في تلك المهنة بعض من أبناء الوطن ممن يعيلون عوائلهم منها.. وكذلك نجد أن أغلب البقالات ومحلات بيع الخضروات واللحوم والأسماك قد تحولت عبر السنوات الأخيرة إلى أنشطة تديرها وتسيطر عليها تلك الأيادي.. ومهنة البناء وكل ما يرتبط بها التي تعارفنا عليها فيما سبق كونها مهن وطنية خالصة صارت اليوم بشكل شبه كامل غير وطنية.. قد يدافع البعض عن هذه الأوضاع بأن المواطن البحريني "المتعلم" لم يعد يتقبل هذه المهن، وفي هذا القول جانب من الحقيقة، غير أننا في ظل الظروف الخانقة والبطالة والغلاء والضرائب والتعقيدات المفروضة علينا حتى عند فكرة القيام ببعض المشروعات الصغيرة، نرى أن هنالك مجموعات بشرية دخيلة علينا قد استحوذت على كافة المجالات وحرمتنا حقوقاً نحن أولى بها.

خريجو الجامعات في تزايد والجامعات أصبحت في كل زاوية من مدننا الرئيسية.. تكاليف بعضها باهظة، ثم بعدها يتسكع أبناءنا في مجاهل البطالة والتيه في ظلمات مستقبل لا معالم له.. وتبقى عملية السند المالي والمعنوي على كاهل الآباء وحدهم لإعانة أبنائهم من مأكل ومشرب وسكن ومصاريف يومية، في حين كان الأمل المعهود أن يتوظف الأبناء وأن يتحمل كل منهم بعض المسئولية عن أنفسهم بالمقام الأول، وربما أن يعينوا أولياء أمورهم في كبرهم بعد تعب السنوات الطوال من الجهد والتربية والتعليم وتحمل كامل المسئوليات المناطة بهم.

هل يعقل الظن بأن حكوماتنا لا تعي مدى ظنك الحياة ولا تستمع لشكاوى الناس ولا تشعر بآلامهم وحسراتهم على كل ما قد ضاع من بين أيديهم من استثماراتهم المكلفة في تنشئة عيالهم وتعليمهم ربما في المدارس والجامعات الخاصة لتأهيلهم لنيل فرص التوظيف والعمل والحياة الكريمة؟   هل كل المسئولين غافلون عما يدور من مظالم في أروقة الشركات والمؤسسات التي يديرها أفراد من تلك الجماعات الوافدة والتي تعمل دون مواربة على حكر المناصب والفرص على أبناء جلدتهم فقط، بينما عشرات الآلاف من المواطنين بلا عمل ولا أمل؟

ربما يرى البعض أن البطالة اليوم مشكلة عالمية تعاني منها حتى أغنى دول العالم في ظل سنوات من الكساد وانهيار بعض الاقتصاديات وأخيراً مع الضربة القاضية بسبب تفشي وباء "الكورونا" وأخواتها.. وهكذا تفسير فيه جانب من الصحة، ولكن المأمول من الحكومات الرشيدة أن لا تعلق كل مشاكلها على هذه الشماعات دون البحث عن الحلول المناسبة.. ففي الوقت الذي يعاني فيه المواطن من إيجاد فرص العمل في وطنه نرى أن مسألة إعادة النظر في جلب المزيد العمالة الأجنبية ليست ضمن سياساتنا الاستراتيجية البعيدة النظر.. فطبقاً لمنظمة العمل الدولية فإن العاطل هو كل شخص قادر على العمل وراغب فيه، ويبحث عنه، ولكن دون جدوى.. من خلال هذا التعريف يتضح أنه ليس كل من لا يعمل عاطل فالتلاميذ والمعاقين والمسنين والمتقاعدين ومن فقد الأمل في العثور على عمل وأصحاب العمل المؤقت ومن هم في غنى عن العمل لا يتم اعتبارهم عاطلين عن العمل ويسمى من يعاني منها عاطلا في المشرق وبطّالاً في المغرب.

بينما المتفق عليه بشكل عام أن من أهم أسباب البطالة هي عدم وفرة فرص العمل المناسبة أو بسبب التوقف الإجباري لجزء من القوة العاملة برغم قدرة ورغبة هذه القوة العاملة في العمل والإنتاج.. والمتعارف عليه أيضاً بأن الكثرة "الفائضة" من العمالة الوافدة تُعتبر عاملاً أساسياً في تفاقم مشاكل البطالة بين فئات مؤهلة ومستعدة للعمل.. أي أن السياسات الرشيدة بيدها أن توازن بين فتح كافة حدودها لجحافل من الوافدين وبين التحكم في حدودها للحفاظ على أبنائها من التفكير في الهجرة بدورهم بحثاً عن الحياة الكريمة في غير أوطانها!!

ربما يكون التضخم السكاني في بعض الدول سبباً في ظاهرة البطالة، حيث يصبح الحجم والتركيب النوعي والعمري للسكان المصدر الطبيعي لقوة العمل في ظل الظروف الاقتصادية والثقافية التي يعيشها المجتمع.. فلا شك ان النمو العددي لحجم السكان يعكس أثره على حجم الداخلين الجدد لسوق العمل سنوياً ويتمثل الانفجار السكاني في زيادة عدد الافراد القادرين على العمل بصوره سريعة جداً في مقابل ثبات توفر عدد الوظائف تقريباً أو ازديادها بصورة بطيئة جداً.. ومع الزيادة الكبيرة في اعداد الافراد القادرين على العمل والراغبين فيه والباحثين عنه ينمو النشاط الاقتصادي ببطء مما سيؤدي بالضرورة الى قلة توافر فرص العمل المتاحة التي تتناسب مع الزيادة في القوي العاملة.

ثم نجد بأن الخلل القائم بين سياسات التعليم واحتياجات التنمية وسوق العمل من بين الاسباب التي تؤدي الي بطالة المتعلمين عامة.. فالخلل القائم بين سياسة التعليم وسوق العمل لا يرجع الى عدم التطابق بين هيكل التعليم وهيكل الاقتصاد فحسب وانما يرجع ايضاً الى الاختلاف في سرعة نمو القطاعين، بمعني ان ينتج التعليم خريجين أكثر من قدرة الاقتصاد على استغلالهم برغم حاجة المجتمع إليهم.. ويبدو أن تفاقم عدد الجامعات في السنوات الأخير قد اتضحت معالم مخرجاتها الفائضة وهي نتيجة حتمية لافتقاد الحكمة المرجوة من الجهات المسئولة.

ومن المعروف ان الدول الحكيمة والواعية تتبني سياسة استقبال الخريجين من الجامعات والمعاهد العليا، إلا انه نظراً للتوسع الهائل والغير مدروس في التعليم بمراحله المختلفة وارتفاع معدلات النمو السكاني من جهة، وتفاقم أعداد العمالة الوافدة من جهة أخرى، تتقلص معها الفرص الكافية لاستيعاب أبناء الوطن.. وفي حالات قد نجد الاقبال الشديد على التعليم وتزايد مخرجاته بصورة متصاعدة، مع التزام الدولة بتعيين المخرجات، أدت تلك السياسة إلى اكتظاظ أجهزة الدولة بعمالة زائدة لا تضيف انتاجاً بل ربما اسهمت بما تحصل عليه من أجور في زيادة معدلات التضخم وانخفاض انتاجية العمل واصبحت سياسة التعيين الفوري للخريجين تمثل عبئاً اقتصادياً واجتماعياً ومن ثم كان على خريجي الجامعات وغيرهم من مراحل التعليم الأخرى الانتظار سنوات حتى يتم خلق فرص عمل لهم.

أجل، وبكل صراحة، يمكن القول بأن دولنا كانت ولسنوات عديدة تتكفل بتوظيف الخريجين في وظائف بالذات الحكومية منها حتى اكتظت الوزارات بالعطالة المقنعة الفائضة، ولكن من تعاظم أعداد العمالة الوافدة تم القضاء حتى على الفتات المتبقي من فرص العمل الأخرى.. ومع سيطرة بعض تلك الفئات "المافيوية" على مفاصل بعض المهن فيما بينها، ومع ارتفاع تكاليف الولوج في انشاء المشاريع الصغيرة والتعقيدات المفروضة عليها لم يعد للكثير من أبناء البلد من أمل في مستقبل كريم.. ربما فيما مضى كانت حاجتنا ماسة لبعض القوى العاملة الوافدة غير أن هذا الوضع قد تغير معه عليه أن تتغير سياساتنا الاستراتيجية والمستقبلية لحماية أوطاننا قبل أن تنخرها مسببات اليأس التام وضياع أجيال كاملة في مهب الريح!!!!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم