صحيفة المثقف

سامي عبد العال: الفلسفةُ وكشْفُ الكذبِ

سامي عبد العالتتجه الفلسفةُ فيما تزعُم إلى قول الحقيقةِ ولا شيء غير الحقيقةِ، إنَّها تفعل ذلك طوال الوقت من مرحلةٍ إلى أخرى. وهي بهذا الاتجاه تُقدِّم دعوةً مفتوحةً لإختبار صدق أفكارها. كأنَّ الفيلسوف يقف أمام محكمة (العقل) كوقوف المتهم أمام قاضٍ أثناء مُحاكّمةٍ تاريخيةٍ عامة. وبجانب ذلك يمتثل الفيلسوف لما يُطرح من إجراءات النقاش والحوار حول قضايا تخصُ الإنسانية جمعاء. مثل قضايا الحرية والإرادة والعقل والمعنى والفكر. أمَّا "هيئة المحكمة "، فهم أشخاص اعتباريون، هم العقول الفلسفية الكُّبرى التي تتسلح بمنطق وآليات جد فاحصة ونافذةٍ.

يعتبر الفيلسوفُ أنَّ البحث عن الحقيقة طريق متبادل المبادرات ومتعدد الأطراف لطرح الأسئلة والأجوبة والاعتراضات والردود والانتقادات. وصحيحٌ لا يملك الفيلسوفُ أنْ يقول أية إجابات مطلَّقة، لكنه في الوقت نفسه سيدحض شيئاً ما وسيرفض شيئاً آخر كما يقول أرسطو. وستصبح للتفلسف صفةُ الحُكم judgment، صفة اتخاذ القرار، صفة ممارسة الحِجاج وطرح الأدلة والقرائن على ما يقُول وصفة اشتراع حيثيات البت في المسائل الشائكة. وبالطبع سيجري ذلك كلّه مع ضرورة تقديم القرائن والأدلة على الادعاءات والآراء والمفاهيم.

فأثناء الحوار الفلسفي، سيحمل كلام المتحدث دلالةَ "حلف اليمين" وسط شهادة الآخرين وتحت وعيهم مباشرة. وبالتالي وفقاً لنظام يضبط آلية المحاكمة، سيطرح (سيقول) الفيلسوف كلامه على "الملأ العقلاني rational public " بكل امتثالٍّ. إذ ذاك ستذوب تجربة الحلف باليمين في تفاصيل توجهاته، سيكون مأخوذاً بـ(كلية) الموقف وصرامة الردود وصياغة الحجج تلو الحجج بدقة، منتقلاً من خطوةٍ إلى أخرى مخافة الانحراف ومحاولاً الامساك (باللغة) قدر ما يستطيع. فليس مما يطرحه إلاَّ عبر نسقٍ عقليٍّ ينتمي إليه معتبراً إياه ذروة الأفكار المرجّوة. إنَّه - من ثمَّ - سيناقش موضوعات الفكر بخطاب ضامن ليقينه على الأقل. وسيتولد اليقين بقدرة هذا الخطاب على الاتساق تبعاً لمعايير التفكير الخاص. فليست التقاليد الفلسفية إلاَّ طرائق للفكر وتدقيق المعاني بالنسبة لأي إنسان له إمكانية التفلسف. وذلك من حيث كون العقل هو المحك العام الذي نلجأ إليه جميعاً لترجيح ما نقول ونزعم.

إذن بدرجة الحقيقة نفسها تعدُّ الفلسفة معنيّةً بما ليس حقيقياً كذلك. لأنَّ الأمر ليس اختياراً بين هذا وذاك (بين الحقيقي والزائف). فالحالتان ليستا واضحتين تمام الوضوح لأول وهلةٍ في وجودنا الإنساني، كما أنَّ إثبات ما هو حقيقي يعني أنَّ هناك شيئاً غير حقيقي بالتبعية. أي أنَّ هناك تفكيراً في قضايا من حيث يحضر نقيضها في الساحة العقلانية التداولية، بل ومن خلال وجودها الخاص. على الأقل من جانب افتراض معرفة وتمايز الأشياء بأضّدادها. على سبيل المثال، ليس بإمكان الإنسان التعرف إلى الحياة دون الموت، وليس يستطيع  إدراك الواقع دون المثال ولا التأكُد من الثابت بخلاف المتحرك ولا الكلام عن الوعي دون الإحساس بالغريزة والأهواء.

والكذب بهذه الخلفية ليس طرفاً في معادلة محسومة النتيجة، لكنه عمل وآلية وخطاب برجماتي. وأكثر من هذا إنّه نظام للتفكير يمسُ رؤى العالم والحياة والتاريخ. ولم لا، فقد يأخذ منحى الحقيقة ذاتها. إذ ربما يعبر مثلاً عن وجه الحقيقة في ثوب خادعٍ حينما يمثل إساءة طرحها وحينما يتقمص دورها في الثقافة والمجتمعات، لأن كل كذب يحاول ملء المناطق الشاغرة في عقولنا وحشو فراغات الوجود الجمعي. وأيضاً هو كذلك عندما يقصد بها (وهي الحقيقة) التغطية على أشياء أخرى. وبالرغم من كون الحقيقة صادقةً إنْ كانت كذلك إلاَّ أنه يتم طرحها وفقاً لمعطيات اللغة في المجال العام. أي ضمن وسيط (تقني رمزي) يسمحُ عن قصدٍ بإفراط المعاني أو العكس. حينئذ لم تعد الحقيقةُ حقيقةً إنما هي صورتها، بلاغتها. باختصار ليست هي قصداً: بألف لام التعريف (الــ "هي").

إنْ لم تكن تلك هي إشكالية الكذب، فما هي طبيعته ومشروعيته وحدوده؟  أسئلة ذات طابع جذري تتيح ايجاد مساحة عمل للفلسفة. مساحة تفلسف تدعونا لممارسة دوره. إنَّه يضعنا في قلب توتراته مشدوهين ومشدودين بخيوط من حرير مع تصوراتنا. فالفلسفة تجدد مهمتها كلما كانت ثمة ماهية تقتضي التحديد والتفكير الجاد ولا نعرف كيف نقوم بذلك. أهي تُقلِّب الإمكانيات القصوى للأشياء، أهي تضرب في الجذور، أهي تلتقط المشترك والمستقر تحت الأسطح، أهي تُعمل أدوات النقد، أهي تفتح آفاقنا الحرة والخطرة في الوقت نفسه؟ بالطبع إنَّ الفلسفة هي كل ذلك، ولاسيما مع إعتبار الكذب فعلاً له أبعاد كثيرة. كما أنَّه يقدِّم وجهاً آخر، بل وجوها أخرى للحقيقة. فليس كل كذب معدوم الحقيقة بالكلية، لكنه قد يوازيها من حيث الممارسة والتأرجح معها.

بل لعلَّ الكذب فعلٌّ ربما في غير حالة يغرقها في أساليبه وإلتواءاته. ولهذا يختلف عمل الفلسفة عن طبيعة الاعمال الأخرى. لأنَّ عملها نوع من الحفر والمساءلة والتدليل والفحص والتعرية والتفكير في اللا مفكر فيه. كما أنّه عملٌ يؤسس بكل أصالة ممكنة (دون أصول) غير قابلة للتغير. وقد لا تكون تلك دلالة كليةً للتفكير إلاَّ من جهة كونها رغبةً. ويتم هذا أيضاً من زاوية تكشفها في لحظات (إغواء عقلي  mental seduction) كما قد يغوينا الكذبُ تجاه دروب ممتعة ونوعية.

وفي غير حالةٍ قد يقول الفلاسفة كلاماً عن جوهر الحقيقة وسلطتها، غير أن القول يعد قولاً في الكذب أيضاً. لأنَّه ينفي شيئاً ما ويثبت شيئاً ما بالوقت ذاته. يثبت حقيقة لها مجالها وآفاقها، وينفى (أي يُكذِّب) شيئاً ما ضمن هذه العملية نفسها. هو ينفي ضمنياً اللاحقيقة تبعاً لما يراها من زاويته النوعية. ويجرى الشجب أو الشطب على النقيض الكائن في قلب الأشياء هذا من جانب. أمَّا من الجانب الآخر، فبعض الفلسفة تاريخياً كان عبارة عن تصورات ومفاهيم تزيّف الدوافع الحيوية للإنسان. لأنها تستبقي في دلالتها بقايا الغرائز والحرية والمعاني والطبائع الأصيلة للكائن الحي.

إن الفلسفة أحياناً فن الكذب اللذيذ على النفس بإغراق الذات في لعبة التجريد والتأمل. نوع من التمهُل حتي ينصرف الكائن العاقل عن ذاته نحو بديل عنه. أي تمارس لعبة البدائل والمرايا المتقابلة التي تجسد وتضيّع ما تقول وترى. وتمثل بلغة نيتشه (كهانة مصطنعةartificial divination )، الفيلسوف هو قسيس البشرية الذي يسكن عباءة حكيم طاعن في العقل. ومع ذلك فقد تمتص أفكاره المجردة طاقة الفعل في صورته الخالية من أي فعلٍّ.

وهذا بالطبع لا يمنع كما أشرت أنَّ الفلسفة في أحد جوانبها كشفٌ لآلياتِ الكذب. لأنَّها استعمال نسقي للقدرة على التفكير ونقد الممارسات الجزئية ووضع الأقوال والأفعال تحت معايير فارزة. أي هو استعمال سيُظهِر هنالك ما خَفِي هنا وسيفسر ضمنياً ما يتفلت من التحديد. فالمنطق الذي تفترضه لا يخضع  للتوظيف الجزئي إنما يتم بشكل عام. وهذا بالقطع أمر بالغ الصعوبة، فلو حدثت مراوغةٌ منطقيةٌ، فقد يتقوض البناء الفكري بمجمله وتتعرض قواعدُه لخطر الانهيار. وتُسمى بالجذر اللاتيني مغالطةً قائمة على عملية خلط الأشياءfallacia ، وقد تعني استدلالاً بالجزئي على الكلي وتتناول سمةً عارضة على أنها جوهرية. لذلك يَنتُج التفلسف كأنه عمل فني متناسق ensemble، ويُنتِج أيضاً دلالة الأشياء (ينتج عن وينتج الــــ ...) بشكل مزدوجٍ. أي مجموعة من الأفكار التي تستّوعب دلالتها ككلٍ مترابطٍ. إنَّه العمل المعماري باختلاف تلويناته. وهو كذلك الأداء المتقارب لتأليف المفاهيم كما تتألف الأنغام الموسيقية.

وعند وجود ثغرات، سرعان ما تبرُز لكن ستُغطى بغطاء تلفيقي إلى حين. وهذا ما نراه في الخطابات النفعية والبرجماتية طبقاً لاعتبارات المصالح. بالتالي فإنَّ ما سيبدو غير مرئي ومسلماً به سينالُ قدراً من المراجعة. فالأسئلة لن تكف عن ملاحقته. والفلسفة بهذا العمل فحص صارم لمنطق التبرير عبر أشكال التواصل، سواء أكانت لغة أم معرفة أم علاقة. ولئن جاء الكذب جزئياً ولا يعي متبنوه انفلاتَّه في جانبٍ أو آخر، وإنْ كانوا لا يقدرون أثرَّه عبر مواقف أو نقيضها، فإنَّ تفكيراً نقدياً بإمكانه تقريب المسافة.

هكذا قد يمتلك الفيلسوف جهازاً فكرياً لكشف التزييف، لكشف المراوغة والتلون. إنه عازف اوركسترا من الأفكار والتحليلات التي توضح التباين بقدر ما تبرز تماثلاً. لذلك سيسأل برؤيته الأكثر انفتاحاً لا مذهبه الجامد...لماذا يتحدث الآخر بمنطق تبريري متهافت؟ لماذا يتسلق الخطاب التداولي على قواعد واهيٍة؟! ما أساس الكذب falsehood في استعمال اللغة؟ أهو التاريخ من زاوية كونه استعارات مخاتلة؟ أهي الحقيقة العصية على المعرفة من أول وهلةٍ؟! لكنه سيراجع نفسه قائلاً اللغة هي مصدر الشرور والخداع. لأنَّها تفرز فيروسات الاستعارة والمجاز. إذن - نتيجة هذا- كل عبارات التواصل بها شيء من الزيف. وتلك الإجابة أيضاً غير مقنعة. لأنَّه لو عرف خطوتها القريبة لوصف كلامُه نفسه بذات الوصف السابق. وعندئذ لن يخرج من تلك الدائرة إلاَّ مصاباً بسهام النقد.

إذن لماذا لا نطرح المسألةَ بالمقلوب؟ لِمَ نعتبر القول، حين يُطرح على نطاق عام، صادقاً؟ هل هو عندئذ قول ارتبط بالواقع أم امتلك مبرراته القوية على التعبير؟ ربما يكون الرد بأن حجج الكلام تخضع للمناقشة وتحتمل بحثاً عن اليقين. أو هي مبررات تخرج بأقل قدر ممكن من التشوهات عقب المناقشة. هنا أيضاً سيكون الشك بالمرصاد وراء تلك الأشياء. لأنَّ اللغة التي تحدثنا عن فيروساتها لا تعطي الخطاب يقيناً فورياً. وإنْ ظننا أنَّ الخطاب قد نال هذا اليقين فسيظل معلقاً بأُطر المجاز وتداعياته. وما لم نأخذ الكلام بهذا المضمون لبطُل عمل اللغة أصلاً. فكل خطاب به هذه الفجوة البلاغية في أعماق معانيه وفاعلية أفكاره.

لأنَّ اللغة تطرح وجوها أخرى للتعبير. وليس سهلاً معرفة جوانبه إذا كانت التركيز منصباً على المعنى المباشر. إذن أتوجد القضية (قضية الكذب) في دائرة الطرح؟ بكلمات أخرى، أليس الطرح تخارجاً عبر فعل هو الاستعمال الوظيفي للخطاب وهذا الأخير يكشف المعنى و يميزه ؟! هكذا يخرج بنا السؤال إلى أخلاقيات الخطاب. حيث الأغراض والمآرب والأهواء والغرائز.

من ثم: هل الكذب فلسفياً مشكلة أخلاقية؟ لكن لو كان كذلك، ماذا عنه، أي الكذب، في المجال العام وبآليات فكرية ليست ذات طابع أخلاقي فردي؟! وكذلك ماذا عنه في مجالات تفترض أول ما تفترض لا أقول الصدق وإنما الثقة المباشرة مثل الدين والسياسة والاعلام؟ هنا قد يُشار إلى أن تلك القضايا قضايا بعيدة نوعياً عن الفلسفة، بل لا يوجد ما يسمى في الفلسفة بمفهوم " الثقة "trust . لأنها تفترض التسليم بالكلام دون تأمل والفلسفة هي ميدان التأمل بالأصالة. كما أنَّ الثقة تزجي إلينا المعنى بطابع بريدي فوري كأنه آتٍ من عقولنا إلى عقولنا. وهي كلمة علي غموضها ابتداءً تعتبر غامضة فلسفياً. فالثقة في تاريخ الفلسفة تدخل نطاق الإيمان واليقين. وهاتان الكلمتان مثلتا إشكاليتين في الدين والمعرفة والحياة.

وإذا رددنا كلاماً واقعاً بالثقة، فهذا معناه غياب الفهم. معناه جريان الكلام من وراء التفكير، ومن خلف المعايير العقلانية إن وجدت. فالثقة حجب غير مباشر لشكوك العقل. في هذه الحالة ما معنى حجب الشكوك؟ الحجب ينجمُ عن مزيج من العوامل المتشابكة. إنَّ هناك تصديقاً بما يُقال لا صدقاً، هناك اعتقاد في معاني الكلام كما تُطرح، هناك تجربة تسليم بالآخر، هناك تداخل حالات وليس فرزاً لأفكارٍ، هناك تأثير ينتظر رد الفعل كما في تمتمات الجمهور أثناء الخطابات الدينية والسياسية. وهناك انجذاب إلى وسيط (كوسائط الإعلام) وانهماك فيه دون مبارحةٍ.

فقد تستعمل الثقة بمعناها المنجز سلفاً. وهذا يعني كونّها فردية الطابع وتمنح بلا مقابل كذلك. لكنها عندئذ تنضحُ بالبعد الوظيفي، وتُفهم ضمناً. فلو طُرحت صراحةً، لكان الفحص والتثبت من حقيقتها حاضراً. وهذا ما يجعل أيةَ ثقة تعود منكمشةً إلى درجة الإنزواء عند التأكيد عليها. فهي فجأةً تُوضع في حجمها الطبيعي، ليس هذا فحسب إنما يجب السؤال عن إمكانيتها عندئذ. وإذا جرت هذه الثقة كسمةٍ للحقائق الاجتماعية، فلأنَّ النظام الاجتماعي يعمل بآلياته العامة لا بأهواء أفراده فقط.

 

سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم