صحيفة المثقف

قاسم حسين صالح: الأمم المتحدة وانتفاضة تشرين.. توثيق للتاريخ والأجيال

قاسم حسين صالحتنويه: سجلت انتفاضة تشرين /اكتوبر 2019 سابقة ما حدثت في تاريخ العراق السياسي من حيث زخمها وحجمها، ومن حيث ان السلطة تعاملت مع متظاهرين سلميين فقتلت المئات وجرحت وعوقت الآلاف وكأنهم أعداء غزاة بطريقة ما حصلت من يوم اصبح العراق دولة في 1921، وفي مفارقة ان احزاب السلطة تدعي انها اسلامية!

ولأن الأمم المتحدة مسؤؤولة عن امن وسلامة الشعوب وحقوق الانسان وحرية التظاهر والتعبير عن الرأي، فقد قمنا في (17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019) بتحقيق لقاء بين وفد يضم متظاهرين من ساحة التحرير والنجف والناصرية وأكاديميين، وممثلية الأمم المتحدة في العراق، في مبناها بالمنطقة الخضراء امتد لساعتين في حوار صريح .وبوصفنا رئيس الوفد فقد قدمنا ورقة طلبنا تقديمها الى السيد الأمين العام لتعتمد وثيقة تاريخية مقدمة من نخب عراقية تناشد الأمم المتحدة لممارسة دورها الآنساني النبيل أزاء ما يجري من احداث خطيرة في العراق.

*

حمل الوفد مناشدة انسانية تتلخص بإيقاف نزيف الدم في العراق، موضحا أن ما يحدث في بلدنا هو في حقيقته حرب لأنه لم يحصل في أي بلد نظامه ديمقراطي ان يبلغ عدد ضحايا التظاهرات(في حينها) اكثر من ثلاثمئة شهيدا واثني عشر الف مصابا استخدمت فيها القوات الامنية الحكومية الرصاص الحي والمطاطي وقنابل مسيلة للدموع قاتلة استهدفت رؤوس الشباب، فضلاً عن اختطاف واغتيال وتعذيب العشرات من الناشطات والناشطين .

واعرب الوفد عن قلقه من وقوع مجزرة كارثية لأسباب سياسية تتلخص بدستور كتب في اجواء غير صحية نفسياً واجتماعيا وسياسية، وولادة نظام محاصصي مشًوًه وفاشل في 2003، ولأسباب سايكولوجية اجتماعية اوجزناها بالآتي:

1- ان العراقيين هم الشعب الوحيد بالمنطقة الذي خبر اقصى انواع العنف في السبعين سنة الاخيرة في ثلاثة حروب كارثية حمقاء (ايران, الكويت، اميركا )، ورابعة طائفية اوصلت الفرد العراقي الى ان يقتل الآخر لأسباب مخجلة وسخيفة، اقبحها انه يقتله لمجرد ان اسمه علي او عمر او رزكار .

2- ان الذين استلموا السلطة (بالأحرى سلًمت لهم) تحكمت بهم سايكولوجيا الضحية,بوصفهم ضحايا النظام الدكتاتوري لهم الأحقية في الاستفراد بالسلطة، فاعتبروا العراق غنيمة لهم وتقاسموا مؤسسات الدولة بين عوائلهم واقربائهم ,واشاعوا التعصب للهويات الفرعية التي حرّضت على الكراهية والحقد والانتقام والحروب القاتلة.

3- ان ما حصل في 1 اكتوبر / تشرين 2019 تفسّره نظرية سايكولوجيا الانسان المقهور. فعلى مدى ستة عشر عاما عانى الفرد العراقي الحرمان والاغتراب والأستهانة وهدر الكرامةوالشعور بانعدام وجود معنى للحياة والفقر.. فصار معبئا بالكبت لينفجر في حالة تشبه انفجار البركان في جبل.

4- وما يحصل تفسره ايضا نظرية صراع الآجيال,فجيل السلطة مرتبط بالماضي بعقائد وفكر دوغماتي ومنتج للأزمات ليشغل الناس عن التفكير ببؤس الحاضر، فيما جيل الشباب متطلع للمستقبل بعقل منفتح، وانهما جبلان لا يلتقيان.

وأوضحنا للسيدة (بلاسخارت) ان العراقيين تظاهروا من عام 2007 وما بعده وقدموا الشهداء، فظنت السلطة انها اوصلتهم لحالة العجز، ليتفاجئوا الان بجيل من الشباب والاحداث يطالبها بالإصلاح. والمشكلة ان احزاب السلطة لا يمكن ان تقوم هي بإصلاح نفسها والتضحية بامتيازاتها وما كسبته من ثروة فاحشة، ولن يصدّق احد من العراقيين ان تقوم الحكومة الحالية بإصلاحات جدية، وان غطرستها ستدفعها الى استخدام اقسى انواع العنف ضد من يحاول النيل من الذين يعتبرهم المتظاهرون هم المسؤولون عن اذلال وهدر كرامة الناس وما اصاب الوطن من خراب وايصال اكثر من سبعة ملايين عراقي( الآن اصبحوا 13 مليون باعتراف وزارة التخطيط) الى ما دون مستوى خط الفقر، وهدر ونهب مليارات الدولارات تكفي لبناء دولة خرجت من حرب كارثية.ولا تريد السلطة ان تعترف ان التظاهرات اتسعت لتشكل حركة احتجاج عامة تمثل مختلف الشرائح الاجتماعية، اثبت الشباب فيها انهم يمتلكون وعيا احتجاجيا وانهم اصبحوا اكثر قدرة على تحقيق اهدافهم بحصولهم على دعم المرجعية في النجف بتصريحها الأخير بان (الحكومة انما تستمد شرعيتها من الشعب وليس هناك من يمنحها الشرعية غيره) وان العراق لن يكون بعد الاحتجاجات كما كان قبله.

ولقد اضطرني الموقف ان اوضح للسيدة ممثلة الامم المتحدة بأنني سيكولوجست مؤلف لأربعين كتابا، واحد ابرز خمسة سيكولوجيين عرب فائزين بجائزة الراسخون في العلوم النفسية، لأشير لها ان ما يحصل الان ناجم في احد اسبابه الى ضعف النظام الديمقراطي والجهل بقوانين علم النفس وطرائق تسيير الجماهير..والتنبيه الى حقيقة سيكولوجية اجتماعية هي ان العقل في التظاهرات الجماهيرية يتراجع لصالح الانفعال. ونظرا الى ان المتظاهرين لم يحصلوا من الحكومة على تحقيق اي اصلاح عملي برغم ما قدموه من تضحيات، وانها تراهن على الملل وامطار الشتاء والاستمرار في استخدام القوة مقابل اصرار المتظاهرين على ديمومة التظاهرات المدعوم بتأييد المرجعية والمنظمات الدولية، فان التصعيد قد يحصل في اية لحظة يندفع فيها الشباب والمراهقون نحو الخضراء، لتتولى حمايات المسؤولين تصفية من بقي منهم..وبتنبهنا هذا فان الامم المتحدة ستكون مسؤولة بعد ايصال رسالتنا هذه اليها.

وقد حدد اعضاء الوفد بينهم الدكتور عارف الساعدي واحسان الفرج واحد المتظاهرين الشباب، عددا من المطالب تلخص اهمها باقالة او استقالة الحكومة الحالية، وتشكيل حكومة كفاءات من المستقلين، ومحاكمة الجناة والقناصين وتحسين العلاقة بين الأمم المتحدة والمتظاهرين يعيد الثقة بها مع الشارع العراقي.

وتوثيقا للتاريخ، اكدت ممثلية الأمم المتحدة بلسان سكرتيرها السياسي (محمد النجار) وقوفها مع المتظاهرين السلميين، وادانتها الانتهاكات والقتل وعمليات الاختطاف والتعذيب، وأنها دعت الحكومة العراقية وجهات اخرى فاعلة لأحترام حقوق الأنسان التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة، معترفا بأن ألأمم المتحدة لا تملك تفويضا يجبر السلطات العراقية لتنفيذ ما تطلبه..مضيفا بأن الأمم المتحدة تساهم الآن في تعديل القوانين العراقية مستعينة بخبراء دوليين في كتابة الدساتير وقوانين الانتخابات، وستبذل كل جهودها لتحقيق نظام ديمقراطي يحترم حقوق الانسان.

وانتهى اللقاء بالموافقة على اصدار هذه الوثيقة التي حملت اسماء موقعيها من المتظاهرين الشباب والاكاديميين ورفعها الى الأمين العام للأمم المتحدة.

*

أ.د. قاسم حسين صالح

  

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم