صحيفة المثقف

حاتم حميد محسن: لامادية الذهن في الفلسفة القديمة والمتأخرة

حاتم حميد محسنماذا سيقول الفيلسوف عن وسيلتنا في فهم الاشياء او الكلمات؟ كالمعتاد، الامر يعتمد على أي فيلسوف نحن تسأل. البعض هم "ماديون" يعتقدون ان ذهننا يُختزل الى ركيزته المادية، وهكذا ربما يكون الجواب "الدماغ". البعض الآخر "ثنائي" ويعتقدون ان الذهن متميز عن الدماغ، كونه نوع من الاشياء مختلف تماما، لذا ربما يكون جواب الفيلسوف "الذهن".

العديد ان لم يكن معظم فلاسفة ما قبل الحداثة كانوا ثنائيين. هنا نشير الى ان العديد من المفكرين تأثروا بالافلاطونية في الفكر الاوربي اللاحق والاسلامي، او بالنظريات الثنائية للذات في الهند الكلاسيكية. ولكن كان هناك ايضا الماديين في تلك الثقافات ايضا، مثل الكارفاكا في الهند او الايبيقوريون والرواقيون في اليونان القديمة. هذا يعني ان هناك كانت حاجة للثنائيين عند مناقشة الآراء.

احدى الطرق التي قاموا بها كانت من خلال "حجة التشابه" affinity argument . انها تقوم على افتراض كان مقبولا سلفا في فلسفة اليونان قبل افلاطون، أي ان العارف يجب ان يشترك بطبيعة ما يعرف مهما كان، او، بكلمة اخرى،ان "الشبيه يعرف المشابه له". وهكذا قد يفترض أحد، لكي نعرف الاشياء في بقية العالم، فان الروح او الذهن  يجب ان تتكون من نفس العناصر . للهروب من المادية، نحتاج ان نضيف فقط افتراضا آخرا بان الاشياء التي تعرفها الروح هي غير مادية. الحجة تسير على الشكل التالي: الروح تشبه ما تعرف، وما تعرفه هو غير مادي، لذلك فان الروح هي غير مادية.

ربما هذه الحجة غير محكمة لسبب واحد، حيث يجب ان يقال لنا لماذا تحتاج الروح لتكون مشابهة لشيئها. ولكن هذه الحجة نجدها  في عمل فيلسوف لا يقل اهمية من افلاطون  وهو سقراط الذي استعمل حجة التشابه في حوار فيدو، الذي يحتوي على سلسلة من الحجج جاءت لتثبت خلود الروح قبل ان يتناول سقراط السم. في احدى الحجج، سقراط يثير فرقا بين نوعين من الأشياء، وهما الاشياء المرئية وغير المرئية (79 a). هو يقترح ،طالما ان الروح تحقق في الأشياء غير المرئية – اشياء"خالصة"، أبدية الوجود، خالدة وغير متغيرة – فهي يجب ان تكون قريبة من تلك الاشياء ولذلك تكون مثلها خالدة. بهذه الوسائل، كان سقراط  قادرا على إقناع أصدقائه بانه عندما يموت فان روحه لن تذهب سدى كالبخار.

كذلك، هذه الحجة لم تختف بعد ان استعملها افلاطون. أتباعهُ في العصور القديمة المتأخرة كانوا مقتنعين جدا بحجة التشابه، وعلى أساسها استخدموا التمييز بين نوعين على الأقل  من الادراك، رُبطا بنوعين من الأشياء. فمن جهة، نحن لدينا احاسيس وقوى ذات صلة،تعطينا مدخل للأشياء المادية. ومن جهة اخرى نحن لدينا أذهان غير مادية يمكنها فهم الأشياء غير المادية مثل "الأشكال غير المرئية" التي عرضها افلاطون. هذا التمييز أنتج فكرة ان بعض قوانا الإدراكية ستختفي عندما نموت. طالما انت لا تمتلك عينان او انف، سوف لن تكون قادرا على النظر او الشم لأي شيء. لكنك ستبقى قادرا على التفكير. لو انتقلنا عدة قرون الى الامام  سنجد الفيلسوف المسلم الكبير ابن سينا يطوّر حجة التشابه لتتناسب مع نظريته في المعرفة التي تدين كثيرا لارسطو بدلا من افلاطون. لذا، بدلا من مقارنة المرئي مع اللامرئي، هو يميز بين الخاص والعام. القوى الدنيا من الروح تتعامل مع الخصوصيات، انت ربما ترى وتتذكر او تتصور سقراط او اشياء خاصة اخرى. هذه القوى تقع في أعضاء جسدية، مثل العيون او الدماغ. بالمقابل، قوة الروح المفكرة العليا تتعامل مع العالمي – كما في حالة فهمنا للطبيعة الانسانية، او ما ينتمي لكل الناس. ابن سينا يعتقد ان الناس وحدهم  يمكنهم التفكير عالميا. الحيوانات ربما قادرة على فهم بعض الخصائص الغير متاحة للحواس، مثاله الشهير هو ان النعجة يمكنها فهم كراهية الذئب. لكن النعجة لاتستطيع التفكير على المستوى العالمي. انها لا تستطيع، مثلا، التساؤل بغضب لماذا كل الذئاب معادية لجميع الأغنام.

يعتقد ابن سينا انه يستطيع الآن ان يبيّن اللامادية في الروح المفكرة. اذا كانت الروح مادية، عندئذ فهي سوف تحدد بالتفصيل الأفكار التي تفهمها، تستقبلها بنفس الطريقة التي يستقبل  بها الجسم اللون ، حيث جزء واحد من الجسم يستقبل قطعة واحدة من اللون، وجزء آخر لجزء آخر من اللون. بدلا من ذلك نحن نعرف من التجربة اننا قادرون على فهم الافكار العامة كلها دفعة واحدة وبدون تقسيم للأجزاء. وان العقل يجب ان يكون مشابها لموضوعه – ليس بكونه عالميا، وانما بكونه غير منقسم وغير مادي.

نسخة ابن سينا لحجة التشابه لقيت قبولا واسعا في الفلسفة المتأخرة. وجدناها حتى لدى  فيلسوف النهضة الافلاطوني مارسيليو فيسينو الذي ينسبها بشكل غامض الى "الافلاطونيين العرب". هو يتفق مع خط ابن سينا في التفكير: اذا كان الذهن عضوا جسديا فسيكون منقسما في ذلك العضو، لذا لا يستطيع فهم الأفكار غير المنقسمة.

غير ان الحجة كان لها القليل من القبول في العالم الاسلامي، فقد اشير الى ان كراهية ذئب معين هي ذاتها وحدة غير منقسمة. لذا فان حجة ابن سينا افتراضا ستكون لها نتائج منافية للعقل  في ان النعجة لها روح غير مادية. ايضا قيل بان الجسم غير المنقسم قد يؤدي الغرض المطلوب بحجة ابن سينا: اذا كانت الروح ذرة منفردة، عندئذ يمكنها فهم فكرة موحدة بدون تقسيمها. هذه المعارضات في الحقيقة تعترف بمقدمة برهان ابن سينا لكنها تقترح ان هناك طرق اخرى لضمان التشابه بين الروح وموضوعها بدلا من الثنائية.

 

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم