صحيفة المثقف

عادل بالكحلة: العقل الإناثي اليماني: دراسة في الإمَّات (1)

عادل بن خليفة بالكحلةمْن الممكن، أن نجد نساء في أقطار العصر الوسيط الإسلامية حافظات للقرآن أو ناسخات له (2)، أو ناقلات للحديث النبوي، لكنْ من النادر، إن لم يكن من المستحيل عمليَّا أن نجد منهن مفسّرات للقرآن أو للحديث، سواءً تجزيئيا (كجلّ الرجال المفسرين) أو موضوعيًّا. ومن المستحيل أكثر أن نجد منهن الكاتبات في الفكر الأصولي أو الإعتقادي أو الفلسفي. ومن الممكن أن نجد منهن المتدخلة في الشؤون السياسية، ولكن من المستحيل عمليًّا أن نجد مِنْهُن صاحب المَعْزَم في التدبير السياسي.

ولقد كان من الممكن لثقافة مغربية أنتجت «الكاهنةُ» مبادرتها السياسية، أن لا تكون فيها السيدة المنوبية وزينب النفزاويّة وفاطمة نْسُومر مجرّد استثناءات في المبادرة السياسية والدينية، إذا استطاعت فرض مشروعية دينية غير المشروعية المالكية إذْ تهمّشت فيها المشروعية التصوفية والمشروعية الإباضية. وهذا المعطى يمكن تعميمه على مجمل الحالة العربية قبل العصر الحديث.

أما جنوب الجزيرة العربية، وخاصة منه اليمن، فإن الوضعية الإناثية الإيجابية ما قبل «الإسلام» فقد استطاعت أن تبقى مع تطوّر، لأنها استُوعبت بمشروعية دينية تحمل وضعية إناثية إيجابية هي أيضا. ولذلك كانت المبادرة الإناثية ظاهرة ثابتة، لم تُجابَهْ باستنقاص فقهي أو عامّي، ولم تكن استثناءً أو حالاتٍ منعزلةً.

سنحاول في هذا العمل أن نُثبت أن ثقافة الوضعية الإناثية باليمن تطوّرية إذ مرت بثلاث إمَّاتٍ كُبْرى: إمَّة تأسيسية مع ذكرى بلقيس ومع زرقاء الهَمْدَانية، وإمّة إسماعيلية بما يُسمى «العصر الوسيط» مع الملكة أرْوَى، وإمَّة زَيْدية مع عدة نماذج (دَهماء بنت يحي المرتضى زينب الشهارية).

ذكرى بلقيس والتأسيس الإسلامي مع زرقاء الهمدانية:

تكاد تشتري كل المترجم لهن من اليمانيات في كمال الجمال الجسديي، وكمال عقلها معًا. ومن الأكيد أن بلقيس هي المثال الذي يختزن إمكانيات المرأة اليمانية في أي طَوْر من أطوارها. إنها، في ررواية القرآن ليست مُتملكة على اليمانيين فحسب، بل هي تملك قلوبهم وعقولهم أيضا (إنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) (سورة النمل، 21) ولها نظام سياسي ذو حكمة تدبيرية وسَوْقية متطورة كثيرًا: (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) (النمل،21). وهي تعتقد أن النظام الوراثي مَفسدة للحكم ومقّوض للعدل: (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ)، ولقد كان ذلك بناءً على قدراتها المعرفية (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) (النمل،21).

صحيح أن القرآن يرى أن معتقدها الديني فاسدٌ، ولكنه يؤكد رجاحة عقلها الذي يريد اختبار مدى صدق النبي: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (النمل، 379)، لتعترف بقصورها الديني: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (النمل، 43).

من المعروف أن إسلام الحكمة اليمانية لم يكن بإغراءات مالية ولا بفتح عسكري. فلقد استطاع معاذ بن جبل ثم علي بن أبي طالب أن يقوما بأسلمة إنْ لم تكن للأكثرية المطلقة فهي للأكثرية النسبية. فبَعْد أن كانت اليمن قاعدة لإسقاط دولة يثرب، حسب الأمر الكسْرَويّ –الساساني للأبناء (3) بصنعاء، أصبح الأبناء أنفسهم في مقدمة الانخراط اليماني في المشروع الثقافي الإسلامي في العالم. وتشهد الحلقة والمجلس في صنعاء بأن عملية الأسلمة لم تكن إكراها أو إغراء أو استمالة قبلية، بل كانت نتيجة حوار حقيقي مع الداعيتين. فلقد كان التظاسيس الإسلامي في طابع تسامحي-إقناعي-عقلاني، ولقد غطت امرأة يمانية هي أنيسة النخْعية وُفود معاذ بن جبل (4). ولقد كان الهمدانيون (ومنهم النخعيون) ضمن المنخرطين الأساسيين في هذا المشروع، وأهمهم مالك الأشتر، الذي كان الفاتح العسكري للشام ومصر، بينما كان غيره الفاتحين السياسيين.

ولعل أهم ما أفرزت الوضعية الإناثية الايجابية باليمن في هذه الفترة التأسيسية زرقاء بنت غديّ الهمدانية، ولقد كانت ضمن ندوة التدبير شبه الدائمة لمدينة الكوفية في عهد الخليفة الرابع، الذي كان كثير الاستشارة لها في الأمر الحضري الكوفي، كما كانت موجودة بصفتها الاستشارية والتعبوية في معاركه، وخاصة منها صفين، وقد خطبت فيها مرّات عديدة.

يصف معاوية بن أبي سفيان مبادرتها فيقول: «ألسْتِ راكبة الجمل الأحمر يوم صفين بين الصَّفّيْن تُوقدين الحرب وتحرّضين على القتال؟!». فلم تحضر المعركة في مؤخر الصفوف، ولم تكن مجرّد خطيبة، بل كانت في صميم سَوْق المعركة، إذ أن التعبئة بوجهيها: الجَوْس بين الصفوف والخطابة، من ذلك الصميم.

ولم تكن خطابتها تكرارًا للخطابة القتالية الرجالية ما قبل الإسلام، بل كانت حاملة لكثير من الوعي التاريخي بالمرحلة، فلم تكن تعبئ لمعركة صِفَّين، بل لمعركة مشروعيْن: مشروع تسمّيه «فتنة»، و«ظُلم»؛ ومشروع «كلمة عَدْل» و «الحقوق»، «التأمين كلمة العدل، وغلب الحقُّ باطله»، واندملت «شعب الشتات»، وهي من حامليه. وهي تقول محذّرة: «غشيتكم جلابيب الظّلم (5) وجارت بكم عن قصد المحجة، فيا لها من فتنة عمياء صمياء، يُسْمَعُ لقائلها ولا يُنظر لسائقها» (6). فهي ترى أن هذه الفتنة القادمة يمكن للأمة أن ترى القائلين فيها، ولكنّ سائقيها (7) ذوي دهاء يسمح لهم بأنْ لا يُرَوْا حتى يكون سَوْقهم أنجع.

إنها تعتبر المشروع الذي تنخرط فيه «الفرس» في سرعتها في انجاز الوعد التأسيسي، أما المشروع الآخر فهي تعتبره «البغل»، وهو «زفّ» لا يمكن أن «يقطع الحديد» (8) أي هو في نظرها عقيم ولا يمكنه الاستجابة للوعود التأسيسية.

وهي وإن كانت وفية لقائد مشروعها، فقد أقرّ لها معاوية بن أبي سفيان: «لوفاؤكم له بعد الموت أعجب إلىّ من حبكم له في حياته !» (9)؛ فهي تعتبر نفسها مبادرة وقيادية في مشروع «كلمة العدل». فهي مستعدة لتقديم التوضيح لمن أشكل على المشروع: «ألا من استرشدنا أرشدْناهُ، ومن استخبرنَا أخبرْناه» (10). ولقد اتهمها معاوية بن أبس سفيان: «لقد شاركت علي في كل دم سفكه»، فقالت:» أحسن الله بشارتك». فقال لها:» وقد سرَّكِ ذلك؟» قالت:» نعم والله لقد سرنّي فأنّى لي بتصديق الفِعل؟!» (11) لقد كانت منسجمة مع نفسها، مطابقة بين مثال وأفعال، ولذلك كانت مسرورة رغم «هزيمة» مشروعها النضالي، فلم تتغير مثاليتها رغم السنوات الطويلة التي مرّت، وهو ما لمْ يكُنْ حالُ الكثير من القُرَشيين ـنفسهم، الذين ساهموا في التأسيس الإسلامي.

ولقد احتفظت النساء اللواتي كُنَّ حول الخليفة الرابع بإعجاب كبير بمشروعه إذ قُلْن بعد سنوات من وفاته: أحببناه عى عدله في الرعية وقَسْمه بالسوية (12).

الطَّوْرُ الإسماعيلي: الملكة أرْوى:

زار المثقف المعاصر عبد العزيز المقالح اليمانية، عاصمة الملكة أروى ورآها حية في ذاكرة الناس «والحيث عنها لم ينقطع في المساجد وفي المدارس، عند ينابيع الماء وفي الطرق المرصوفة» (13). فهي لا تحمل مشروعية فحسب، بل إن سيرتها ومآثرها مازالت واضحة في الذاكرة العامّة.

أمها الرواح بنت الفارع بن موسى الصليحي، وقد تزوجت من عامر بن سليمان بن عبد الله الزواحي، بعد وفاة زوجها أحمد فولدت له سليمان بن عامر الزواحي الذي كان قائدا عسكريا كبيرا في العهد الصليحي، فكان أخًا لأروى من امها.

لم يربِّها والدَاها، وإنما الملك علي بن محمد الصليحي وزوجته الملكة أسماء بنت شهاب. وكل المُتاحات التربوية التي كانت لولدهم الذكّر أحمد بن علي، كانت لها هي أيضا من تربية دينية وتربية سياسية، ملمة بالتاريخ وأنام العرب والفقه الإسماعيلي وباعتبار أن الاستعدادات الذكائية التي كانت حاظية بها أفضل كان تفوقها على عليّ ابن أحمد. وكانت العلاقة بين «الأخوين» علاقة حب وتفاهم. ولقد أعدّها أبواها، المربيّان، لتكون زوجة الملك الجديد (علي بن أحمد) وهي في سن الثامنة عشر. ولقد كانت واسعة الثقافة، تضع شروحها على هوامش الكتب، وتباحث المختصين (14).

لقد طلب منها الملك أن تكون مجرّد مستشارة فرأت في ذلك استنقاصًا لها وأمرا شكليا، إذ اعتبرت ذلك جعلها مطلوبة للمَنْكَحِ فحسب، فما فوق المَنكح في نظرها هو الشراكة في الأمر لا مجرّد الاستشارة: «إن المرأة التي تُرادُ للفراش لا تصلح لتدبير أمر، فدعني وما أنا بصدده» (15)، أي هي تطلب إطلاق يدها معه في التدبير، فكان لها ذلك، فلمّا تُوفي أصبحت هي الملكة وحدها، ولكنها استعانت بعدد من المستشارين، فلم تستبّد بالأمر، كالقاضي عمران بن الفضل اليامي وأبو السعود بن أسعد بن شهاب، علاوة على مستشاراتها الكثيرات من النساء الثّقفات.

استطاعت أن تحافظ على استقلالية بلادها، بين مبادلات اقتصادية متكافئة مع البحرين القرْمطية-العدالية، وبين علاقة ولاء شكلية بالعُبيديين في مصر. وقد رفضت ضغط العبيديين عليها لتتزوج المنصور سبأ رغم حضوره بجيشه وأمواله إلى قصرها، لأن زواجها منه سيعني تبعيتها للدولة العبيدية عَبْر وسيط يماني، فلقد كانت تريد من الدولة العُبيديية أن تكون حليفًا وسط إقليم مليء بالصراعات، وأن تكون أحد مُمَوّني اليمن بالخبرة الادراية فاستقدمت مستشارًا كان يعمل مع العبيديين.

ولقد كانت مَيَّالة إلى الانتاج الحقيقي لا إلى الرَّيْع التسلّحي، كما درجت عليه عادة العرب المهيمينين. فلقد أقنعت زوجها بنقل العاصمة إلى ذي جبلة لأنهم خرجوا إليها «يحملون سِلالا أو جرارًا مملوءة بالبُنّ والعسل» (16) على عكس أهل صنعا الذين يستقبلون الملك بأسلحتهم، قائلة: « إن الحياة لأفضل بين هؤلا الرجال العاملين المكدّين» (17). فلقد تأثرت صنعا بتقاليد المهيمن العباسي إنْ قليلاً أو كثيرًا.

وفي عهدها «حُفرت الترع والقنوات، وكانت خزائنها مترعة بالذهب ويُقال إن من بين الأشياء التي فرضت عليها الضريبة: المسك والكافور والعنبر والصندل والأدوات العينية وكانت التجارة الهندية تأتي إلى الموانئ اليمانية بكثرة عظيمة، وكان حكام عون يؤدون إليها نصف خراجهم سنويًّا» (18).

كانت متمكنة في علوم التأويل والتنزيل الإسماعيليين وإحدى الدعاة والحُجج الكبار في هذه المدرسة. وحين أرادت الدولة العبيدية إرسال داعية إسماعيلي مصري اختارت هي نفسها مِنْ بين أسماء كثيرة في ذلك العصر، ما هو أقرب للمُنْتَقل اليماني. وكان لها من حسن التدبير العسكري والسياسي ما قضت به على عديد الفِتن التي هدّدت دًوْلتها ورغم إخفاق مسعى الأمير سبأ في الزواج منها، فإن أشعاره التي أرسلها إليها تعبّر عن حسن تقديره لها.

ولقد أصبحت أروى العجوز قيّمة على الدولة أكثر منها ملكة، فعيّنت عليّ بن عبد الله الصليحي، ابن أخ علي بن محمد الصليحي على الشؤون العامة، أي إنها عيّنته ملكا عمليّا دون إطلاق هذا الاسم عليه.

وقد اهتمت قبل انساسة المُحدثين تربية الماشية وزتحسين نَسلها مُحَمّيَةً أراضي خاصة لذلك، «وهذه الأوقاف لازالت موجودة وتسمى باسم أوقاف السيدة» (19)/ و عبّدت الطريق «من رأس جبل سمارة إلى السيافي على مسافة ثلاث مراحل، ويُعد هذا أوّل الطرق الزراعية الممهدّة في اليمن وأكثرها فائدة إلى الآن» (20). وأنشأت الكثير من المدترس والمساجد والمصحات. ولقد فرضت حرية الاعتقاد، فلم تشنّ حروبًا لتفرض عقيدتها ولم تحارب عقائد الآخرين، بل كانت دولتها مثالا في الحرية الدّينية، بخلاف دولة المتوكل العباسي أو دولة السلاجقة أو دولة المرابطين، بل إن الصليحيين ذوي الأصل الشافعي أنفسهم، لم يُكْرههم أحدٌ على التحول الإسماعيلي، إذ كان تحوّلا إراديّا.

الطّور الزيدي:

طور التكافئ الكمْيّ والكيفي بين النوعين: رغم ظهور الملكة أروى، وقبلها الملكة أسماء، لم يكن من الممكن في الطور الاسماعيلي مقاسمة الرجال. في الطور الزيدي أصبح عدد المختصات في العلوم كثيرًا، وأصبحن مشاركات في صنع المعرفة. فالعقل الإناثي اليماني أصبح بإمكانه التأليف في أصول الفقه والاجتهاد في الفقه والإنتاج في الفكر الاعتقادي (علم الكلام وعلم المنطق)، علاوة على العلوم الأخرى (النحو، الحديث...) فهذه دهماء شيحي المرتضى لم يكنلها شغل «غير العلم والاجتهاد فيه، ولا تتعلق غيره من أعمال النساء أو الرجال»، فليس العم لدى المرأة اليمانية زينة، وإنما ضرورة خصوصية لشخصيتهاوكانت «مقتدرة على الفتوى والإقرار وبالغة الكمال في التصنيف والتأليف» ولها رسائل، أي إن عملها وحد الوعاء المادّي ووجدت الناقل البشري إذ أن الثقافة اليمانية لا تمنع الوعاء المادي ولا الناقل البشري للمعقول الإناثي.

في السياق الثقافي الزيدي اليماني يمكن للمرأة أن تتدخل في ما يُشكل على الرجل دون أن يعني ذلك انتقاصا للرجل، بل كل ما يعنيه أن للمرأة عقلا. وأنَّ حسن الرأي غير مرتبط بالجنس.

فهذه زينب بنت القاسم المتوكل، كانت زوجة «العلامة يحي بن محمد بن عبد الله، المعروف بقاضي القضاة» (21) وكان قد بعث له الملك الزيدي بجماعة ليفصل بينهم في شجار، «فلم يستطع أن يجزم فيه بشيء» (22)، فتدخلت وفصلت في القضية. وكانت «هي التي توجّه زوجها في ما يفعل. ولمّا توفيت حزن عليها خزنا شديدا وتنكد عيشه بعدها حتى وفاته». فلقد كانت للمرأة لدى الرجل اليماني مكانه رفيعة، خاصة إذا كانت ثقفةً أو عالمية، إلى حد أنَّ الزوج قد يستميتُ تدريجيًّا تفجّعًا من موتها. وهذا الأمر ظاهرة عامّة ترّسخ بالطور الزيدي، وليس مجرد أحداث أو استثناءات قد نجد بعضها في ثقافات العالم الإسلامي الأخرى.

لم تكن المرأة اليمانية، خاصة بترسيخ الطور الزيدي، «ناقصة عقل ودين»، بل كان من العادي أن تكون من النساء الثقِفات والعالمات ومدرّسات العلم للرجال والنساء. فصفة بنت المرتضى بن المفضّل (في القرن الثامن الهجري – الخامس عشر الميلادي) «اشْتغلت بالعلم، ودرستْ على والدها» (23)، فالعلم لديها ليس مجرّد زينة إضافية بل كان لدى المرأة اليمانية مهنةً إذا شات، والوالدُ اليماني لم يَكُن يحرص على تدريس أبنائه الذكور فحسب، كما في جل الممارسات الثقافية للعالم الإسلامي آنئذ، بل يدرّس أيضا بناته أيضا. ولقد كانت صفة بنت المرتضى بن المفضّل غير متمكنّة من العربية والإخباريات فحسب، وهي في متناول أيّ ذي حافظة، بل «برزت وفاقت» (24) في ما يتطلب ما أكثر من الحافظة، أي القدرة الفهمية والاستنباطية كأصول الفقه والاقتدار «على الفتوى»، فلقد كانت الفتوى النسائية مقبولة ولم يكن هناك رفضٌ عامّيّ أو فقهيّ لها.

ولم تكتف بتأليف الرسائل والمسائل، بل كانت تراجع تُراجع الملك نفسه (الإمام المهدي بن علي بن محمد) «في كثير من المسائل العلمية وتراسلُه» (25)، ممَّا يبين أن البلاط نفسهُ معترف بالعقل الإناثي مساويًا إياه بالعقل الذكوري، أي هو غير مُجَنّسٍ للعقل. ولقد اهتمت بمسألة الكفاءة في الزواج فكتبت رسالة الجواب الوجيز على صاحب التجويز، شهدوا لها فيها بسعة الإطلاع الرقم الأخير.

زينب بنت محمد الشهاوية: عندما يَفصُل العقل الإناثي على العقل الذكوري:

إنها مثل الكثير من نساء طورها، متمكنّة من علوم تتطلب من العقل درجاتٍ عالية كالمنطق وأصول الفقه وعلم الفقه وعلم الفلك والسيمياء» (26). ولقد كانت تُذاكر الرجال والنساء في العلوم (27)، وقد كانت «لطيفة المذاكر، حسنة المحاضرة» (28).

تزوجت ثلاث مرات (مرتان منها مِن أميرين)، وقد كانت لها مع زوجها الأول (الأمير علي بن المتوكل) «مكانيات ومطارحات» (29)، فالعقل الإناثي من حقّه في الثقافة اليمانية بالطور الزيدي أن تناقش العقل الذكوري في المسألة العلمية. فلقد كانت هذه المرأة «تفضل على كثير من الرجال» (30).

لقد كانت تتزوج في المراث الثالث عن حب، ولكنها من سوء حظها لم تنجح في إدامة زواجاتها مرتين، إذ طُلّقت. وفي المرة الثالثة طلبت بنفسها الافتراق، فسكنت مدينة شهارة لتعيش تجربتها في الحب الإلهي، حتى توفيت سنة 1114هـ/17، بعد أن أخفقتها في حب زوج رابع فمضى «والعين قرحا ببعده حاجيرة» (31).

ولقد كانت معاتباتها للزوج الذي يفارقها تحمل الكثير من الإحساس العميق:

أهكذا كل من قد ملّ يعتذر   ويعقب المدح ذمّ منه مبتكر

أما أنا فقد حمّلني شططا     بالأمر والنهي فيمن ليس بأتمر.

إنها تحتج على أزواجها: «أين إشادة العدل واعتماد الحلم، وقد صُيّرت حقيقة الزوجية معدومة في الحكم» (32).

ولقد سكت في الحب البشري حتى سكت في سند الحديث النبوي الذي ينص على أن العلاقة الثنائية أمرٌ غيبي مفروض مُسْبقا:

رواه العلم أُفْتونا جميعا     أحقا جاء في الخبر الصحيح

إن شواهد الأرواح بعض   إلى بعض بر الغيب توحي

جنود فاختلاف وائتلاف    أريحوا بالجواب الصِّدْقِ روحي (33).

لقد أصبحت هي نفسها عاجزة عن الحب البشري، نظرًا لأنها أخفقت في المبادلة ثلاث مرات، فاختارت الحب الإلهي استجابة لاستعداداتها العشقية، بما هو حب مضمون المبادلة ومضمونٌ عدَمُ انقطاعه باعتبار أن المحبوب دائم، مطلق. وقد استعملت في رياضتها «المندل»، هو دليل تصوّفي. ويرى المترجمون لها أنها أرهقت نفسها بالرياضة، حتى كان مرضها، «والظاهر أنه بسبب الروحانية» (34).

الخاتمة

في قمة التدهور المعرفي للعالم الإسلامي بالقرن الثامن عشر، وفي أقصى درجات انتقاص السلطة الذكورية به للعقل الإناثي. والدين الإناثي، كانت الحكمة اليمانية بطورها الزيدي تعيش حيوية لا يعرفها جُلُّ العالم الإسلامي آنئذ وإعلاء من العقل الإناثي لم تعشه أقطاره في أي مرحلة من مراحله المعرفية. ولكن المفارقة أننا اليوم نعاصر يمنا ضعيفا فكريًّا ولم يقدّم في حراكه منذ سنة 2011 نماذج نسائية ترتقي إلى نماذجه التي كانت بأطواره السابقة على القرن التاسع عشر.

 

د.عادل بالكحلة

مركز مسارات للدراسات الفلسفية والإنسانيات

................................

 (1)- الإمّة، هي إحدى الموجّهات الرئيسية التي تؤُمُ سلوكًا انتحاليًا (=ثقافيا) معيّنا.

 (2)- الجبر (موفّق فوزي)، ناسخات القرآن الكريم عبر التاريخ الاسلامي، دار اكتاب العربي، دمشق، 1997.

 (3)- الأبناء هُمْ الحُكّام الفرس لليمن الفارسية قبل «الإسلام».

 (4)- العسقلاني (ابن حجر): الإصابة في تمييز الصحابة ..........

 (5)- ابن طيفور، بلاغات النساء،

 (6)- السائق هو صاحب السّضوْق (=الاستراتيجيا).

 (7)- ابن طيفور .......

 (8)- ابن طيفور.....

 (9)- ابن طيفور ........

 (10)- ابن طيفور

 (11)- ابن منظور............

 (12)- مهريزي (مهدي)، المرأة في الإسلام، مركز تنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2008، ص 253.

 (13)- المقالح (عبد العزيز)، قراءة في فكر الزيدية في المعتزلة دار العودة، بيروت، 1982، ص 159.

 (14)- عمارة ......................................

 (15)- ... كان الصليحيون شوافع، وقد كان اصبح الشافعي أحمد الصليحي اسماعيليل بطلبه.

 (16)-المقالح (عبد العزيز)، م.س، ص 167.

 (17)- المقالح (عبد العزيز)، م.س، ص 167 أيضا.

 (18)- المقالح (عبد العزيز)، م.س، ص 167.

 (19)- المقالح (عبد العزيز)، م.س، ص 151.

 (20)- المقالح (عبد العزيز)، م.س، ص 152.

 (21)- جحاف (لطف الله)، درر نحو الحور العين،.......

 (22)- جفاف (لطيف الله)، م.س، .......

 (23)-المساوي (أحمد)، م.س، المادة نفسها.

 (24)-المساوي (أحمد)، م.س، المادة نفسها.

 (25)- المساوي (أحمد)، م.س، المادة نفسها.

 (26)- زيارة المحسني الصنعاني (محمد)، تعاريظ نشر الصرف لنبلاء اليمن بعد الألف، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعا، د.ت ص 709.

 (27)- زيارة الحيني الصنعاني (محمد)، م.س، ص 709

 (28)- ........................ م.س، ص 704

 (29)- ...................، م.س، ص 709

 (30)- ...................، م.س، ص 712

 (31)- ......................، م.س، ص 711

 (32)- ......................... ، م.س ص 710

 (33)- ................ ، م.س، ص 710

 (34)- ................، م.س، ص 711.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم