صحيفة المثقف

محمود محمد علي: ريجيس دوبري الفيلسوف الإنسان والمفكر المثقف.. قراءة فلسفية

محمود محمد عليصدر مؤخراً كتاب (ريجيس دوبري.. الفيلسوف الإنسان والمفكر المثقف) للناقد الدكتور بشار عليوي ضمن سلسلة دراسات عن اتحاد الأدباء والكتاب في العراق بواقع (217) صفحة من القطع المتوسط، والكتاب كُرس عن تجربة الفيلسوف والمُفكر الفرنسي (ريجيس دوبري Regis jules Debrary (1940- ...) الذي يعد أحد العلامات الفارقة في المشهد الثقافي الفرنسي حالياً. فهو فيلسوف ومفكر ومؤرّخ وأديب وروائي وكاتب مسرحي (1)؛ الا أنه يفضل جمع هذه التوصيفات كلها تحت عنوان “كاتب"، علاوة علي أنه يمثل واحداً من واحدا من أهم الفلاسفة والمُفكرين البارزين المُعاصرين ممن صدرت لهُم عشرات المؤلفات الفرديةِ منها والجماعية في السياسة، والاقتصاد، والدين، والأساطير، والفكر المُعاصر، والوسائط، والشعر، بالإضافة إلى عملهِ مُخرجا سينمائيا، وكاتبا للأوبرا والمسرح، واحد أهم الرموز الثقافية في عالمنا المُعاصر (2).

إن دوبريه في نظر الدكتور بشار عليوي هو أحد المفكرين الفرنسيين القلائل من جيل أولئك الذين يطلق عليهم، هو نفسه، في هذا الكتاب "جيل الانتظار". والجيل الذي يقصده دوبريه، يعبّر عنه وعن نفسه: "أردنا تقديم إجابات عن أسئلة لم تعد مطروحة. إننا أبناء مزعومون لثورة أكتوبر عام 1917 في روسيا، ويتامى فكرة نهاية العالم.. ونحن الناجون من كارثة لم تقع. إننا نبدو في نهايتنا، وملامح وجهنا تدل على سوء ما نحن فيه" (3).

والدخول إلى مثل هذه السراديب التي توصف في مساهمات الكتاب المتنوّعة، يبدو كما يري الدكتور بشار عليوي مثل زيارة مخزن تتكدّس فيه عظام أولئك الذين كانوا حتى فترة غير بعيدة، رموز الحداثة في فرنسا، وما أبعد منها في الفكر والثقافة العالميين. إنه "مدفن للحداثة"، كما يكتب دوبريه عن أولئك الذين غادروا المشهد، ولكن أفكارهم لا تزال تحوم في الأجواء (4).

وقد ولدَ (دوبري) بباريس يوم 2/ 9 /1940 لأب مُحامٍ وأُم مُناضلة معروفة ضد الاحتلال النازي، وفي سن العشرين دخلَ إلى دار المعلمين العليا في باريس من بعد أن حاز على المرتبةِ الأُولى في مُسابقة الدخول إليها، إذ تُعد هذهِ الدار من أهم المؤسسات الجامعية العلمية الفرنسية ومنها تخرج كبار المُفكرين والأدباء الفرنسيين ومنهم (جان بول سارتر)، وفي عام 1965 حصلَ (دوبري) على شهادة التأهيل العُليا في الفلسفة «أغريغاسيون»، وفي العام نفسه فُتِنَ (دوبري) بالماركسيّة في بداية شبابهِ، وبثورة (فيدل كاسترو) و(تشي غيفارا)، فانطلق تاركاً فرنسا ذاهباً إلى بوليفيا مُلتحقاً مع (تشي غيفارا) ومُصاحباً لهُ في حرب العصابات التي قادها في بوليفيا في ستينيات القرن الماضي، ومن ثم اعتقل عام 1967 مع (غيفارا) في بوليفيا وُحكمَ عليهِ بالإعدام الذي أحدثَ ضجة واسعة في فرنسا والعالم، مما دعا إلى قيام حملة قوية من أجل الإفراج عنهُ قادها (سارتر) انتهت بتدخل الجنرال الفرنسي (ديغول) شخصياً ليُفرج عنهُ عام 1971 بعد مفاوضات امتدت لسنتين ومن ثُم ذهبَ بعدها إلى تشيلي ومكثَ فيها عاماً واحداً، وفي عام 1973 عاد إلى فرنسا بعد مقتل (غيفارا) ليتفرغ إلى مُراجعة حساباتهِ الثورية والفكرية معاً، وتفرغ للكتابة والبحث، وتبوأ مجموعة من المناصب المهمة في فرنسا (5).

له مؤلفات عديدة نذكر منها مثلاً : ثورة في الثورة، رواية الثلج يشتعل، فر التكوين السياسي، نقد العقل السياسي، مدائح، حياة الصورة وموتها - تاريخ النظرة في الغرب، لعين ساذجة، النائمون، القبضة، بداية ونهاية I.F، الله هوَ الطريق، تدريس الدين في المدارس العلمانية، حبل مشدود، الإنسان والتناول الطقوسي، حوار الحضارات - الاسطورة المُعاصرة، الأرض المُقدسة، لحظة الأخوة، الاستخدام الجيد للكوارث، المقدس الشاب، الصورة المُذهلة، المعتقدات التاريخية والحقائق الدينية - مجرد حقائق، مدامH ، ومؤلفاته المشتركة: 100 من روائع الرسم من العهد القديم، عصر التنوير - حوار بين العالم والفيلسوف، حروف وحروف، نداء من أجل القرن الحادي والعشرين، هل أنت مع الله أو من دونه؟، الصين والغرب - من السماء الى الأرض، فرضية الرغبة (6).

وعلى الصعيد السياسي كما يري الدكتور بشار عليوي تأثّر دوبريه بشخصيتين: فيدل كاسترو وفرانسوا ميتران. وبالنسبة لتوجهه في الحقل السياسي، يعرّف دوبريه نفسه، بالميل إلى "الفعل". وأن التزامه المبكّر بالعمل السياسي، كان بسبب نوع من "اللقاء بين مزاج شخص والظروف المحيطة فيه". وكان قد بدأ نشاطاته بالمشاركة في مظاهرات تأييداً لثوار جبهة التحرير الجزائرية. ثمّ أمضى سنوات في أميركا اللاتينية. ولم يكن التزاماً واعياً، حسب تعبير له. ولهذا يرى عمله السياسي نوعاً من التدريب، وليس في الالتزام (7).

ومن الأفكار التي يؤكّد عليها دوبري كما يري الدكتور بشار عليوي ، بأشكال مختلفة، قوله إن المجتمعات بحاجة إلى أفكار متسامية، تؤمّن قدراً كبيراً من التلاحم بالنسبة للمجموعات المعنية بها. وهكذا مثلاً، يعيد الأزمة التي تعاني منها أوروبا إلى "العدمية" السائدة، وإلى اللامبالاة العامّة (8).

وإعلاميا نجد أنه في عام 1993 دافع دوبريه كما يري الدكتور بشار عليوي عن أطروحة لنيل الدكتوراه، تحت عنوان "حياة الصورة وموتها.. تاريخ النظرة في الغرب". وشكّل ذلك منعطفاً في اهتماماته، إذ نحا حول تحليل تأثير وسائل الإعلام والاتصال على المجتمعات والعصر. وأسس عام 1996 مجلّة "دفاتر التأثير الإعلامي ـ الميديولوجيا"، التي ركز فيها على نظرية لـ "البعد" التقني والمؤسساتي للثقافة، باعتبار أن الإعلام وسيلة لذلك (9).

وإذا كان دوبريه قد نشر "النص التأسيسي" لهذا المجال من التأمّل الفكري عام 1991، فإن مفهوم التأثير الإعلامي كما يري الدكتور بشار عليوي ، دخل قاموس التداول العام، مع صدور كتابه: "السلطة الثقافية في فرنسا" في عام 1997(10).

إن مسألة "التأثير الإعلامي" ودور المثقف في المجتمع، شكّلا أحد مراكز الاهتمام الرئيس لدى دوبريه، منذ مطلع سنوات التسعينات في القرن الفائت. ويرى أن العالم دخل في عصر الصورة، التي تنبئ بولادة "عالم جديد" (11).

لقد أصبح تأثير الصورة يتعدى المحسوسات الذهنية الى المُدركات البصرية عند الإنسان فهذا التأثير كما يري الدكتور بشار عليوي يُمكن تلخيصهُ فيما يسردهُ (دوبري) نفسه مؤكداً أهمية الصورة في حياتنا اليومية عبرَ قصة الصورة الجدارية التي كانت تعلو غُرفة نوم أحد أباطرة الصين القُدامى حينما طلبَ من كبير رسامي قصرهِ أن يُزيل الشلال المرسوم داخل تلك الصُورة لأن خرير مائِهِ كان يمنعهُ من النوم، على الرُّغم من أنَ الصورة هي لوحة فنية صامتة، لذا لم يختلف تأثيرها مُنذُ القِدم وحتى عصرنا الحالي الذي أصبح يُسمى (عصر الصورة) (12).

ويذهب (دوبري) كما يري الدكتور بشار عليوي إلى أن مصداقية الأفكار المُراد إيصالها تتحقق أكثر باستخدام الصورة، وهذهِ إحدى حقائق عصرنا الحالي الذي اتخذ من الصور وبغض النظر عن أنواعها، وسيطاً حياتياً إذا ما عرفنا وكما يقول (دوبري) أن «الصور على عكس الكلمات في مُتناول الجميع، بجميع اللغات وبدون حاجة الى أي تعليم، فهي عابرة لكُل الموجودات المُحيطة بنا لأنَّ لديها القُدرة على مُخاطبة كُل العقول والطبقات الاجتماعية ومُختلف الفئات العُمرية، فضلا عن أنها قد أصبحت واحدة من أبرز حاجات الإنسان التي يستخدمها بشكل يومي حتى باتت تطغى على باقي الاستخدامات، ومن هُنا تأتي أهميتها بوصفها وسيطاً وجدَ لهُ مكانة بارزة في عموم تمظهرات الفكر الإنساني(13).

ويشدد دوبريه على حقيقة حيوية في صلب موضوع تأثير وسائل الإعلام ودورها الحياتي والمجتمعي العام كما يري الدكتور بشار عليوي ، مفادها، أنه ليس كون الأذهان قد غدت أسيرة أكثر فأكثر لوسائل الإعلام وتابعة لها، يعني أنها ستكون في المستقبل القريب، عاجزة حكماً عن إخراجنا من المأزق الذي يواجهه العالم، وربما إخراجنا بواسطة حلول إبداعية (14).

وإذا كانت سطوة وسائل الإعلام وهيمنتها كبيرة وتزداد، فإن دوبريه كما يري الدكتور بشار عليوي لا يجد أن الأسر سيكون أبدياً ومستداماً. ويصل دوبريه، إلى القول إن البشر فقدوا كثيراً من حسّ التاريخ التقليدي والانتماء إلى شيء ما جماعي. وهذا ربما يمثّل نقلة باتجاه تأكيد الذات الفردية، وما يسميه دوبريه بالتمهيد الممكن لعصر نهضة جديد، يصبح الإنسان فيه، محرّك التاريخ وموضوعه الأساسي (15).

إن قيام (دوبري) بتأسيس «الميديولوجيا» كعلم جديد لم يكن مُصادفةً، وإنما خضع كما يري الدكتور بشار عليوي لاستشرافهِ العام لمُجمل تمظهرات عصرنا الحالي الذي عرفَ سيادة الوسائط فيه، فضلاً عن اهتمامهِ القديم بدراسة الوسائط بمُختلف أنواعها، فنحت كلمة لا يعني مُباشرةً خلق لفكرة جديدة إن لم تسبقها عدة خطوات تنظيرية في هذا الشأن، وبذلك فإن اقتراحه لتعبير (الميديولوجيا) جاءَ اعتقاداً منهُ بأنهُ يجب عليهِ أن يُبرز حاجة الوسائط بمُختلف أنواعها إلى علم جديد خاص بها دون غيرها (16).

لذا قام بتأسيس الميديولوجيا. اطلعَ (دوبري) كما يري الدكتور بشار عليوي على مُختلف التيارات الفكرية فضلا عن مُعايشتهِ لأبرز الأحداث العالمية البارزة، فقامَ بنشر الدراسات والمقالات والأبحاث بُغية التعريف بهذا العلم الجديد وتطبيقاتهِ ومُقارباتهِ مع باقي العلوم والفنون، ونَظمَ عدداً من المؤتمرات والجلسات البحثية ضمن مهرجانات فنية وثقافية ومؤتمرات دولية كرّسها عن «الميديولوجيا» (17).

فضلاً عن اشتراكهِ كما يري الدكتور بشار عليوي في كثير من الحوارات والنقاشات مع كِبار المُفكرين والمؤلفين، إذ تجسدَ عملهُ الرئيس بإصدارهِ لعديد المؤلفات ضمن مشروعهِ الخاص بتأسيس «الميديولوجيا»، والتي بدأها عام 1979 ومازالَ مُتواصلاً في النشر (18).

وأخيراً أبارك للناقد الدكتور بشار عليوي وهو يدشن الكتابة عن الفيلسوف الإنسان والمفكر المثقف (دوبري)، الذي لم تتناوله الدراسات العربية في متونها، وهذا ما يحسب للمؤلف أنه عرّفنا بعلم من أعلام الثقافة العالمية الذي أسس لمجموعة من المعارف لعل أهمها تأسيسه لعلم (الميديولوجيا) الذي عدّهُ علم القرن الواحد والعشرين تماشياً مع تمظهرات عصرنا الحالي، حينما أصبحت السيادة فيهِ للوسائط بمُختلفِ أنواعها (19).

وفلسفيا نجد أنه في عام 1998، أصبح دوبريه كما يري الدكتور بشار عليوي مدير برامج في المعهد الدولي للفلسفة، ورئيساً للمجلس العلمي للمدرسة الوطنية الفرنسية العليا لعلوم الإعلام والمكتبات. ذلك قبل أن يتولّى في عام 2002، رئاسة المعهد الأوروبي لعلوم الأديان، والذي كان قد تأسس بمبادرة منه. وهو يؤكّد بأشكال مختلفة، أهمية المرجعيات، مهما كانت طبيعتها، بالنسبة للمجتمعات الإنسانية، باعتبار أنها تولّد الثقة المتبادلة بين المعنيين بها. وتشكّل ضمانة للنظام الاجتماعي (20).

وفي عام 2005، أسس دوبريه كما يري الدكتور بشار عليوي مجلّة "الوسيط ـ ميديوم". كما انه انتخب عضواً في "أكاديمية غونغور". إن ريجيس دوبريه رجل متعدد المشارب الفكرية والاهتمامات، بحيث يصعب تعريفه بدقّة. وهو يردد باستمرار، أنه ليس فيلسوفاً، رغم أنه يحمل شهادة التأهيل العليا (21).

والدكتوراه في هذا الحقل. وفي كل الحالات، لا شك أنه أحد العلامات الفارقة في المشهد الثقافي، حالياً. إنه فيلسوف ومفكر ومؤرّخ وأديب وروائي وكاتب مسرحي.. ويفضل جمع هذه التوصيفات كلها تحت عنوان "كاتب" (22).

ويسأل دوبريه : لماذا يخضع المثقفون عندما يتقدم بهم العمر، لإغراء شاتوبريان، ويشرعون في الحديث عن التاريخ على غراره، بطريقة شعرية ومأساوية، بل وكأنه كابوس، وأن إنسانية الإنسان مهددة؟ ويؤكّد في معرض الإجابة، أن البشر هم، حالياً، بصدد اختراع عالم هجين. ويوضح أنهم يمتلكون قدرة كبيرة على حل التناقضات، ويمكن أن تبرز عبر هذه القدرة، نهضة جديدة، وبالتالي ينبغي التحضير لها (23).

وفي نهاية حديثي لا أملك إلا أن أقول بأن هذه المقالة ليست قراءة في كتاب (فلسفة الدين في الفكر الغربي)، ولا عرض لمحتوياته، إذ إن ذلك يتطلب مقالات عديدة، وإنما هي تحية للمؤلف الدكتور بشار عليوي ، الذي قدّم للمكتبة العراقية (والعربية أيضاً) هذا المصدر المبتكر والأصيل؛ ومن ثم يبقى هذا الكتاب مبتكراً جديداً في موضوعه وطريفاً ممتعاً للقارئ والكاتب على السواء.

فتحية طيبة للدكتور الدكتور بشار عليوي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام والذي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.................

الهوامش

1- الدكتور بشار عليوي: ريجيس دوبري .. الفيلسوف الإنسان والمفكر المثقف، العراق، 2020، ص 5.

2- المصدر نفسه، ص 12.

3-المصدر نفسه، ص 33.

4- المصدر نفسه، ص 45.

5- المصدر نفسه، ص 57.

6- المصدر نفسه، ص 69.

7- المصدر نفسه، ص 71.

8- المصدر نفسه، ص 84.

9- المصدر نفسه، ص 92.

10- المصدر نفسه، ص 112.

11- المصدر نفسه، ص 115.

12- المصدر نفسه، ص 121.

13- المصدر نفسه، ص 134.

14- المصدر نفسه، ص 146.

15- المصدر نفسه، ص 152.

16- المصدر نفسه، ص 161.

17- المصدر نفسه، ص 177.

18- المصدر نفسه، ص 182.

19- المصدر نفسه، ص 199.

20- المصدر نفسه، ص 201.

21- المصدر نفسه، ص 211.

22- المصدر نفسه، ص 214.

23- المصدر نفسه، ص 215.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم