صحيفة المثقف

محمود محمد علي: قراءة نقدية لكتاب فلسفة الدين في الفكر الغربي للدكتور إحسان علي الحيدري (2)

محمود محمد علي3- تحليل الكتاب

قسم الحيدري كتابه علي محورين رئيسيين: أحدهما يمثل الباب الأول ويتعلق بالتأسيس الفلسفي للدين، والآخر يمثل الباب الثاني المتعلق بمقولات فلسفة الدين، واشتمل كل باب علي خمسة فصول، ولما كان الصراع الفكري الموجود حاليا تمثل صراعاً حضاريا بين الشرق والغرب، فقد توجه الحيدري صوب الفكر الغربي ليبحث عن فلسفة اليدن بحسب ما صرح به فلاسفتهم، ومن ثم تكون فصول الكتب علي النحو التالي:

في الفصل الأول، حاول الحيدري من الباب الأول تبيان مفهوم الدين بتحديد معناه، لكونه موضوع دراسته، ولذلك عمد الحيدري إلي تبيان هذا المفهوم من جوانب عدة: الرؤية السيكولوجية والسوسيولوجية والأخلاقية للدين، فضلاً عن رؤية رجال الديانات السماوية، ليخلص الحيدري من كل ما تقدم من تعريف عام للدين تنضوي تحته سائر الديانات السماوية والوضعية (10).

وفي الفصل الثاني بحث الحيدري عن مصدر نشوء النزعة الدينية لدي الإنسان الأول (الإنسان القديم)، كيف نشأت ؟ وأسباب نشوئها؟ ومصدر نشوئها ؟ وللإجابة عن تلك الأسئلة تناول الحيدري أبرز ثلاث نظريات طُرحت علي الساحة الفكرية بهذا الشأن، حيث بين الحيدري أسباب نشوء الحس الديني عند الإنسان، أسيكولوجية هي أم سوسيولوجية ؟ أو خارجي مصدر تلك النزعة أم داخلي؟ أو فطري الحس الديني أم مكتسب؟ (11).

وجاء الفصل الثالث ليحاول الحيدري من خلاله التعرف علي طبيعة اللغة الدينية بتفحص عباراتها إن اكنت تدلل علي معني حقيقي أو مجازي، وكذلك للتعرف علي قضايا اللغة الدينية أإخبارية هي أم إنشائية؟ للحكم بعدها علي منطق اللغة الدينية، أمشابه هو لمنطق لغة العلم والأدب وما شاكلها أم خاص بها ؟ ويكون ذلك كله باختيار مجموعة من الفلاسفة الذين أدلو دلوهم في هذا المجال (11).

وبعد معرفة المفهوم وإحساس الإنسان به ومنطق لغته، إنتقل الحيدري في الفصل الرابع إلي توضيح العلاقة بين الدين والفلسفة، ومعرفة حقيقة تلك العلاقة، أعلاقة تعاون وتيادل للرؤي هي أم علاقة تزاع وصراع ؟ وحاول الحيدري في هذا الفصل تبيان الفرق بين المجالين المذكورين من أوجه عدة، مع سرد مقتضب لتاريخ تلك العلاقة، ثم أخذ الحيدري أنموذج فلسفي بارز ليكون معبراً عن تلك العلاقة الجدلية (12).

وفي الفصل الخامس من الباب نفسه حاول الحيدري إزاحة الستار عن مسرح فلسفة الدين، للكشف عن موضوعاته والعلوم التي يستفيد منها الباحث في هذا المجال، فضلا عن بيان الفرق بين فلسفة الدين وعلم اللاهوت، أوعلم الكلام، أو علم أصول دين دين معين، إذ تختلط مفاهيمها عند الكثير من الباحثين . ثم أماط الحيدري اللثام بعد ذلك عن وجه فلسفة الدين لبين لنا الحيدري وجه حقيقتها ويجاول تعريفها، وقد يكون هذا المنهج مغايرا لأغلب البحوث الأكاديمية، إذ اعتاد الباحثون كما يريب الحيدري أن يبدأوا سياق بحثهم بتعريف موضوع المشكلة المراد دراستها، أما الحيدري فقد ارتأي تاجيل حسم ها الموضوع،ليتدرج علي وفق تسلسل منطقي ابتداء من تعريف مفهوم الدين، وانتهاءً بالكشف عن حقيقة فلسفة الدين ؛ليمنح الدين تأسيسا فلسفياً فيخرج عن منظومته، ويحكم علي موضوعات الدين من خارج الدن (13).

ثم انتقل الحيدري بعد ذلك إلي المحور الرئيس الثاني في هذا الكتاب الذي بين أيدينا والمتمثل بمقولات فلسفة الدين، وقد بدا الحيدري الفصل الأول منه يجعل مشكلة الألوهية مقولة أولي؛ لأن موضوعها يميز الدين من غيره من الموضوعات، وعادة ما يتناول الباحثون في دراسة هذه المقولة مسألة أدلة وجود الله، تلك الأدلة المنطقية التي لا يكاد يخلو كتاب يبحث في الألوهية منها، لذلك قام الحيدري بالبحث في هذه المقولة المتعلقة بصورة الإله من حيث كونه علة مفارقة، ومن حيث كونه علة محايثة، ومن حيث كونه علة معلولة، باختيار نماذج فلسفية ثلاثة تعبر عن الصورة المذكورة (14).

ثم تناول الحيدري في الفصل الثاني من الباب الثاني مقولة ثانية متمثلة بمشكلة التجربة الدينية من حيث عدها صورة للعلاقة ما بين العبد ومعبوده، تلك العلاقة التي ستبتعد عن مضمار العقل للدخول في مضمار الأديان، حيث الانقياد إلي ذلك الإشعاع المقدس، إذ تعجز لغة الحياة اليومية عما رأته العين، وما سمعته الأذن، ولا مجال إلي ذلك بسوى الرمز ؛ ولهذا رأينا الحيدري يتوجه صوب عينات فلسفية مميزة كان لها إسهام في هذا المجال، سواء أكان ذلك عن طريق التجربة الحية أم كان عن طريق دراسة تجارب الآخرين (15).

ثم انتقل الحيدري بعد ذلك إلي مقولة ثالثة في الفصل الثالث متمثلة بدراسة مشكلة الشر، تلك المشكلة القديمة الجديدة، القديمة منذ هبوط آدم عليه السلام علي الأرض، وجعل الشيطان ممثلاً رمز الشر، والجديدة لأن الآراء بصدد معالجتها مستمرة إلي يومنا هذا (16)، وأخذت مناحي متعددة ؛ لذلك أختار الحيدري بعض الشخصيات الفلسفية التي حاولت التعاطي مع هذه المشكلة بشكل فلسفي بعيداً عن الجونب الأخري إذ يوجد من الفلاسفة المعاصرين من عالج تلك المشكلة من جانب سيكولوجي ؛ لذا رأينا المؤلف لم يتطرق في هذا الكتاب (17)..

وفي الفصل الرابع من الباب نفسه وجدنا الحيدري يتناول مشكلة مصير الإنسان بعد الموت، وطبيعة العالم الذي سيلاقيه، وهل سيواجه عالماً واحداً، أو أكثر، وهل سيكون الموت له حدا فاصلا للعبور إلي ذلك العالم أو أنه سيمر بتتلك اللحظة الفاصلة مرات ومرات، وهل وجود عالم آخر يمتلك حقيقة واقعية أو هو عالم من الوهم (18).

وفي الفصل الخامس والأخير تناول الحيدري صلة الدين بالأخلاق، إذ تحري الكاتب فيها أمتداخل مضمون كل منهما مع الآخر أم غير متداخل؟ وأي الموضوعين سيكون له السبق في التأسيس للآخر، الدين أم الأخلاق؟ وكل ذلك سيكون عن طريق اختيار شخصية فلسفية مبرزة تمثل طبيعة العلاقة بين الدين والأخلاق  (19).

وفي نهاية حديثي لا أملك إلا أن أقول بأن هذه المقالة ليست قراءة في كتاب (فلسفة الدين في الفكر الغربي)، ولا عرض لمحتوياته، إذ إن ذلك يتطلب مقالات عديدة، وإنما هي تحية للمؤلف إحسان علي الحيدري، الذي قدّم للمكتبة العراقية (والعربية أيضاً) هذا المصدر المبتكر والأصيل؛ ومن ثم يبقى هذا الكتاب مبتكراً جديداً في موضوعه وطريفاً ممتعاً للقارئ والكاتب على السواء.

ويسرني في نهاية المقال أن أبارك للأستاذ الدكتور إحسان علي الحيدري تأسيسه لموضوع جديد يهم الكاتب والمؤلف؛ خاصة وأنه يعد بحق قامة فلسفية وإبداعية في ساحة الفكر والثقافة المصرية والعربية، فقد استطاع بفكره أن يخصص له مساحة واسعة لنشر أفكاره والمتتبع لكتاباته الأخيرة يقف على أن إحسان علي الحيدري مفكرا، مُنَظِّرًا وناقدًا في نفس الوقت فقد ارتكزت أبحاثه على قراءة الفكر الغربي في ثنايا فكرنا العربي المعاصر؛ وذلك من أجل تحرير العقل البشري من دوجماطيقية التقليد، علاوة علي تسليطه الضوء على كثير من القضايا الفلسفية التي نالت حظاً من النقاش لدى النخبة المثقفة (سواء في مصر أو الوطن العربي) متخذاً في ذلك مساراً جديداً في عالم الفكر والإستبصار .

فتحية طيبة للدكتور إحسان علي الحيدري الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام والذي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

......................

الهوامش

10- د. إحسان علي الحيدري: المصدر نفسه، ص 20-47.

11- المصدر نفسه، ص 47-76.

12- المصدر نفسه، ص 79-112.

13- المصدر نفسه، ص 113-148.

14- المصدر نفسه، ص 149-167.

15- المصدر نفسه، ص 175-204.

16- المصدر نفسه، ص 209-240.

17- المصدر نفسه، ص 241-266.

18- المصدر نفسه، ص 271-299.

19- المصدر نفسه، ص 305-337.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم