صحيفة المثقف

منى زيتون: أثر استخدام مدخل الذكاءات المتعددة في تدريس العلوم على ما وراء الذاكرة

منى زيتونلدى تلميذات الصف الثاني الإعدادي*

مقدمة: يعد التذكر مرآة التعلم، حيث أن التذكر هو السلوك الذي يحدد لنا حدوث عملية التعلم، فالذاكرة عملية معقدة ومتفاعلة تكون متطلبة لحدوث التعلم، وبدون مهارات ذاكرة جيدة تنشأ مشاكل تعلم عديدة. ولقد كان الاهتمام بدراسة ما وراء الذاكرة لكونه واحدًا من الأساليب المعرفية للتعلم، حيث لا يكون الاهتمام منصبًا فقط على تذكر المعلومات، بل يتعداها إلى دراسة كيفية اكتساب الفرد للمعلومات وتخزينها واسترجاعها، وقدرته على تقدير صعوبة/سهولة مهام التذكر، وعلى ملاحظة التقدم عند إدخال المعلومات بالذاكرة، وكذلك قدرته على تنظيم المعلومات بذاكرته؛ واختياره أفضل استراتيجية أثناء تنفيذ مهام التذكر. ولا زال أغلب المعلمين في عالمنا العربي يوجهون جهودهم فقط إلى تنمية التذكر والاسترجاع، ولا يتعدون ذلك إلى السعي إلى التوصل لفعالية في تعلم المادة الدراسية وإتقانها، والذي يتحقق من خلال تنمية مكونات ما وراء الذاكرة.

ومن المعروف أن التذكر هو إظهار الدلالات على التأثر بشيء في الماضي، وقد يكون التذكر كاملًا وتامًا للخبرة السابقة وهو ما يسمى الاستدعاء recalling، كما قد يكون التذكر مجرد التعرف على شيء لسابق خبرة في الماضي، ولا يكون التذكر هنا تامًا بل يكون مجرد شعور بأن هذا الشيء مألوف ومر بخبرة الفرد في الماضي وهو ما يسمى التعرف recognizing. وفي هذا الشأن يذكر رادفانسكي (Radvansky, 2006) أن الشعور بالمعرفة Feeling of Knowing (FOK) –وهو أحد ظواهر ما وراء الذاكرة- يحدث عندما يشعر الفرد أن لديه شيئًا في ذاكرته لا يمكن أن يُستدعى لكن يمكن التعرف عليه إذا رُؤي.

وإذا كانت القدرة التذكرية هي تكوين فرضي مسئول عن أساليب النشاط المتعلقة بالاستدعاء والتعرف، فإنه من المعروف وجود ثلاث عمليات شائعة في منظومة الذاكرة وهي (التشفير- التخزين- الاسترجاع). ويقصد بالتشفير العملية الخاصة باتخاذ قرار حول طريقة تصنيف المعلومات، والتي يتم بواسطتها تكوين آثار الذاكرة، وتعمل على بقاء المعلومات بالذاكرة، أما التخزين فهو عملية حفظ المعلومات في الذاكرة، والعملية الثالثة وهي الاسترجاع هي القدرة على تكرار الاستجابة، وتُسترجع المعلومات من الذاكرة طويلة المدى باستمرار، ويتم هذا الاسترجاع إراديًا ولا إراديًا (عادل العدل، 1992، ص ص 179- 180).

إن المثير يُلتقط بواسطة مستقبلات الحس ويتحول للمخ من أجل التخزين، وهذا النظام التخزيني يقسم الذاكرة –وفقًا لنموذج أتكنسون و شيفرين (Atkinson & Shiffrin, 1968 as cited in John, 1993, p.4)- إلى ذاكرة حسية وذاكرة قصيرة المدى وذاكرة طويلة المدى. وتعرف مادلين بيرلي آلن (ترجمة 2006) الذاكرة بأنها مهارة ومنظومة لمعالجة المعلومات، وتتكون من ثلاث وظائف أساسية حيث تُقسم الذاكرة وفقًا لعمليات التخزين إلى:

1-ذاكرة حسية ناقلة sensory memory تستقبل معلومات من الأعضاء الحسية (الحواس) وتحتفظ بها (لمدة لا تزيد عن خمس ثوان)، لذا لا بد من نقلها إلى مستودع آخر. ويذكر جون (John, 1993, p. 4) أن هذه الذاكرة تحمي نظام معالجة المعلومات من أن يصبح مزدحمًا بمثيرات غير متعلقة.

2-الذاكرة قصيرة المدى short-term memory (STM) تستقبل المعلومات من الحس الناقل حتى تحدث عملية ذهنية واعية، وفي هذه الذاكرة تتم معالجة المعلومات فإما أنها تحذف من الذاكرة القصيرة الأجل أو أنها ترسل إلى الذاكرة طويلة المدى، وعادة عندما لا يتم نقل المعلومات إلى الذاكرة طويلة الأجل خلال خمس عشرة ثانية فإن المعلومات تُنسى. يذكر جون (John, 1993, p. 5) أنه نظرًا لأن المعالجة الواعية النشطة للمعلومات تحدث في الذاكرة قصيرة المدى فإنه غالبًا ما يُشار إليها بالذاكرة العاملة working memory. بالرغم من ذلك وجد ميللر (Miller, 1956 as cited in John, 1993, p.5) أن سعة هذه الذاكرة محدودة 7 (±2) أجزاء من المعلومات في المرة الواحدة.

3-الذاكرة طويلة المدى long-term memory (LTM) وهي الذاكرة التي يتم خزن المعلومات فيها على المدى البعيد. وهي ذات سعة غير محدودة؛ لذا لابد من تنمية وتطوير هذه الذاكرة وتدريبها على خزن واسترجاع المعلومات بشكل سريع وقوي. ويذكر رجاء أبو علام (2003 ب، ص 348) أنه مما يميز الذاكرة طويلة المدى عن الذاكرة قصيرة المدى هو قدرتها على تنظيم المعلومات ما يساعدها على الاحتفاظ بها فترات طويلة، ويسهل على الفرد استرجاعها عندما يريد.

ويقترح لوكل وشنايدر (Lockl & Schneider, 2007, p.p. 149-150) سلسلة من الخطوات الارتقائية من أجل الفهم المتزايد لعمليات ومحتويات الذاكرة. وكخطوة أولى في هذه السلسلة قد يحتاج الأطفال مفهوم المعرفة؛ ذلك إنهم يجب أن يفهموا أن حالات المعرفة تعتمد على التجربة الغنية بالمعلومات المفيدة. ثم كخطوة ثانية بعد اكتسابهم هذا المفهوم، قد يبدأ الأطفال في اكتساب فهم كامل لمفاهيم ذاكرة معينة، والتي قد تصبح واضحة في فهمهم المتزايد لأفعال عقلية مثل "يتذكر" أو "ينسى". أما الخطوة الثالثة -أو ربما بشكل متزامن- فبينما يكتسب الأطفال إدراكًا لذكرياتهم وذكريات الآخرين، فإنهم ربما أيضًا يكتسبون فهمًا أعمق للكيفية التي تعمل بها ذاكرتهم، وأي المتغيرات تؤثر على الذاكرة. على سبيل المثال: إنه قد يكون أصعب تذكر مفردات عديدة من تذكر مفردات قليلة فقط. وهنا تظهر ما وراء الذاكرة metamemory في الخطوة الثالثة.

فإذا كان التذكر هو القدرة على تشفير وتخزين المعلومات في الذاكرة، ثم استرجاعها وقت الحاجة إليها، وإذا كانت الوظيفة الكبرى للذاكرة هي معالجة المعلومات، فإن ما وراء الذاكرة  metamemory هو مصطلح يُقصد به معرفة كيف تعمل ذاكرتك، وأن تكون قادرًا على المراقبة والتنظيم الذاتي لأنشطة ذاكرتك. وتمد ما وراء الذاكرة بخلفية هامة للتلميذ الذي يكون مهتمًا بمراقبة تعلمه في جهد لإحراز أهداف مرغوبة والوصول لإمكانية تعليمية تامة.

وتشير نتائج لبعض الدراسات مثل دراسة إمام مصطفى سيد وصلاح الدين حسين الشريف (1990) إلى أن استخدام استراتيجية ما وراء الذاكرة ذو فعالية في تحسين التحصيل الدراسي، ودراسة لوكانجيلي وآخرين (Lucangeli et al., 1995) التي أشارت إلى أن التدريب على ما وراء الذاكرة قد حسَّن التحصيل الأكاديمي لدى التلاميذ ذوي صعوبات التعلم. كذلك أشارت نتائج دراسة سينكافيتش (Sinkavich, 1991) إلى أن ما وراء الذاكرة كان من أفضل المنبئات بأداء الاختبارات، ودراسته (Sinkavich, 1988) إلى أن التلاميذ الجيدين –كما عرفوا من الدرجات على الاختبار النهائي- ظهر أن لديهم دقة أكثر في ما وراء الذاكرة مما لدى التلاميذ الضعاف. كما أشارت نتائج دراسة منال شمس الدين (2005) إلى وجود علاقات ارتباطية موجبة دالة (تراوحت معاملاتها بين 0.417 و 0.618) بين مكونات ما وراء الذاكرة (الوعي والتشخيص والمراقبة والتنظيم واستراتيجية ما وراء الذاكرة) والتحصيل الدراسي، كما وجدت الباحثة فروقًا دالة إحصائيًا بين التلميذات مرتفعة ومنخفضة التحصيل الدراسي في مكونات ما وراء الذاكرة، حيث كانت متوسطات درجات مكونات ما وراء الذاكرة للتلميذات مرتفعة التحصيل الدراسي أعلى من نظيراتها للتلميذات منخفضة التحصيل الدراسي. وأظهرت نتائج دراسة ليل (Leal, 1987) علاقة موجبة بين أداء الفصل الدراسي والاستخدام المنصوح به لطلاب الجامعة للاستراتيجية التنظيمية عندما خططوا للدراسة من أجل مهمة استدعاء حر.

في عام 1983 قدم هوارد جاردنر Howard Gardner   نظريته للذكاءات المتعددة Multiple Intelligences Theory، والتي صنَّف فيها القدرات العقلية إلى ثمانية ذكاءات تعبر عن القدرات العقلية المختلفة للأفراد (ذكاء لفظي- ذكاء منطقي/رياضي– ذكاء بصري/مكاني– ذكاء جسمي/حركي– ذكاء موسيقي– ذكاء طبيعي– ذكاء تفاعلي– ذكاء شخصي)، وقد لاقت تلك النظرية اهتمامًا كبيرًا من علماء النفس المعرفيين منذ بزوغها، وعلى عكس الكثير من نظريات الذكاء كان لهذه النظرية الكثير من التضمينات التربوية التي نتجت عنها تباعًا، حيث يرى جاردنر أن تعلم فروع المعرفة يمكن أن يتم بأكثر من طريقة في ضوء فهمنا للذكاءات المتعددة، كما يمكن أن يتم تقويم تعلم التلاميذ بأكثر من طريقة.

ويذكر رجاء أبو علام (2003 ب، ص 349) أن النسيان يكون سريعًا بالنسبة للأشياء التي لا معنى لها أو الأشياء المنعزلة غير المترابطة، في حين أن الحفظ يكون أكبر وأكثر ثباتًا بالنسبة للمادة ذات المعنى وبخاصة إذا كانت مشوقة، وهو ما يوفره مدخل الذكاءات المتعددة في التدريس.

هذا وتشير الدلائل إلى أنه حتى أطفال ما قبل المدرسة يكون لديهم فهم أساسي للذاكرة، ويمكن أن يظهروا ما وراء ذاكرة دقيقة، وأن بعضًا من ما وراء الذاكرة التقريرية (التصريحية) تتطور بالفعل أثناء سنوات ما قبل المدرسة (Kreutzer et al., 1975; Wellman, 1977 as cited in Lockl & Schneider 2007)   ، إلا أنه بالرغم من ذلك فإنه يطرأ تحسن على ما وراء الذاكرة بينما ينضج الأطفال.

كما تشير الدراسات إلى أنه من الممكن أن يطرأ تحسن على الذاكرة وما وراء الذاكرة باستخدام استراتيجيات تدريسية ترتبط بالمحتوى الدراسي الذي يدرسه التلاميذ، وبالرغم من وجود بعض الدراسات التي استخدمت استراتيجيات مباشرة لتنمية ما وراء الذاكرة لدى التلاميذ، مثل دراسة مختار الكيال (2006)، فقد رأت الباحثة من خلال تطبيقها لمدخل الذكاءات المتعددة في بحثها للدكتوراة -العام الدراسي 2006/2007- أنه يمكن أن يمثل استراتيجية تدريب غير مباشرة لتنمية مكونات ما وراء الذاكرة؛ حيث لاحظت الباحثة أن هذا المدخل قد رفع مستوى الانتباه لدى التلاميذ والتلميذات –عينة دراسة الدكتوراة- نظرًا لتنوع الأنشطة التدريسية ما زاد من سعة الذاكرة، كذلك لاحظت الباحثة أنه نظرًا لاعتماد الأنشطة المعرفية المتنوعة بهذا المدخل التدريسي على الذاكرة العاملة، لكونها المسئولة عن تشفير المعلومات بأشكالها المختلفة موسيقية ولغوية ومنطقية/رياضية و....... ومن ثم تحويلها إلى الذاكرة طويلة المدى، فقد أدى ذلك لارتفاع مستوى التحصيل الدراسي لدى عينة دراسة الدكتوراة، وذلك وفقًا لنتائج تحصيل عينة تلك الدراسة، كما اتضح لدى التلاميذ زيادة الوعي بقدرات الذاكرة وبالطرق التي يتذكرون بها المعلومات –وهو يمثل أحد مكونات ما وراء الذاكرة- حيث قرر أفراد العينة أن قدرتهم على تذكر المعلومات قد ارتفعت، وأن استدعاءها أيضًا صار أسهل، وذلك وفقًا لما قرره التلاميذ والتلميذات في المقابلات التي قامت بها الباحثة معهم بعد انتهاء دراسة الدكتوراة، وتلك المقابلة التي قامت بها إحدى مذيعات التليفزيون في أحد البرامج الثقافية مع 10 من التلميذات، كما كان التلاميذ قادرين وبسهولة على تذكر تفاصيل المحتوى المعرفي الذي درسوه باستخدام مدخل الذكاءات المتعددة في مقابلة أجرتها معهم الباحثة في نهاية الفصل الدراسي الثاني من العام الدراسي 2006/2007، أي بعد انتهاء التدخل التجريبي بأربعة أشهر. ونظرًا لما سبق فإن الدراسة الحالية قد هدفت إلى تطبيق مدخل الذكاءات المتعددة لتدريس العلوم لمدة عام دراسي كامل لتحديد أثر ذلك المدخل التدريسي في ما وراء الذاكرة ومكوناته لدى التلميذات.

وتتفق تلك الرؤية مع ما ذكره عزو عفانة ونائلة الخزندار (2007، ص 125) من أنه نظرًا لتأخر نمو المهارات فوق المعرفية وبطئه، فإنه يحسن التعامل معها بصورة غير مباشرة حتى مستوى المرحلة الأساسية العليا (الإعدادية) (المتوسطة)، ثم يمكن تناولها وتعليمها بصورة مباشرة خلال سنوات الدراسة الثانوية. كذلك أشارت نتائج بعض الدراسات إلى تأخر نمو بعض مكونات ما وراء الذاكرة لدى التلاميذ الصغار، على سبيل المثال أشارت نتائج دراسة دي ماري وفيرون (DeMarie & Ferron, 2003) إلى عدم وجود دليل كاف على عامل ما وراء الذاكرة للأطفال الأصغر سنًا (أعمارهم تتراوح بين 5: 8 سنوات) مقارنة بالأطفال الأكبر سنًا (أعمارهم تتراوح بين 8: 11 سنة). كما أشارت نتائج دراسة جيتي وآخرين (Ghetti et al., 2008) إلى أن الأطفال في عمر السابعة مقارنة بمن في عمر العاشرة والبالغين أظهروا عجزًا في مراقبة الفروق في قوة الذاكرة للحوادث المتخيلة، وعجزًا في مراقبة غياب الذاكرة. وفي دراسة أوسوليفان (O'Sullivan, 1996) التي فحصت الفروق في ما وراء الذاكرة لدى تلاميذ الصفوف الأول والثالث والخامس، وتأثير العلاقات المفاهيمية على الاستدعاء الحر لقائمة من الكلمات من تصنيفين، وقائمة من الكلمات ليس بها علاقات، وجدت الباحثة أن الأطفال الأكبر سنًا عزوا الاستدعاء الأفضل للمادة ذات العلاقة للعلاقات التصنيفية، وقرروا استراتيجيات تنظيمية للتصنيفات، وأظهروا زيادة في الوعي بالتأثيرات المسهلة للعلاقات المفاهيمية على الجهد المعرفي.

ومن ثم اُختيرت مرحلة المراهقة المبكرة –وتحديدًا تلميذات الصف الثاني الإعدادي- لتطبيق البرنامج التدريسي المعد في ضوء استراتيجية الذكاءات المتعددة بهدف تنمية ما وراء الذاكرة ومكوناته لديهن.

مشكلة الدراسة

تظهر نتائج البحث التربوي أن استخدام قنوات تعليمية متنوعة لإدخال المعلومات يسهم في ازدياد سعة الذاكرة العاملة المؤثرة. وتؤكد نظرية الذكاءات المتعددة على ضرورة تنويع أساليب التدريس والتقويم، وأن تتنوع بتنوع الذكاءات المتعددة للمتعلمين، وبما أن الذاكرة القوية تساعد على التفوق الدراسي، والذاكرة شأنها شأن أي متغير من المتغيرات النفسية قابلة للنمو بتأثير استخدام استراتيجيات تدريس تعمل على تحسينها، وبما أن الاهتمام في مجال علم النفس أصبح يتعدى تحسين الذاكرة إلى تحسين قدرتنا على التفكير في الذاكرة أو ما أصبح يُعرف بـ "ما وراء الذاكرة"؛ حيث استنتج بريسلاي وشنايدر (Pressley & Schneider, 1997 as cited in Eriksson, 2000) أن أبحاث ما وراء الذاكرة الحديثة أظهرت أن مقاييس ما وراء الذاكرة هي منبئات قوية للأداء، وأن ما وراء الذاكرة تعلو من حيث الأهمية سلوك وأداء الذاكرة، ومن ثم فإن معرفة الطفل عن ذاكرته –ما وراء الذاكرة- يبدو أنها تؤثر على السلوك الاستراتيجي الذي تباعًا يتنبأ بأداء الذاكرة؛ لذا فقد عُنيت هذه الدراسة بالبحث في إمكانية تنمية ما وراء الذاكرة باستخدام مدخل الذكاءات المتعددة في التدريس.

ومما سبق تتحدد مشكلة الدراسة الحالية في التعرف على الفروق في ما وراء الذاكرة ومكوناته بين تلميذات الصف الثاني الإعدادي اللاتي درسن مادة العلوم باستخدام مدخل الذكاءات المتعددة واللاتي درسن بالطريقة التقليدية.

الإطار النظري والدراسات السابقة

يرى عبيد وعفانة (2003، ص ص 107: 108 في عزو عفانة ونائلة الخزندار، 2007، ص 121) أن عمليات ما وراء المعرفة تأتي على قمة مكونات المنظومة المعرفية، ويعرف جابر عبد الحميد (1999، ص 329 في عزو عفانة ونائلة الخزندار، 2007، ص 123) ما وراء المعرفة على أنها معرفة الفرد بعملياته المعرفية والأنشطة الذهنية وأساليب التعلم والتحكم الذاتي المستخدم في عمليات التذكر والفهم والتخطيط والإدارة وحل المشكلات.

ويفصِّلها جابر عبد الحميد (2008، ص 25) حين يذكر أن مصطلح ما وراء المعرفة يشير إلى معرفة الفرد بعملياته المعرفية ونواتجه أو أي شيء يتصل بها... على سبيل المثال "أنا مندمج في ما وراء المعرفة، ما وراء الذاكرة، ما وراء التعلم، ما وراء الانتباه، ما وراء اللغة.. الخ" إذا لاحظت أني أجد صعوبة أكبر في تعلم "أ" عن تعلم "ب"، وإذا خطر على عقلي أنني ينبغي أن أراجع مرة أخرى "ج" قبل أن أقبلها كحقيقة، وإذا أدركت أن من الأفضل بالنسبة لي أن آخذ مذكرة عن "د" لأني قد أنساها. إن الميتامعرفية تشير من بين أشياء أخرى إلى المراقبة النشطة وما يترتب على ذلك من تنظيم لهذه المعلومات وتنسيق أو تناغم بينها عادة في خدمة هدف عياني ومحسوس.

ويمكن القول إن لما وراء الذاكرة نتائج هامة تتصل بالكيفية التي يتعلم بها الناس، ويستخدمون ذاكرتهم، على سبيل المثال.. عند المذاكرة يقوم التلاميذ بعمل أحكام عما إذا كانوا قد تعلموا المادة المخصصة بنجاح، ويستخدمون تلك القرارات والتي تُعرف باسم أحكام التعلم Judgments of Learning لكي يوزعوا وقت المذاكرة  (Nelson & Narens, 1990).

والمتتبع لمفهوم ما وراء الذاكرة في التراث السيكولوجي يجد أن هذا المفهوم قد قُدم لأول مرة منذ أوائل السبعينات على يد جون فلافل (John Flavell, 1971)، حيث يذكر ناوشاد بي بي (Noushad P P, 2008, p.1) أن هذا المصطلح كان سابقًا على مصطلح ما وراء المعرفة metacognition الذي قدمه العالم نفسه –فلافل Flavell- في نهاية السبعينيات. ويمكن للباحثة -من مراجعة الأدبيات المختلفة في المجال- القول إن فلافل قد توصل إلى مفهوم ما وراء المعرفة من خلال البحث في عمليات الذاكرة.

غير أنه على حداثة مفهوم ما وراء الذاكرة فإنه بإمكاننا أن نجد جذورًا لهذا المفهوم في تراث علم النفس والفلسفة، على سبيل المثال تحدث الفيلسوف ديكارت Descartes عن عملية التفكير بالتفكير (Metcalfe, 2000, p.197). وفي أواخر القرن التاسع عشر تأمل براون وجيمس (Browne & James as cited in Cavanaugh & Perlmutter, 1982) –لكن لم يتحققا تجريبيًا- العلاقة بين أحكام الذاكرة وأداء الذاكرة. كما يمكن أن نجد في كتابات جون لاك (John Locke, 1924 as cited in Noushad P P, 2008, p.2) استخدامًا لمصطلح "انعكاس reflection" ليشير إلى فهم حالة عقولنا الخاصة أو الملاحظة التي يعطيها العقل لعملياته الخاصة. الاستبطان "تأمل الذات" Introspection هو أيضًا تقنية اُستخدمت من قبل بعض علماء النفس الأوائل لإيجاد الإجابة على الأسئلة النفسية، وكان أيضًا إشارة أولى للاهتمام بالعمليات ما وراء المعرفية. وفي البحث عن أصول ما وراء المعرفة وما وراء الذاكرة ذهب علماء آخرون بعيدًا عن القرن العشرين، فيشيرون إلى افتراض أرسطو أنه بالإضافة إلى الشيء المرئي والمسموع حقيقة يصبح العقل واعيًا بفعل ذلك.

وتذكر فاطمة المدني (د.ت) ومحمد الوطبان (2010) أنه على الرغم من مرور عقود على استخدام مصطلح ما وراء المعرفة Metacognition إلا أنه لا يزال هناك غموض يحيط بهذا المفهوم من حيث ماهيته. ولعل من الأسباب المهمة لهذا الغموض هو وجود أكثر من مصطلح مستخدم حاليًا يعبر عن الظاهرة نفسها فعلى سبيل المثال لا الحصر مصطلح ما وراء الذاكرة Metamemory، ومصطلح ما وراء الفهم Metacomperhension، ومصطلح ما وراء الإدراك Metaperception، ومصطلح التنظيم الذاتي الموجه Self Regulation. وواقع الأمر أن هذه المصطلحات والمفاهيم ليست في حالة تعارض مع مصطلح ما وراء المعرفة ولكنها في الحقيقة من العناصر المكونة لهذا المفهوم.

إن معرفة الفرد بنظام الذاكرة لديه يعد من أحد مكونات نظام أكبر وهو معرفة الفرد بمنظومة تكوين وتناول المعلومات لديه بصفة عامة التي تنمو وتتطور بنمو الفرد كنتيجة لتراكم الخبرات التي يمر بها (عصام علي الطيب وربيع عبده رشوان، 2006، ص 75). وهو ما يشير إليه مختار الكيال (2006، ص 5) إذ يوضح أن المتتبع لمفهوم ما وراء الذاكرة يمكنه التوصل إلى أن هذا المفهوم يعد بعدًا من أبعاد ما وراء المعرفة بصفة عامة. ويتفق بانو وكازنياك (Panuu & Kaszniak, 2005) مع تلك الرؤية إذ يعرفان ما وراء الذاكرة على إنها "أحد مكونات ما وراء المعرفة، تكون حول إمكانيات الذاكرة للفرد، واستراتيجياته التي يمكن أن تساعد الذاكرة، بالإضافة إلى العمليات المتضمنة في المراقبة الذاتية للذاكرة". كذلك يؤيد لوكل وشنايدر (Lockl & Schneider, 2007, p. 148) ذلك المنظور لما وراء الذاكرة باعتبارها أحد أبعاد ما وراء المعرفة ويعرفان ما وراء الذاكرة على أنها: "المعرفة عن الذاكرة، والمهارات التنفيذية المتعلقة بالمراقبة والتنظيم الذاتي لأنشطة الذاكرة الخاصة للفرد".

ولعل التعريف الأشهر لما وراء الذاكرة الذي ينتشر ذكره في كافة الأدبيات إلى الدرجة التي لم يعد من السهل تتبع العالم الذي قدمه، ذلك التعريف الذي ينص على أن ما وراء الذاكرة هي التفكير في التفكير Thinking about thinking. إلا أن هذا التعريف رغم شيوعه في أدبيات علم النفس فإنه تعريف عام لا تتضح منه أبعاد ومكونات هذا التفكير في التفكير، أو مكونات ما وراء الذاكرة.

ويمكن تصنيف التعريفات الكثيرة لمفهوم ما وراء الذاكرة في ثلاث فئات، حيث اهتمت الفئة الأولى منها بمعالجة المكون المعرفي لمفهوم ما وراء الذاكرة، وما يتضمنه من وعي الفرد الذاتي بمنظومة ذاكرته وقدراته وإمكاناته ومدى تقديره لسعة ذاكرته، ومدى وعيه بالمهام التي يؤديها ومتطلباتها وسهولتها أو صعوبتها في المعالجة، وكذلك مدى وعيه بالاستراتيجيات المختلفة وانتقاء الاستراتيجية المناسبة للمهام التي يؤديها وإمكاناته هو. أما الفئة الثانية فقد اهتمت بالمكون التحكمي لمفهوم ما وراء الذاكرة، وما يتضمنه من المراقبة الذاتية لكفاءة عمليات الذاكرة، والتنظيم الذاتي، والتقويم الذاتي. كما اهتمت الفئة الثالثة من التعريفات بتناول كل من المكون المعرفي والمكون التحكمي لما وراء الذاكرة (مختار الكيال، 2006، ص 5).

والمكون المعرفي لما وراء المعرفة -وما وراء الذاكرة باعتبارها جزءًا من منظومة ما وراء المعرفة- أو ما يُعرف بالمعرفة حول المعرفة  Knowledge Of Cognition أو التقدير الذاتي للمعرفة (Self appraisal of cognition)  يمثل الانطباعات الشخصية التي يملكها الفرد عن نفسه فيما يتعلق بقدراته ومحتواه المعرفي، ويتضمن ثلاثة أشكال: المعرفة التقريرية (التصريحية) Declarative والمعرفة الإجرائية Procedural والمعرفة الشرطية Conditional عن المعرفة والاستراتيجيات والمعلومات والعلاقات المتبادلة بينهم والتي تؤثر في المعرفة والتعلم بصفة عامة. وتشير المعرفة التقريرية Declarative إلى معرفة الفرد للاستراتيجيات المختلفة الخاصة بالذاكرة والتفكير وحل المشكلات والفروق بينها، أي معرفة الفرد حول مهاراته ووسائل تفكيره وقدراته كمتعلم، وتتضمن المعرفة الإجرائية Procedural كيفية استخدام وتفعيل الاستراتيجيات المختلفة فهذه المعرفة تختص بعملية التنفيذ أي إنها تعني معرفة الفرد حول كيفية استخدام الاستراتيجيات المختلفة من أجل إنجاز إجراءات التعلم، بينما تتضمن المعرفة الشرطية Conditional معرفة متى يتم استخدام الاستراتيجيات المختلفة ولماذا يتم استخدام استراتيجية معينة ولماذا تكون الإستراتيجية فعالة (Jacobs & Paris, 1987; Marazano et al., 1998; Schraw & Dennison, 1994).

بينما المكون التحكمي لما وراء المعرفة -وما وراء الذاكرة باعتبارها جزءًا من منظومة ما وراء المعرفة- أو ما يُعرف بالتحكم بالمعرفة أو تنظيم المعرفة Metacognitive Control & Regulation أو الإدارة الذاتية للمعرفة Self Management of cognition فهو سلسلة من العمليات العقلية التي تساعد الفرد في تنظيم الجوانب المتعلقة في حل المشكلة، وهناك اختلاف بين العلماء على مكوناته الفرعية؛ إذ يرى البعض أنه يشمل: التخطيط Planning ويعني الاختيار المتعمد لاستراتيجيات معينة لتحقيق أهداف معينة، ووضع الخطط والأهداف وتحديد المصادر الرئيسة قبل التعلم، وإدارة المعلومات Information Management وهي القدرة على استخدام المهارات والاستراتيجيات في اتجاه محدد للمعالجة الأكثر فعالية للمعلومات وتتضمن (التنظيم، والتفصيل، والتلخيص)، حيث يتضمن التنظيم مراجعة مدى التقدم نحو إجراء الأهداف الرئيسية والفرعية وتعديل السلوك إذا كان ضروريًا، والمراقبة الذاتية Monitoring وتعني وعي الفرد بما يستخدمه من استراتيجيات مختلفة للتعلم، والتنقيح (تعديل الغموض) Debugging هو القدرة على استخدام الاستراتيجيات البديلة لتصحيح الفهم وأخطاء التعلم والأداء، والتقويم Evaluation وهو تقدير مدى التقدم الحالي في عمليات محددة ويحدث أثناء مراحل العملية التعليمية، والقدرة على تحليل الأداء والاستراتيجيات الفعالة عقب حدوث التعلم (فاطمة المدني، د.ت)  (Schraw & Dennison, 1994). أي أن المكون التحكمي يتضمن المهارات والأبعاد التنفيذية لما وراء المعرفة وضبط عمليات تجهيز ومعالجة المعلومات، وهناك من يقتصر على أبعاد التخطيط والتقويم والتنظيم عند تحديد الأبعاد التنفيذية لما وراء الذاكرة (Jacobs & Paris, 1987; Marazano et al., 1998). ومن يقتصر على التخطيط والمراقبة والتقويم الذاتي مثل ستيرنبرج (Sternberg, 1988) (في محمد الوطبان، 2010). عند تصنيفه لخبرات ما وراء المعرفة، بينما يحدد بليغ حمدي إسماعيل (2010) استراتيجيات ما وراء المعرفة في استراتيجية التخطيط، واستراتيجية التنفيذ والتنظيم، واستراتيجية المراقبة والتحكم، واستراتيجية التقييم.

وبالرغم من أن أغلب من عرَّفوا ما وراء الذاكرة وحددوا مكوناتها قد ركزوا على المكون التحكمي لما وراء الذاكرة، فإن الباحثة تتبنى وجهة النظر التي ترى ضرورة شمول مفهوم ما وراء الذاكرة لكلا المكونين المعرفي والتحكمي، متفقة في ذلك مع الباحثين الذين ينتمون لهذه الفئة التي تتناول مفهوم ما وراء الذاكرة كمنظومة من المكونات المعرفية والتحكمية، ونذكر منهم فلافل وويلمان (Flavell & Wellman, 1977) (في مختار الكيال، 2006، ص 7: 8) وإمام مصطفى سيد وصلاح الدين حسين الشريف (1999) ومنال شمس الدين (2005) ومختار الكيال (2006) –مع اختلاف المسميات أحيانًا لكن مع الاتفاق في المضمون-، حيث يشير كل من فلافل وويلمان (Flavell & Wellman, 1977) وفلافل (Flavell, 1979) (في محمد الوطبان، 2010) وإمام مصطفى سيد وصلاح الدين حسين الشريف (1999) إلى المكونات المعرفية بكونها مجموعة المتغيرات المرتبطة بالشخص وبالمهمة وبالاستراتيجية، وهي التي تتساوى مع الوعي والتشخيص واستراتيجية ما وراء الذاكرة في نموذج منال شمس الدين (2005).

وتعرف منال شمس الدين (2005، ص ص 12-13) ما وراء الذاكرة Metamemory –وهو التعريف الذي تتبناه هذه الدراسة- على أنها "وعي الفرد بمنظومة الذاكرة لديه وكيفية عملها وعملياتها، وقدرته على تقدير صعوبة مهام التذكر، واختيار وتوظيف الاستراتيجية المناسبة، ومراقبة فعاليتها، وتنظيم معارف الذاكرة" وتقسم مكونات ما وراء الذاكرة إلى خمس مكونات وهي:

1- مكون الوعي Awareness: هو دراية الفرد بقدرات الذاكرة لديه، وكيفية عملها وعملياتها التي تتضمن التشفير والتخزين والاسترجاع.

2- مكون التشخيص Diagnosis: هو قدرة الفرد على تقدير صعوبة/سهولة مهام التذكر من حيث مقدار المادة، والألفة بالمعلومات، وسرعة تقديم المادة، وطريقة تنظيمها.

3- مكون المراقبة Monitoring: هو ملاحظة الفرد لتقدمه عند إدخال المعلومات في الذاكرة، والملاحظة المستمرة لعمليات معالجة وتجهيز المعلومات أثناء تنفيذ المهام، وقدرة الفرد على التنبؤ بالنتائج المحتملة للنشاط العقلي مستقبلًا.

4- مكون التنظيم Regulation: هو قدرة الفرد على تنظيم المعلومات بالذاكرة بالطريقة التي تساعده على تذكرها بصورة أكثر كفاءة، وتقسيم الوقت بمعالجة تنفيذ مهام التذكر سعيًا لتحقيق أفضل أداء ممكن.

5- مكون استراتيجية ما وراء الذاكرة Metamemory Strategy: هو قدرة الفرد على اختيار أنسب القرارات والأفعال التي يقوم بها أثناء تنفيذ مهام التذكر.

ونلاحظ أن المكون التحكمي لما وراء الذاكرة في نموذج منال شمس الدين (2005) يتكون من مكونين فرعيين فقط هما مكونا المراقبة والتنظيم، مع استبعاد التقويم الذاتي الذي يضيفه مختار الكيال (2006) في نموذجه لما وراء الذاكرة، وبذا تتفق المكونات الخمسة في نموذج منال شمس الدين (2005) مع نموذج فلافل وويلمان (Flavell & Wellman, 1977) ونموذج إمام مصطفى سيد وصلاح الدين حسين الشريف (1999)، وهذا هو النموذج الذي تأخذ به الدراسة الحالية.

وقد قام العديد من العلماء (Schwartz, 1994; Hart, 1965 as cited in Radvansky, 2006;  Radvansky, 2006; Gardiner, 1988)  بدراسة ظواهر ما وراء الذاكرة Metamemory Phenomena، وقاموا بتحديدها في أربع ظواهر أساسية هي:

1- أحكام التعلم Judgments of Learning (JOLs): والتي تشمل أحكام سهولة التعلم Ease-of-Learning Judgments وتتم قبل محاولة المذاكرة، حيث يمكن للأفراد أن يقيِّموا كم الدراسة التي ستكون متطلبة لتعلم معلومات معينة مقدمة لهم، وأحكام سهولة التعرف Ease-of-Recognition Judgments والتي تتنبأ بإمكانية التعرف المستقبلي على المعلومات بعد أن تكون قد قُدمت لهم، وأحكام تعلم الاستدعاء الحر Free-Recall Judgments of Learning والتي تتنبأ بإمكانية الاستدعاء الحر المستقبلي للمعلومات.

2- أحكام الشعور بالمعرفة Feeling of Knowing Judgments (FOK): تشير إلى المشاعر التي تكون للفرد بخصوص معرفته بموضوع معين، وإذا ما كانت تلك المعرفة توجد أو لا توجد في الذاكرة. ولا تركز أحكام الشعور بالمعرفة على الإجابة الفعلية للسؤال، لكن بدلًا من ذلك تركز على ما إذا كان الفرد يعرف أو لا يعرف الإجابة الصحيحة.

3- معرفة أنك لا تعرف Knowing that you don't know: تشير إلى وعي الفرد بحقيقة أنه لا يعرف معلومات معينة، فيرد بشكل تلقائي أنه لا يعرف؛ ذلك أنه ليس من الضروري أن يمر بعملية محاولة إيجاد الإجابة في الذاكرة، لأنه يعرف أن تلك المعلومات لن تُتذكر أبدًا.

4- يتذكر مقابل يعْرِف Remember vs. Know: تقوم هذه الظاهرة على أساس فهم الاختلافات بين تذكر شيء ومعرفة شيء؛ حيث أنه إذا كانت المعلومات حول سياق التعلم ترافق الذاكرة فهي تسمى خبرة (تذكر)، بينما إذا كان الشخص لا يتذكر شعوريًا السياق الذي تعلم فيه قطعة خاصة من المعلومات، ولديه فقط الشعور بالألفة تجاهها فإنها تسمى خبرة (معرفة).

إن عمليات ما وراء الذاكرة تساعد الفرد على التعلم بنجاح، وتعمل على تنفيذ العمليات المعرفية من حيث التخطيط لتعلم مهمة ما، ومراقبة عمليات الفهم، وتقييم مدى التقدم نحو تحقيق التعلم، ولا يقتصر ارتباط عمليات ما وراء الذاكرة فقط بالتعلم، وإنما ترتبط على نحو وثيق أيضًا بالذكاء. كما يذكر دوغلاس هاكر (Douglas Hacker, 2002) (في بليغ حمدي إسماعيل، 2010) أن الاهتمام قد تطور بمفهوم ما وراء المعرفة في عقد الثمانينيات والتسعينيات، ولا يزال يلقى الكثير من الاهتمام نظرًا لارتباطه بنظريات الذكاء والتعلم واستراتيجيات حل المشكلة واتخاذ القرار.

في عام 1983 قدم هوارد جاردنر Howard Gardner نظرية الذكاءات المتعددة Multiple Intelligences في كتابه "أشكال من العقل.. نظرية الذكاءات المتعددة" "Frames of Mind.. The Theory of Multiple Intelligences"  والذي بدت فيه نظريته مختلفة تمامًا عن النظريات العاملية؛ إذ تضع نظرية الذكاءات المتعددة تعريفًا واسعًا للذكاء، فيعرفه جاردنر

 (Gardner, 1983 as cited in Kallenbach and Viens, 2001; Gardner, 1983 as cited in Torff and Gardner, 1999, p.140; Gardner, 1983 as cited in Tapping into Multiple Intelligences page, n. d.; Gardner, 1997 in Chekley, 1997; Gardner as cited in McKenzie, 1999) وجاردنر وهاتش (Gardner and Hatch, 1989 as cited in Brualdi, 1996)

بأنه "القدرة على حل المشكلات أو تكوين المنتجات التي تكون ذات قيمة في ثقافة أو أكثر"، كما يذكر جاردنر (ترجمة محمد العقدة، 1997، ص 396) أن الذكاء هو قدرة سيكولوجية (نفسية) وبيولوجية (حيوية) كامنة، وأن هذه القدرة الكامنة يمكن أن تتحقق بدرجات متفاوتة نتيجة عوامل خبراتية وثقافية ودافعية تؤثر على الفرد. ثم عدّل جاردنر (Gardner, 1999, p.34) تعريف الذكاء ليصبح كالآتي: "هو إمكانية نفس حيوية لمعالجة المعلومات التي يمكن تنشيطها في بيئة ثقافية لحل المشكلات، أو ابتكار المنتجات ذات القيمة في ثقافة ما". وجاءت نظرية جاردنر لتوسع تلك النظرة التقليدية للذكاء ولتؤكد على أن كل الناس يمتلكون ثمانية أنواع منفصلة من الذكاء (ذكاء لفظي/لغوي- ذكاء منطقي/رياضي–  ذكاء بصري/مكاني–  ذكاء جسمي/حركي–  ذكاء موسيقي–  ذكاء طبيعي–  ذكاء تفاعلي–  ذكاء شخصي).

وتعرف الباحثة (منى زيتون، 2007، ص ص 28: 34) هذه الذكاءات –استنادًا لما ذكره العديد من الباحثين (أحمد أوزي، د.ت)

 (Armstrong, 2003; Brualdi, 1996; Christison & Kennedy,1999; Gardner, 1997 in Checkley,1997, p. 12; Gardner, 1999 as cited in Carlson- Pickering, 2001; Garrigan and Plucker, 2001; Hoerr, 2000; Lynn Gilman, 2001; Prescott, 2001, p. 3 as cited in Holmes, 2002; Tapping into Multiple Intelligences, n. d.; Torff and Gardner, 1999,p.143-144)-.

- الذكاء اللفظي/اللغوي: هو القدرة على استخدام اللغة المنطوقة والمكتوبة –لغتك الأصلية وربما لغات أخرى- للتعبير عما يدور في الذهن –نثرًا أو شعرًا- ولفهم الآخرين ولتذكر الأشياء والمعلومات.

- الذكاء المنطقي/الرياضي: هو القدرة على التعامل مع الأرقام والكميات والعمليات، والإقناع بالحجة والمنطق، والتفكير بطريقة استنتاجية منطقية، واستخدام وتقدير العلاقات العددية والسببية والمجردة والمنطقية.

- الذكاء البصري/المكاني: هو القدرة على تعرف التكوين والمسافة واللون والخط والشكل، وعلى توضيح الأفكار البصرية والمكانية بيانيًا، كذلك القدرة على تصور العالم المكاني داخل العقل –هذا العالم المكاني قد يكون واسعًا يعكس وضعنا المادي في الفراغ وقدرتنا على الإبحار والاستكشاف أو يكون أكثر محدودية-، والقدرة على معالجة العلاقات المكانية (الفراغية) واستخدام الخيال.

- الذكاء الجسمي/الحركي: هو القدرة على استخدام القدرات العقلية للفرد لتنسيق حركات الجسم الذاتية واستخدام الجسم –بالكامل أو أجزاء منه- للتعبير عن الأفكار والمشاعر ولحل المشكلات ولصناعة بعض المنتجات والقيام ببعض الأعمال.

- الذكاء الموسيقي: هو القدرة على التفكير في الموسيقى، وعلى سماع أساليب مختلفة الشكل من التأليف الموسيقي وتعرفها وتذكر الإيقاع وطبقة الصوت واللحن، وربما أداءهم، والانفعال بالآثار العاطفية لهذه العناصر الموسيقية، وكذلك القدرة على التكوين والخلق الموسيقي.

- الذكاء الطبيعي: هو القدرة على التعرف والتمييز بين الأشياء الحية (النباتات- الحيوانات)، بالإضافة إلى الحساسية للملامح الأخرى من العالم الطبيعي (السحب- أشكال الصخور)، كذلك القدرة على تصنيف النباتات والحيوانات والمعادن، ويمكن أن نضيف إلى ذلك في مجتمعاتنا الحديثة القدرة على التعرف والتمييز بين الأشياء التي يصنعها الإنسان مثل السيارات والأحذية المطاطية وأمثالها، وأخيرًا.. القدرة على الفهم والعمل في العالم الطبيعي.

- الذكاء التفاعلي: هو القدرة على تعرف وفهم مشاعر ودوافع وأهداف واعتقادات ونوايا ورغبات الآخرين، والتمييز بينها، والاستجابة لها، ومن ثم العمل مع الآخرين.

- الذكاء الشخصي: هو القدرة على امتلاك الفهم لنفسك، ومعرفة من أنت، وماذا يمكنك عمله، وماذا تريد أن تفعل، وكيف تتفاعل مع الأشياء، وأي الأشياء تتجنب، وأي الأشياء تنجذب إليها، وتعرُف المتشابهات والاختلافات في نفسك عن الآخرين، وأن تكون متلائمًا مع المشاعر الداخلية والقيم والمعتقدات وعمليات التفكير، وتستخدم تلك المعلومات لضبط حياتك الشخصية واتخاذ قرارات. إنه الذكاء الذي يُمكِّن الأفراد أن يُكوِّنوا نموذجًا عقليًا عن أنفسهم يتفهمون من خلاله مشاعرهم ودوافعهم الذاتية، ويعتمدون عليه في كل ما يخص حياتهم.

وقد تميزت نظرية جاردنر عن باقي نظريات الذكاء بتضميناتها التربوية؛ إذ يذكر جاردنر أن المتعلمين يمكنهم التعلم بطرق عديدة تتنوع بتنوع الذكاءات، ويوضح أرمسترونج (Armstrong, 2000) أن المعلمين اليوم يتعلمون كيف يقدمون المادة خلال تشكيلة من القنوات التعليمية متضمنة بصريات وموسيقى ووسائط متعددة وتعليم عن طريق الفريق وعروض عملية واستكشاف المواد. وتؤكد لامب (Lamb, 2002) على عدم وجود طريقة صحيحة ومناسبة واحدة لإدماج مدخل الذكاءات في الفصل الدراسي، إنه يستلزم فقط تغيير فكرتنا عن التدريس والتعلم والإمداد بتشكيلة من الأنشطة والخبرات لتسهيل التعلم.

وتظهر نتائج البحث التربوي أن هذا الاستخدام للقنوات التعليمية المتنوعة لإدخال المعلومات يسهم في ازدياد سعة الذاكرة العاملة المؤثرة؛ حيث تشير مادلين بيرلي آلن (2006) إلى أن بعض الناس يبدو أنهم يتذكرون ما يرون، بينما البعض يتذكرون بشكل أفضل عندما يسمعون، ولقد أثبتت الدراسات أن استخدام الذاكرة البصرية التي تعتمد على رؤية الأشياء والذاكرة السمعية التي تعتمد على سماع الأشياء معًا له مميزات أفضل خصوصًا في تعلم الأسماء واللغات أو المصطلحات. وهو ما يتفق ونظرية التشفير الثنائيDual-Coding Theory لبايفيو (Paivio, 1969, 1971, 1986, 1990 as cited in Marzano et al., 2001; Mousavi et al., 1995; Yang et al., 2003, p.330) التي تذكر أن الحجم المؤثر من الذاكرة العاملة قد يزيد عن طريق تقديم المعلومات بأسلوب مختلط (شكل سمعي وبصري) بدلًا من أسلوب واحد لأن المعرفة تخزن في شكلين وليس في شكل واحد (شكل لغوي وشكل بصري أو غير لغوي). الشكل اللغوي هو دلالات ألفاظ في طبيعته، أما الشكل البصري فيعبر عنه كصور عقلية أو حتى إحساسات جسمية مثل الشم والتذوق واللمس والارتباط الحركي والصوت، وأن نشاط المخ يتم حفزه أكثر لدى التلاميذ الذين يبدعون في التمثيلات غير اللغوية. بينما يرى أندرسون (Anderson, 1983 as cited in Carlson- Pickering, 1999; 2001) ويتفق معه باحثون كثيرون أنه عندما يريد الأفراد أن يفهموا شيئًا معقدًا بعمق فإنهم يجب أن يشفروا خبراتهم التعليمية ثلاثيًا. هذا يعني أنه إذا كنت معرضًا لأفكار جديدة وقدمت لك على الأقل من خلال ثلاثة ذكاءات مختلفة فسوف يكون لديك فرصة أفضل لتذكر المعلومات.

وتفسر لنا وولف (Wolfe, 2003) سبب قوة استدعاء الذاكرة مع زيادة مصادر الخبرة فتذكر أنه عندما تدخل خبرة ما إلى المخ فإنه يُفك تركيبها وتُوزع على المخ بأكمله، وأنه عندما تُستدعى معلومة يجب أن يُعاد تركيبها، لذا فإنه كلما كانت الطرق التي تُقدم بها المعلومات لمخ التلاميذ أكثر كلما كانت الطرق التي يملكونها لإعادة التركيب أكثر وكلما كانت الذاكرة أغنى؛ وبذا يكون التدريس المتعدد الأشكال مؤثرًا للغاية. كذلك يشير روجرز وأستون (Rogers & Aston, 1994) (في عصام علي الطيب وربيع عبده رشوان، 2006، ص ص 75: 76) إلى أن الطبيعة النشطة للفرد أثناء عملية تشفير المعلومات تعد من العوامل التي تساهم في زيادة كفاءة الذاكرة، فالتذكر عملية نشطة والفرد لا يتذكر إلا ما قام به أثناء مرحلة التعلم.

ويمكن إرجاع احتمالية تحسن الذاكرة وما وراء الذاكرة عند استخدام مدخل الذكاءات المتعددة في التدريس إلى فرضيتين من الفرضيات التي ساقها بعض العلماء لتفسير ما وراء الذاكرة (فرضية ألفة التلميح Cue familiarity hypothesis- فرضية إمكانية الوصول Accessibility hypothesis ). يذكر ميتكالف (Metcalfe, 2000) أن فرضية ألفة التلميح تشير إلى أن الأحكام بخصوص ما وراء الذاكرة تستند إلى مستوى الفرد من الألفة بالمعلومات الممد بها في التلميح؛ لذا فالأرجح أن يحكم الأفراد أنهم يعرفون الإجابة لسؤال إذا كانوا يألفون الموضوع والمصطلحات، والعكس صحيح. بينما تقترح فرضية إمكانية الوصول أن الذاكرة ستكون دقيقة عندما تكون سهولة المعالجة للمعلومات مرتبطة بسلوك الذاكرة، فإذا كانت سهولة المعالجة لا ترتبط بالذاكرة في مهمة معطاة فإن الأحكام لن تكون دقيقة (Schwartz, 1994) . فإذا كان مدخل الذكاءات المتعددة يوفر تنشيطًا للمخ بالعديد من المدخلات التي توفر سهولة المعالجة وتسهل إمكانية الوصول للذاكرة، فإن هذا يعني منطقيًا أنه يسهل عملية الاستدعاء ويجعله أفضل، كما يجعل أحكام الشعور بالمعرفة أكثر دقة.

وتتفق تلك النظرة مع ما أشارت إليه نتائج العديد من الدراسات من فعالية استخدام مدخل الذكاءات المتعددة في إثراء تعلم التلاميذ وزيادة قدرتهم على استدعاء المعلومات. ففي دراسة كامبل (Campbell, 1994) تحسن التحصيل الأكاديمي لكل التلاميذ بفصل الذكاءات المتعددة كما قيس بكل من اختبارات الفصل الدراسي والاختبارات المعيارية، كذلك أخذًا في الاعتبار متوسطات الدولة والمتوسطات القومية في كل المناطق، وكانت قدرة التلاميذ على التذكر مرتفعة في اختبارات نهاية العام، وكانت طرقهم لتذكر المعلومات موسيقية وبصرية وحركية، ما يشير إلى تأثرهم بالعمل خلال الذكاءات المختلفة، كما أن التلاميذ الذين كانوا سابقًا فاشلين في المدرسة أصبحوا مكتسبين للمعرفة وبدرجة مرتفعة.

وتقترح نتائج دراسة ميدن وميدن (Maiden & Maiden, 1988) نموذجًا متعددًا للذاكرة والذي توجد فيه فروق فردية داخلية، كما تدعم النتائج إمكانية أن يتدرب الأفراد بفاعلية في نمطهم للذاكرة الأفضل. وهو ما يتفق ونتائج دراسة ايركسون (Eriksson, 2000) التي أشارت إلى أنه عندما درس تلاميذ المرحلة الثانوية النصوص بطريقتهم الأكثر تفضيلًا نتج عنها أفضل استدعاء نص ممكن، وإن كان قد أنقص دقة التنبؤات.

ويذكر ايركسون (Eriksson, 2000) نقلًا عن كيرول وكورونيكا (Carroll & Korunika, 1999) وشنايدر (Schneider, 1985) أن ما وراء الذاكرة تهتم بالعلاقة بين معرفة التلاميذ بذاكرتهم وأداء الذاكرة. هذا وتشير نتائج دراسة جيتي وآخرين (Ghetti et al., 2008) إلى أن لتطورات ما وراء الذاكرة تضمينات هامة لحدة الذاكرة. كما أشارت نتائج دراسة شنايدر وآخرين (Schneider et al., 1987) إلى أن ما وراء الذاكرة تبقى منبئًا هامًا لسلوك الذاكرة. كذلك وجدت جيدي وآخرون (Geddie et al., 2000) أن قدرة ما وراء الذاكرة كانت مساعدة في تحديد سعة استدعاء المعلومات بدقة لدى الأطفال –تراوحت أعمارهم بين 43: 83 شهرًا، بالرغم من أن العمر كان المنبيء الأفضل لدى أغلب الأطفال-. وأظهرت نتائج بيرينغ وكي (Beuhring & Kee, 1987) أن تطور ما وراء الذاكرة تنبأ بمعظم الفروق المرحلية في الاستدعاء التلميحي، مقترحة أن تطور ما وراء الذاكرة ربما يفسر التحسنات في استراتيجيات الاسترجاع كذلك. وأشارت نتائج درسة ويد وآخرين (Weed et al., 1990) إلى أن ما وراء الذاكرة العامة ترتبط بدلالة بالاستدعاء. كذلك أشارت نتائج دراسة جولتني وهاك-وينر (Gaultney & Hack-Weiner, 1993) إلى أن التلاميذ البنين ضعيفي القراءة بالصفين الرابع والخامس ذوي درجات ما وراء الذاكرة الأعلى أظهروا استدعاءً -صريحًا وضمنيًا- أفضل مما كان للبنين ذوي درجات ما وراء الذاكرة الأكثر انخفاضًا. أما تيرنر وآخرين (Turner et al., 1996) فقد أشارت نتائج دراستهم إلى أن ما وراء الذاكرة قد تنبأت بالاستدعاء فقط للتلاميذ الذين لا يعانون من التخلف العقلي. كما توصل بانو وكازنياك (Pannu & Kaszniak, 2005, p.105) إلى أن هناك ارتباطًا قويًا بين مؤشرات وظيفة الفص الجبهي الأمامي وسلامة تركيبه وبين دقة ما وراء الذاكرة، وأن الجمع بين الاختلال الوظيفي للفص الأمامي والذاكرة الضعيفة يضعف بشدة عمليات ما وراء الذاكرة.

وترى الباحثة أن العلاقة المفترضة –والتي عززتها نتائج الدراسات الحديثة- بين ما وراء الذاكرة وأداء الذاكرة تبدو علاقة منطقية، ذلك أن معرفة الفرد بما تم تشفيره وتخزينه بنجاح وما لم يتم، وما هو قادر على استرجاعه يجعله يبذل جهدًا أكبر من أجل تذكر أفضل، ومن ثم تعلم أفضل؛ حيث أشارت نتائج دراسة ايركسون (Eriksson, 2000) إلى أن تلاميذ المرحلة الثانوية وجدوا القراءة من أجل تذكر نصوص كمهمة تتطلب جهدًا أكبر من القراءة من أجل الفهم، ما نتج عنه بشكل افتراضي وعي أفضل بأداء الذاكرة مقارنة بالفهم للنصوص نفسها.

وأكدت نتائج العديد من الدراسات على إمكانية اكتساب مكونات ما وراء الذاكرة عن طريق التدريب. ففي دراسة فيرهيغين وآخرين (Verhaeghen et al., 1993) 41% ممن تلقوا سبعة أشكال من تدريب الذاكرة زادوا الوعي بالذاكرة، كما وصف المشاركون التدريب بأنه مفيد. كما قام راو ومويلي (Rao & Moely, 1989) بإجراءات تدريب مركزة على اكتساب معرفة الذاكرة لتلاميذ الصف الثاني. وقد فاقت مجموعتا التدريب الصريح والضمني المجموعة الضابطة في كل من أداء الاستدعاء، وتنظيم الفئة أثناء الدراسة والاستدعاء، وما وراء الذاكرة التي تعتبر التنظيم كاستراتيجية. كذلك أشارت نتائج دراسة جولتني وهاك-وينر (Gaultney & Hack-Weiner, 1993) إلى أن التلاميذ البنين ضعيفي القراءة بالصفين الرابع والخامس والذين كانوا متفوقين في لعب البيسبول الذين استخدموا استراتيجية قراءة مصحوبة بتدريس منطمر في البيسبول –اللعبة التي كانوا خبراء فيها- سألوا أسئلة "لماذا" كثيرة، في إشارة إلى مراقبة –إحدى مكونات ما وراء الذاكرة- مناسبة. وفي دراسة مختار الكيال (2006) اتضح الأثر الإيجابي الفعال للبرنامج المستخدم في جميع متغيرات ما وراء الذاكرة خاصة مع مجموعتيّ العاديين وذوي صعوبات تعلم الحساب مقارنة بذوي صعوبات القراءة.

ومن الدراسات التي استخدمت مدخل الذكاءات المتعددة لتحسين القدرة التذكرية ومكونات ما وراء الذاكرة لدى التلاميذ.. دراسة أندرسون (Anderson, 1998) عن "استخدام الذكاءات المتعددة لتحسين التذكر في دراسة مفردات اللغة الأجنبية" نفذت الباحثة تجربة لزيادة القدرة على الاحتفاظ (تذكر) مفردات اللغة اللاتينية باستخدام استراتيجيات ذكاءات متعددة متنوعة وتقنيات تحسين ذاكرة متنوعة تم دمجهم في تصميم الدروس في سياق تعلم تعاوني. طُبق التدخل التجريبي على تلاميذ بالصفين السابع (ع= 38 تلميذًا) والثامن (ع= 53 تلميذًا)؛ حيث كانت هناك صعوبة ملحوظة لدى التلاميذ في الاحتفاظ بالمفردات نُسبت إلى تركيز المعلم على طرق التدريس اللغوية والنقص لدى التلاميذ في مهارات المذاكرة. تم تنفيذ التدخل التجريبي لمدة 10 أسابيع في الفترة من سبتمبر 1997 وحتى يناير 1998، حيث تم تقسيم التلاميذ في فصول اللغة اللاتينية إلى أربع مجموعات تبعًا لتفضيلهم لأسلوب التعلم في نطاق الذكاءات الأربعة: الحركي واللغوي والتفاعلي والبصري/المكاني. ولتقييم نتائج التدخل استخدمت الباحثة الاختبارات الموجزة للمفردات، ويوميات التلاميذ التقويمية لتقويم الأنشطة التعليمية التي أُعطيت وكيف ساعدت في عملية التذكر، ويوميات المفردات التي تُعطى بعد انتهاء كل درس أو بداية درس جديد، أشارت النتائج البعدية للتدخل التجريبي إلى زيادة درجات الاختبارات الموجزة للمفردات التي كانت تُجرى مرتين كل أسبوع، كما لوحظ زيادة الوعي لدى التلاميذ بتقنيات الذاكرة للتمكن من مفردات لغة أجنبية، والوعي بأنماط تعلم متنوعة لدى كل من المعلم والتلاميذ. لكن بالرغم من أن نتائج البحث تشير إلى أن استخدام مهارات الذكاءات المتعددة في تعلم قوائم المفردات يمكن أن يكون أداة فعالة في تحسين درجاتهم، إلا أن يوميات التلاميذ أشارت إلى أن أنشطة الذكاءات المتعددة لم يكن لها تأثير كبير على الذاكرة طويلة المدى للتلاميذ.

أما في دراسة جودنو (Goodnough, 2001) والتي كانت بعنوان "نظرية الذكاءات المتعددة: إطار عمل لأجل تفريد مناهج العلوم" فقد أظهر التلاميذ بالصف التاسع الذين درسوا العلوم من خلال مدخل الذكاءات المتعددة بالإضافة إلى النتائج المعرفية استفادة من إشراكهم في ما وراء المعرفة من خلال مدخل الذكاءات المتعددة، حيث كانت إجابات 11 تلميذًا –يمثلون 85% من تلاميذ الفصل الثلاثة عشر- إيجابية على استبيان فيما يتعلق بعبارات توضح أنهم أصبحوا متعلمين أفضل وبشكل أكثر سهولة كما استمتعوا بالعلوم أكثر من خلال استخدام تشكيلة من الذكاءات المتعددة، كذلك أحبوا العمل بشكل تعاوني مع تلاميذ آخرين في مشروعات.

وفي دراسة كامبابيلو وآخرين (Campabello et al., 2002) عن "الموسيقى تُعزز التعلم" استخدم الباحثون استراتيجيات موسيقية لتؤثر وتزيد استدعاء وذاكرة التلاميذ. كان المشاركون من فصل برياض الأطفال (31) تلميذًا، وفصل بالصف الثاني به (23) تلميذًا و (5) تلاميذ في برنامج تربية خاصة، وفصل بالصف الخامس (25 تلميذًا) من ثلاث مدارس ابتدائية. تحقق لدى الباحثين وجود صعوبة لدى التلاميذ في استدعاء الحقائق والمعلومات في مواد مختلفة من خلال عدم القدرة على اكتساب التمكن من نطاقات مهارة مستوى الصف الدراسي. تم تنفيذ التدخل التجريبي لمدة 14 أسبوعًا في الفترة من سبتمبر 2001 حتى ديسمبر 2001، وشمل تنفيذ أنشطة فردية وأنشطة مجموعة وأنشطة تعلم تعاوني في مجموعات صغيرة، كما تم دمج أداء حركات مع الأغاني. تم تقييم أثر التدخل بواسطة استبيانات قبلية وبعدية للتلاميذ والآباء لتحديد الاتجاهات عن التعلم من خلال الموسيقى في الفصل الدراسي وكيف يمكن للتلاميذ أن يتعلموا، وقوائم تحقق ملاحظة للتلميذ، ويوميات أسبوعية للتلاميذ، وسجلات تدوينية لملاحظة المعلم، واختبارات قبلية وبعدية. أشارت النتائج البعدية للتدخل التجريبي إلى زيادة في استدعاء الذاكرة –حيث حدث نمو إيجابي عام في الاحتفاظ بالحقائق الأساسية المتعلمة باستخدام التدخلات الموسيقية- والاندماج العاطفي للتلاميذ، وأن هذه الزيادة شجعت الارتباط الدافعي الذي شجع بدوره نجاحات إضافية. أشارت البيانات أيضًا إلى أن التلاميذ تعلموا المادة جيدًا وأصبحوا قادرين على نقل المهارات عبر المنهج إلى نطاقات مواد أخرى وإلى حياتهم الشخصية. بعض الأطفال أظهروا احتياجهم للدمج الحركي لاكتساب المعلومات واستخدموا الحركات لمساعدتهم في الاستدعاء أثناء الاختبار البعدي.

وفي دراسة ابتسام محمد فارس (2006) عن "فاعلية برنامج قائم على الذكاءات المتعددة في تنمية التحصيل الدراسي ومهارات ما وراء المعرفة لدى طلاب المرحلة الثانوية في مادة علم النفس" هدفت الدراسة لتحديد أثر برنامج قائم على نظرية الذكاءات المتعددة في مادة علم النفس على تحصيل ومهارات ما وراء المعرفة لطلاب الصف الثالث الثانوي أدبي. تكونت عينة الدراسة من (128) طالبًا وطالبة قُسموا لمجموعتين: تجريبية تتكون من (59) طالبًا وطالبة، وضابطة تتكون من (69) طالبًا وطالبة. استخدمت الباحثة مقياس التقييم النمائي للذكاءات المتعددة لبرانتون شيرر تعريب رنا قوشحة، كما أعدت اختبارًا تحصيليًا يقيس المستويات المعرفية الستة لبلوم، ومقياسًا لمهارات ما وراء المعرفة. أشارت النتائج إلى تحسن التحصيل الدراسي ومهارات ما وراء المعرفة لتلاميذ المجموعة التجريبية نتيجة لاستخدام البرنامج.

وفي دراسة بوشاسك وسيتلس (Pociask & Settles, 2007) عن "زيادة تحصيل التلاميذ من خلال استراتيجيات مستندة للمخ" هدفت الدراسة لتغيير مستوى ارتباط التلاميذ من أجل زيادة تحصيلهم الدراسي عن طريق دمج استراتيجيات الذكاءات المتعددة في الدروس اليومية. تكونت عينة الدراسة من 6 تلاميذ بالصف الثالث و 5 بالصف الرابع من ذوي صعوبات التعلم من إحدى المدارس، و11 تلميذ علوم بالصفين السابع والثامن من مدرسة أخرى ذوي درجات اختبار ودافعية وسلوك سيئة والتي أثرت سلبيًا على تعلمهم. أُجريت الدراسة في الفترة من سبتمبر 2006 وحتى يناير 2007م. تم جمع البيانات من خلال قوائم ملاحظة ومسوح للآباء وقوائم ذكاءات متعددة كأدوات قياس قبلي/بعدي، كما ساهم التلاميذ في التعريف بذكاءاتهم المتعددة الأقوى وكيف تؤثر في تعلمهم عن طريق كتابة تدوينات يومية لمدة سبعة أسابيع. أشارت النتائج إلى أن دمج استراتيجيات الذكاءات المتعددة في الدروس اليومية جعل التلاميذ أكثر ارتباطًا بعملية التعلم، كما حسَّن تقدير الذات لديهم، وزاد معدلات الاحتفاظ بالتعلم، وأثرى الدافعية للتعلم، وأنقص مدى السلوك الذي يقضيه التلاميذ بعيدًا عن المهمة التعليمية، حيث نقصت كل السلوكيات السالبة بدلالة خاصة عدم الاحترام تجاه المعلمين والزملاء.

هذا وتشير نتائج دراسة شنايدر وآخرين (Schneider et al., 1987) إلى أن الذكاء كان له تأثير على ما وراء الذاكرة في كل المجموعات العمرية من بين أطفال المدرسة الابتدائية. وتذكر كارليسون بيكرينغ (Carlson-Pickering, 2001) أن الذكاء الشخصي قد أصبح من أكثر الذكاءات التي نستخدمها اليوم من منظور تربوي.. فالتلاميذ اليوم لا يُطلب منهم فقط أن يُمدوا بإجابة عن المشكلة بل عادة ما يطلب منهم أن يُفسروا كيف وصلوا للحل؟.. ولا شك أن إجابة كيف؟ تتطلب منهم استخدام قدراتهم في ما وراء المعرفة Metacognition.. ونظرًا لاختلاف مستوى الذكاء الشخصي لدى التلاميذ فإن بعضهم يعتبر الإجابة مهمة سهلة بينما يجدها آخرون شديدة الصعوبة عن إدراك إجابة المشكلة المطلوب حلها أساسًا، مع ذلك يرى أغلب المعلمين أن هذا يقود لفهم أفضل للمحتوى. ومما يؤكد على هذا ما وجده كار وبوركوسكي (Carr & Borkowski, 1987) من أن ما وراء الذاكرة لدى تلاميذ الصفين الخامس والسادس الموهوبين كانت متعلقة بكل من التفكير التباعدي والتحصيل، مقترحين أن ما وراء الذاكرة تكون مستقلة عن –تظل مهمة لـ- التفكير التقاربي والتباعدي اللذين قد يكونان أساسًا للتحصيل الإبداعي.

نتائج الدراسة

يمكن إجمال النتائج التي توصلت إليها الدراسة في أن وعي التلميذات بالمجموعة التجريبية بقدرات الذاكرة لديهن لم يختلف عن وعي تلميذات المجموعة الضابطة، لكن بالرغم من ذلك حدث تحسن في مكونات التشخيص والمراقبة والتنظيم واختيار استراتيجية التذكر والدرجة الكلية لما وراء الذاكرة، ما ساعد على اتساق المعلومات بالذاكرة، وعمل على ارتقائها، ومن ثم حسَّن أداء المتعلمات في الفصلين التجريبيين بالدراسية وزاد من نموهن المعرفي. كما اتضح للباحثة –من ملاحظة التلميذات أثناء تطبيق البرنامج، ومقارنة درجاتهن القبلية والبعدية على مقياس مكونات ما وراء الذاكرة- أن درجات مكونات ما وراء الذاكرة والتحسن في تلك المكونات نتيجة لتطبيق البرنامج كان أفضل بالنسبة للتلميذات المتفوقات تحصيليًا بالمجموعة التجريبية منه لدى زميلاتهن في المجموعة نفسها، وهو ما يتفق ونتائج دراسة منال شمس الدين (2005) حيث كانت متوسطات درجات مكونات ما وراء الذاكرة للتلميذات مرتفعة التحصيل الدراسي أعلى من نظيراتها للتلميذات منخفضة التحصيل الدراسي.

توصيات الدراسة

بناء على النتائج التي توصلت إليها الدراسة توصي الدراسة بما يلي:

1- إنشاء مدارس عامة للتعليم الأساسي يتم فيها تطبيق مدخل الذكاءات المتعددة في كل المواد الدراسية لما لهذا النمط من المدارس من فوائد للنمو العقلي والمعرفي للتلاميذ والتلميذات؛ حيث توفر بيئة تعلم ذي معنى للتلاميذ، ما يكون له أثره في تطور عقولهم.

2- إعادة النظر في طرق وأساليب إعداد المعلمين –خاصة معلميّ العلوم- في كليات التربية؛ إذ أن الإعداد الحالي لمدرسيّ العلوم لا يؤهلهم لتطبيق استراتيجيات وطرق التدريس الحديثة، كما لا يفي بتزويدهم بالمهارات اللازمة لإدارة الفصل الدراسي أثناء تطبيق هذه الاستراتيجيات.

3- إعداد برامج تدريبية للمعلمين في الخدمة على استخدام مدخل الذكاءات المتعددة، وذلك من أجل تأهيلهم لتطبيقه.

4- إعادة تشكيل وصياغة المناهج الدراسية لمرحلة التعليم الأساسي وكراسات التدريبات والأنشطة للتلاميذ وكذلك أدلة المعلمين لتنفيذها في ضوء مدخل الذكاءات المتعددة.

5- تعديل الأهداف الدراسية في ضوء ما وراء المعرفة؛ أي التفكير في طريقة تفكيرنا والتخطيط لها وتنظيمها.

6- زيادة عدد حصص العلوم بالمرحلة الإعدادية إلى ست حصص أسبوعيًا بدلًا من أربع.

7- تفعيل دور المتعلم في العملية التعليمية، حتى يصبح له دور نشط في تعلمه، ما يؤثر إيجابيًا في تحصيله الدراسي، وتذكره للمادة المتعلمة.

8- ضرورة إعادة النظر في نظام التقويم الشهري للتلاميذ في المدارس، وتعميم نظام التقويم بالحقيبة الوثائقية portfolio على أن يتم تقديم دورات تدريبية للمعلمين في الخدمة على تطبيقه لضمان تطبيقه بطريقة صحيحة؛ لأن هناك من المعلمين من يتوهمون أن تنوع الأنشطة التعليمية يعني تقديم تشكيلة من الأنشطة اللغوية وحسب!

 

د. منى زيتون

.........................

* البحث كاملًا منشور ورقيًا في مجلة دراسات تربوية ونفسية "مجلة كلية التربية- جامعة الزقازيق"- العدد 71 - أبريل 2011م- الجزء الثاني.

* تتضمن الدراسة الكاملة أجزاءً منهجية وإحصائية و4 جداول، وشكلًا واحدًا، و77 مرجعًا، ويمكن للمتخصصين الرجوع إليها لتمام الفائدة.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم