صحيفة المثقف

محمود محمد علي: عبد الرحمن الشرقاوي، أديب الفلاحين والغلابة.. رواية الأرض (نموذجا) (1)

محمود محمد عليما يميّز الإنسان عن باقي المخلوقات صفة النطق والقدرة على التعبير، فالكلمة هي الظاهرة البشرية الأولى، التي وجدت مع الإنسان، وأسهمت في تشكيل الاجتماع الإنساني منذ مرحلته الأولى، وبها انتقلت المعرفة المكتسبة من شخص إلى آخر، عبر أماكن مختلفة وأزمان متلاحقة، والكلمة في طورها الشفهي مثَّلت الأداة الأولى، لنقل المعارف والخبرات الإنسانية عند كل الأمم، ولا شكَّ أن أثر الكلمة في حياة الناس عظيم جداً، ربما لا ندركه جميعاً، لكنه موجود بالفعل، ويصنع في الأشخاص العديد من التغييرات المدهشة تماماً، سواءً كانت هذه التغييرات إيجابية أو سلبية. وبالرغم من ذلك، فالبعض يجهل أثر الكلمة في النفوس، ولا يعرف كيف يمكنها أن تغير من حياة الناس، ويرى أن الكلام سيظل كلاماً مهما حدث، على الرغم من أن الكلمة تؤثر في حياة الناس، ومن كل جوانب الحياة.. إنها مفتاح للبهجة والسعادة والأمل والتفاؤل والطاقة الإيجابية لمن أدرك قيمتها، وتنبأ بأثرها، وأجاد استخدامها، وعرف معناها ووقعها على آذان السامعين (1).

قصدت أن أبدأ بهذه المقدمة لأتحدث عن عبد الرحمن الشرقاوي(1987-1920)، ذلك الشاعر والأديب والمفكر الإسلامي والمؤلف المسرحي المصري العظيم، فهو أحد كبار رواد حركة التجديد الشعري العربية في نهاية الأربعينات، وهو أيضا أحد كبار رواد الاتجاه الواقعي الاجتماعي النقدي في الإبداع الأدبي العربي الحديث، وأول من كتب المسرحية الشعرية العربية مستخدماً الشعر الحديث الذي كان أحد رواده، وواحد من أبرز الأدباء الذين عملوا بالصحافة ووصلوا إلي أرفع مناصبها، أثرت كتاباته علي المناخ السياسي والثقافي والفكري في مصر والعالم العربي من خلال دفاعه عن الديمقراطية والعدل الاجتماعي.

علاوة علي أنه يعد أحد علامات الأدب العربي، تنوه إبداعه ما بين القصة والرواية والمسرحية الشعرية والمقالات الأدبية والنقدية، وتناول بقلمه مختلف القضايا السياسية والاجتماعية في عصره ؛ فلقد آمن بأهمية الكلمة ودورها في أصلاح المجتمع والكشف عن عيوبه ومثالبه، وأيقن بقدرتها علي شحذ الهمم وإثارة العزائم فاتخذ منها سلاحا للدفاع عن قيم الحق والعدل والإخاء والمساواة، وأداة لاستنهاض الأمم واستعادة أمجادها (2).

قال عنه الإعلامى أحمد المسلمانى، بأنه:" الأديب الكبير الراحل عبد الرحمن الشرقاوى بالعملاق الموسوعى، وصاحب "الأرض" .. أبدع فى كل مجال دخل فيه فى الرواية والشعر والمسرح والمقال الصحفى، وقد حصل على امتياز فى جميع المجالات الأدبية والثقافية، ويحظى بإجماع حقيقى على كافة المستويات الفكرية والثقافية" (3)؛ كما قال عنه الدكتور خالد الذهبى، مدير المسرح القومى الأسبق، إن الأديب الكبير عبد الرحمن الشرقاوى، كان أديبا ومفكرا وفيلسوفا أيضا، فكان صاحب رؤية موسوعية وقضية، إذ اهتم بقيمة الحرية فهى قيمة سامية عنده، وتحدث عن المهمشين والفقراء، كما حدثنا عن القهر والظلم، وكانت شخصياته الدرامية في أعماله حية بيننا (4)؛ كذلك قال عنه الكاتب إيهاب الحضرى:" إن عبد الرحمن الشرقاوى كان يخاطب الوجدان وليس العاطفة فقط، موضحا أن قيمة الحرية كانت أساسية فى أعمال الأديب الراحل، وذلك يتمثل أيضا فى مواقفه فكان صاحب موقف، كما أنه كانت لديه ثقافة الاعتذار"، وأضاف "الحضرى" أن أعمال عبد الرحمن الشرقاوى التاريخية مثل الحسين ثائرا وشهيدا تحمل دلالات ورموزا تعبر عن كافة العصور، فهى تحمل تحريضا لمن يؤمنون بالحرية والرافضين للقمع (5).

وعلاوة علي إبداع عبدالرحمن الشرقاوي في المجالين المسرحي والروائي فإنه يعتبر فارس من فرسان الشعر الحديث أو ما يسمي الشعر الحر، فهو صاحب القصيدة الطويلة الشهيرة "من أب مصري إلي الرئيس ترومان" والتي عبرت عن مرحلة جديدة من الوعي القومي وجعلت منه مع أعمال أخري رائدا في هذا المجال ويقول الشاعر أمل دنقل أن عبد الرحمن الشرقاوي هو "رائد الشعر الحر الأول في مصر حيث أن قصيدته الشهيرة من أب مصري للرئيس ترومان هي الوثيقة الشعرية الأولي التي أعلنت ميلاد هذا الاتجاه (6).

وقال عنه الدكتور عبدالعزيز شرف: "تظهرنا الرؤية الابداعية في أدب عبدالرحمن الشرقاوي على خصائص ثلاث يصدر عنها فيما يكتب ويبدع ونعني بها الاصالة او الجدة في العواطف المعبر عنها، الوضوح في التعبير عن هذه العواطف، إخلاص الأديب المبدع، أو شدة العواطف التي يعبر عنها"، مضيفا: "في تقديرنا أن الشرقاوي يسعى في أدبه إلى الوصول للحقيقة في بحث دؤوب شاق، يجعل تفكيره اساسا لأسلوبه، ذلك أن التفكير هو الذي يبدع الدينامية والدرامية في بناء الكلام وأفكار الأديب، والشرقاوي أديب تميز بنتاج ادبي – رغم تنوعه – يكشف عن هذا السعي الحثيث للكشف عن الحقيقة، سواء توسل بالشعر أو القصة او المسرحية النثرية والشعرية، أو الدراسة الادبية". (7).

كان عبد الرحمن الشرقاوي علامة من علامات الثقافة العربية المعاصرة، التي نفتقد ملامحها هذه الأيام، انتمى لليسار المصري منذ شبابه، وتولّع بكتاب رأس المال ونهج البلاغة واعترافات جان جاك روسو، وأُغرم بكتاب فولتير في التسامح ومقدمة ابن خلدون ولزوميات المعرّي، فأصبح يشرحها لقرّاء مقاله الأُسبوعي في مجلة روز اليوسف، يكتب في إحدى هذه المقالات الممتعة أنه " في قريته الصغيرة في محافظة المنوفية، كانت أُمه تحدّثه عن صلابة عمر وعدل عليّ، وكان حديثها عن تضحية الحسين يسحره، فيجد في كلماتها تعبيراً حقيقياً عن آلام الناس ومعاناتهم " ؛ ويضيف " بعد أن ضاقت بنا سُبل التقدم والرفاهية والاستقرار، ويفتك بعضنا بالآخر، والناس، ارتأيت أن أكتب شيئاً عن ذلك وطبعاً كنت قد قرأت نهج البلاغة وعشت محنة علي بن أبي طالب وتأثرت به فوجدته (8).

ويلخص الشرقاوي أهم محطات ومراحل تكوينه الفكرى والأدبى فيقول:" قرأت القرآن وتفاسيره ورأيت فيه استجابة لأشواق الإنسان إلى العدل ولعنة شديدة على الظلم.. وأول ما أحببته من القراءة شعر الشعراء الصعاليك العرب وعندما درست اللغات الأجنبية أحببت الشعراء الصعاليك الأجانب لأن أدب الصعاليك يمثل صرخة احتجاج على الظلم وتمرداً على الأوضاع الجائرة. كما استهواني الفكر الإنساني الذي يتحدث عن قضايا حق الإنسان في ممارسة العدل وأن يحيا سعادته وأن يحقق بعمله كل أحلامه وأن يمنحه المجتمع الحب والفضائل. وفى الفكر العربى استهوانى الثوار من أيام على بن أبى طالب أولئك الذين كان لديهم الطموح في أن يحولوا الدنيا إلى جنة للحب والإخاء وأن يجعلوا شرف الإنسان أقوى من كل شيء وأن يرتفعوا فوق الطمع والخوف.. وفى هذا الإطار أيضا بهرنى فكر المعتزلة والمتصوفة وشخصية الحسين وشعر المعرى والمتنبي - وثوريات طه حسين واقتحامات توفيق الحكيم وتفتح إسماعيل أدهم وإسماعيل مظهر وكتابات سلامة موسى عن الاشتراكية والأدب ونظريات محمد مندور المتطورة في نقد الشعر. أما في الفكر الأجنبي فقد استهوانى ماركس وكتابات لينين وتمرد فرانسوا فيون وصلابة فيكتور هوجو وتمرد شكسبير وأحلام الرومانتيكيين بيرون - شيللى - بلزاك - ديكنز - شو - توماس مان.. كما بهرتنى كتابات بوشكين - دوستوفيسكي - تولستوي- تشيكوف - غوركي - أراغون - هيمنجواى – لوركا وهناك من المفكرين والأدباء من يدفعك إلى اتخاذ موقف آخر مثل جويس - إليوت - سارتر – كاموظلت موضوعة العدالة تشغل تفكير عبد الرحمن الشرقاوي ورغم تنقله من الماركسية في بدايات شبابه ونضجه الفكري، إلى الصوفية في أواخر حياته، إلا أن التبشير بفكرة العدالة الاجتماعية ظل يمثل الأساس في معظم كتاباته سواء في الشعر أو الرواية، أو الدراسات النقدية، أو كتب السيرة أو المسرحيات فإنها جميعا يغلب عليها طابع الدفاع عن حق الإنسان في العيش بكرامة، إنه يعبر من خلال كتاباته عن هموم الإنسان، ولعل مجموعة كتبة التي أصدرها خلال حياته التي لم تتجاوز الـ67 عاما إنما هي نموذج رائع للمشاركة الفعالة في التعبير عن التضامن الانساني، بل ان مسرحياته تؤرخ لكثير من الأحداث في حياتنا الاجتماعية والسياسية والفكرية (9).

ولد عبد الرحمن الشرقاوي بقرية الدلاتون محافظة المنوفية شمال القاهرة، بدئ عبد الرحمن تعليمه في كتاب القرية ثم أنتقل إلى المدارس الحكومية حتى تخرج من كلية الحقوق جامعة فؤاد الأول عام 1943م، بدأ حياته العملية بالمحاماة، بعد أن تخرج بكلية الحقوق عام 1943، بجامعة الملك فؤاد الأول، ولكنه هجرها لعشقه للأدب وللكتابة، فعمل في الصحافة في مجلة الطليعة ثم مجلة الفجر، وبعد ثورة 1952، عمل بصحيفة الشعب ثم صحيفة الجمهورية، شغل منصب رئيس تحرير روز اليوسف.ليتفرغ بعدها للكتابة بجريدة الأهرام، كما تولي عدد من المناصب الأخرى منها سكرتير منظمة التضامن الآسيوي الأفريقي وأمانة المجلس الأعلى للفنون والآداب.. وتولى عدداً من المناصب الأخرى منها سكرتير منظمة التضامن الآسيوي الأفريقي، وأمين عام المجلس الأعلى للفنون والآداب.. حصل عبد الرحمن الشرقاوي على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1974 والتي منحها له الرئيس السادات، كما منحه معها وسام الآداب والفنون من الطبقة الأولي.

ومن أهم أعماله وأشهرها رواياته: "الأرض" عام 1954، و"قلوب خالية" عام 1956م، ثم "الشوارع الخلفية" عام 1958م، وأخيرا "الفلاح " عام 1967م. من أعماله المسرحية: "الفتى مهران"،"الحسين ثائراً"، "الحسين شهيدا"، "عرابي زعيم الفلاحين"، له العديد من الكتب المهتمة بالتراث الإسلامي منها محمد رسول الحرية، على إمام المتقين، والفاروق عمر، أئمة الفقه التسعة، عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء، ابن تيمية: الفقيه المعذب، الصديق أول الخلفاء، قراءات فى الفكر الإسلامى"، كما له عدة مؤلفات أخرى منها: رسالة من أب مصرى إلى الرئيس ترومان، دراسات فى جغرافية المملكة العربية السعودية: مدينة بريدة، تمثال الحرية وقصائد منسية، قبل أن يصمت القلم، كما شارك فى سيناريو فيلم الرسالة بالاشتراك مع توفيق الحكيم وعبد الحميد جودة السحار.

وقد تأثرت كتابات الشرقاوي في قوالبها الأدبية المختلفة، بالتغيرات الاجتماعية الحادة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وركزت قصصه على حتمية العدالة الاجتماعية، وهموم الريف المصري ومشكلاته من فقر وجهل وتمييز. بشر الشرقاوي بالثورة، وعول عليها في حل أزمات المجتمع، هاجم الطبقية والتمييز الذي كان يسيطر على مصر قبل ثورة يوليو 1952، واشتبك مع طبقة رجال الدين الذين يظهرون الورع ويخفون الجشع، ووضع يديه على مظاهر الظلم والاستبداد، وأكد أن القوى الإقطاعية الظالمة كانت ولا تزال حينها تتحكم في أقدار الفلاحين، الذي انتمى إليهم وخبر مظالمهم بحكم النشأة (10).

ولما كانت التي نشأ فيها الشرقاوي أثر في تكوين شخصيته، فلقد كانت نشأته الريفية ورؤيته لأوضاع الفلاحين، ومتاعبهم، والمظالم التي يتعرضون لها حافزاً له للكتابة عن حياة هؤلاء وتصوير معاناتهم، فجاءت رواياته: الأرض، والفلاح، وقلوب خاوية، وشوارع الخليفة أصدق تعبير وأفضل تصوير لأحول الفلاحين وخلافاتهم ومشاجراتهم حول الأرض والرى وعجزهم عن دفع الضرائب وتعرضهم لكرابيج الحكام (11).

ولهذا رأينا رواية الأرض التي كتبها الشرقاوي تعد واحدة من أهم وأشهر الروايات المصرية التى جسدت لفترة الاحتلال، ومأساة الفلاحين فى الريف المصرى فى تلك الحقبة، وتعد ملحمة أدبية خالدة هى رواية "الأرض" للأديب الكبير عبد الرحمن الشرقاوى، الصادرة لأول مرة عام 1954، واعتبرها العديد من النقاد النموذج الأبرز لمذهب الواقعية الاشتراكية؛و"الأرض" هى ملحمة عبد الرحمن الشرقاوى الخالدة، فأبطالها يسكنون ذاكرتنا جميعا، حيث أضافت الأرض كثيرًا إلى الرواية العربية واعتبرها العديد من النقاد النموذج الأبرز لمذهب الواقعية الاشتراكية، قدم فيها "الشرقاوى" القرية المصرية ــ ولأول مرة ــ بعيدا عن النظرة الرومانسية التى صورتها جنة زاهية، ليضع أيدينا على ما كان يصيب الريف وناسه من تناقضات الإقطاع والاحتلال والفساد، التى وصلت بهم إلى حدود الصراع من أجل البقاء (12).. وللحديث بقية.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..........................

الهوامش

1- عمرو أبو العطا: "الكلمة".. تلك الظاهرة البشرية الأولى، جريدة الرؤية، 14 يناير 2021

22:37 م

2-د. علياء محمد أحمد: الإنسان صانع للفن والإنسان صانع للتاريخ: مسرحية الحسين ثائرا "لعبد الرحمن الشرقاوى" بين الفن والتاريخ، فكر وإبداع، رابطة الأدب الحديث، الجزء 100، 2015، ص 155.

3- محمد عبد الرحمن - تصوير السعودى محمود: مثقفون: عبدالرحمن الشرقاوى آمن بالحرية وكان أول من طالب بتجديد الخطاب الدينى، اليوم السابع، الثلاثاء، 10 نوفمبر 2020 10:10 م.

4-المرجع نفسه.

5- المرجع نفسه.

6- محمد البدوي: الأرض والصدى: دراسة نقدية لرواية "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي، دار المعارف، القاهرة، 1997، ص 13.

7- محمد البدوي: الأرض والصدى: دراسة نقدية لرواية "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي، دار المعارف، القاهرة، 1997، ص 13.

8-علي حسين: عبد الرحمن الشرقاوي ومعركة الحسين ثائراً، رسالة النيل، 9/19/2019.

9- المرجع نفسه.

10-محمد سعد عبد الحفيظ: عبد الرحمن الشرقاوي.. صاحب «الأرض» إمام المتمردين، منوعات، ديسمبر 12, 2018 2٬361 7 دقائق

11- د. علياء محمد أحمد: المرجع نفسه، ص 156.

12- محمد عبد الرحمن: 100 رواية مصرية.. "الأرض" ملحمة عبد الرحمن الشرقاوى عن الثورة والحب، اليوم السابع، الأحد، 04 أكتوبر 2020 07:00 ص.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم