صحيفة المثقف

سامي عبد العال: الفلسفة.. تبرير مشروعية الكذب (1)

سامي عبد العالطالما أنَّ الكذبَ لا مشروعيةَ له، فإنه يشكِّل (كتلةً) من التبريرات الواحدةَ وراء الأخرى. وقد لا يُطلقها الكاذب أمام الآخرين كمَنْ يطلقُ مجموعةً من الطيور المقيّدة من بين يديه، بل ليس شرطاً أنْ يمْسك هذا الإنسان تبريراته بدقةٍ، لأنه سيكون خلال لحظةٍ كهذه مأخُوذاً بما (يقول ويفعل). ولكن قد يُملي عليه الموقفُ مزيداً من المراوغات (بعيدةً وقريبةً) حتى لا يستوقفه أحدٌ. ولذلك ستتجمد أيةُ مشروعية ممكنة لديه - أي الكاذب- مستفيداً من التلاعب بكل القيم والمرجعيات. وهنا سيُظهر بوضوح أن الأكاذيب هي (تبرير المشروعية لنفسها)، سواء أكان التبرير تبريراً ذاتياً (الرغبات والغرائز والإنغماس في الواقع وانعكاساته) أم كان تبريراً خارجياً مثل التعلُّل بالظروف ومجاراة الأحوال وتقلب الصراعات والتوازنات ومغالبة الآخرين.

هناك سؤال جوهري: إلى أي مجالٍّ تنتمي هذه (المشروعية التبريرية أو تلك) التي يتعلق بها الكاذب؟ بمعنى أنه دائما ما يؤول كلَّ مشروعيةٍ من وجهة نظر المآرب والمصالح الضيقة، وقد تجده يلوي عنق القوانين والتقاليد والنصوص والأفكار المتعلقة بالصدق والشفافية والحقيقة. ولذلك تمثل (رأس الكاذب) كهفاً لعربدة فوضى الأكاذيب والآليات الدفاعية عما يقول، إنها خليط من المجالات التي تلتقي خبط عشواء في دماغه اللعوب.

ومع ذلك ليست تلك هي كل القضية فلسفياً، إنما الموضوع برمته يكمن في كيفية خطف وتوظيف الخطاب الذي يتبناه. إذ أنَّ المسألة الكذوبة تضع نفسها على مفترق طرق متباينةٍ. جميعها طرق مؤدية إلى تغذية حالة الكذب القائمة على المبررات الوظيفية. على الأقل من جهة صانع الخطاب حيث يرى الفرصة مواتية لقصف وعي المتلقين. ولتغييب المعنى وراء التعبيرات واقتناص الموقف الخاطف داخل كذبةٍ ما صغرت أم كبُرت. وهذا الموقف يمتد إلى جملة من المجالات التي يمسها الكاذب ويعمد أفعاله وآثاره داخلها. وسأحاول توضيح أبعادها رؤيةً من الداخل وكيف يتحصن الكذب داخلها، وبأية طريقة يبرر وجوده، وإلى أي مدى سيكون ذلك الموقف بلا أساس في النهاية.

أولاً: مجال الأخلاق

قد تتقمص فكرة (المشروعية الخاصة المبرَّرة) إهاب السلوك الأخلاقي على نحو سلبي. أي تنطوي الأكاذيب على طقوس أخلاقية خاصة بالشكل وأساليب الطرح والمظاهر الخادعة التي تُقرنها هذا المجال. لأن مبررها يبدو مشيراً إلى عمل من قبيل التمسح بالقيم السائدة وادعاء حسن الطوية مع كم وافر من التقدير الظاهري للأخلاق (المظهر غير الجوهر). ذلك على الرغم من معرفة الكاذب أن أقواله تطوي صفحة الأخلاق طياً لا رجعة فيه.

أهي عندئذ حالة من العودة إلى معايير معينة؟ بالقطع لا، لكنها عملية تمويه بإسم المعايير الأخلاقية. فإذا كان قبول الآخر لوناً من الادعاء، فإنه سيتم بمجرد انتهاء الموقف المعلّن عنه. وربما يتحول الكذب في هذه الحالة إلى سلوك سرّي. فقبول الآخر كعمل متظاهر به يصبح مبرراً جديداً (من حيث إعلانه) كي يتم مخالفته بشكل غير علني. ويحدث أن يدعو العمل (صاحبه الكاذب) إلى الإمعان في تصفية الآخر.

ونظراً لأنَّ السلوك الأخلاقي بمعناه الحقيقي غير واضح، فإنه يأخذ خفاء دوافعه بالمثل. وهذا هو المنزلق الذي قد ينخدع بسببه الإنسان أمام الكاذب. فحين يوجد سلوك غير صادق، فإننا عادة لا نستطيع أن نميزه عن غيره، كما لا توجد معايير ظاهرة ودقيقة لهذا الأمر. وإن وجدت بعض المؤشرات سرعان ما تخضع لتمويه الفعل الكاذب ذاته، لأن المشروعية لن نتمكن منها، بل هي تسيّر السوك كما لو كان صحيحاً بينما هو عكس ذلك تماماً.

ولا يأتي الوازع الأخلاقي على مائدة أولويات الكاذب إلاَّ تمهيداً لإلتهامه والعصف به، وإلاّ لما بادر بالكذب ومضغ آثاره كأنَّ شيئاً لم يكن. وبخاصة أن ثقافتنا العربية تخلط خلطاً معيباً بين الأخلاق والتقاليد والعادات الجارية والموروثة، فمن يريد أنْ يتخلق، فإنه متروك (بلا إرادة) إلى تقاليد بعينها تتولاه بالرعاية شريطة أن يترك نفسه طوع المجتمع ورهن الجموع والرهط.

والملاحظ أنَّ تلك التقاليد لا تشترط بدورها الإرادة الحرة، بل تحتم السمع والطاعة، لأنها تقاليد مسكونة بإكراهات المجتمع وأنياب السلطة. كأن أول خطوات الأخلاق هي مغادرة الذات دون رجعة والأخذ بما يجعل الإنسان عبداً مستلقياً لا واقفاً على قدميه في المجال العام. والذي لا يدركه المجتمع وتجهله الأنظمة الحاكمة أن تفريغ الإنسان من إرادته الحرة هو درجة من درجات موت الإنسان، هو أول الكوارث التي قد تصيب الإنسان في مقتل، وهو فقدان الذات على الأصالة.

وليس يكذب الكاذبُ إلاَّ لكونه غير حر بالأساس، لأن مسئولية القول والفعل ليست موجودة لدية من حيث المدأ. ولذلك فإن ذلك أدهى وأمر بالنسبة للحكام والمسئولين عندما يكذبون ويراوغون، لأنَّ هذا دليل حاسم على فراغهم من أدنى حرية قادرة على تحمل الوعود والخيال والعمل المشترك لأجل بناء المجتمعات.

وغياب الحرية أمر خطير، لأنه بمثابة تحول الكائن إلى قدرة خالية من المعنى ومن شخصية الإنسانية داخله. فإيمانويل كانط إعتبر أنَّ الأخلاق هي الفعل الذي يستحضر الإنسانية في أي سلوك تجاه الآخر مهما يكن. أي يتخلق بحرية طليقة كأنه يفعل من أجل كل الناس في وقت واحدٍ لا من أجل نفسه. والكذب من تلك الجهة غير أخلاقي بالمرةِ، لأنه عملٌ فارغ من جوهر الإنسانية التي ما كانت لتوجد مع عملية المراوغة وإخفاء الحقيقة. ففي الكذب هناك انحسار إلى الأنا وغرائز الاستحواذ ونهم الفردية للتكسب والتربح وخطف المآرب والمنافع. وذلك كله يتناقض مع إنسانية كلية خارج الذوات أو داخلها, وستنقطع تلك المساحة الواصلة أخلاقياً عندما يتحول البشر إلى كائنات كذوبة تتبادل الخداع.

إذن حين ترتهن الأخلاق بالعادة والتقليد، تنتج الثقافات هذه الكائنات المراوغة والزلقة، لأن الحرَّ لا يكذب، وبخاصة أنَّ الأخلاق قائمة على الثقة والإيمان والحب وهذه العناصر هي جوهر الإعتقاد الديني. وكما ورد في الحديث المتداول أن النبي نفى الكذب مع الإيمان. عن عبد الله بن جراد، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، هل يزني المؤمن؟ قال: قد يكون من ذلك، قال: يا رسول الله، هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يكون من ذلك، قال: يا نبي الله هل يكذب المؤمن؟ قال: لا، ثم أتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذه الكلمة: إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون".

والدلالة في الثقافة العربية سواء أكانت بين الإيمان أم الأخلاق لا يعوزها الوضوح، فالإيمان والصدق والثقة تحتاج إلى اليقين والتصرف بمسئولية وانتظار المجهول وإثارة الخيال والحقيقة التي لا ينازعها زيف، وهي الموضوعات التي لا تلقى وزناً لدى الكاذب، لكونه لا يحمل حاسية التخلُّق بها مثلما لا يعود المؤمن مؤمناً حين يفقدها ويفقد قابلية الصدق واليقين بعالم الغيب والشهادة.

ولا يعني ذلك أن غير المؤمنين أو الملحدين بالأديان كاذبون على الدوام، لكن المقصود أن (حرية الإيمان) تؤدي إلى الصدق مهما تكن النتائج والعواقب، مثلما أن الكذب يعني إنعدام أثر الإيمان ولا يتسق الإثنان مع بعضهما البعض (الكذب والإيمان). أي أن الإيمان حرية في جوهره كما أشرت، والحديث السابق يهمه تلك النقطة دون سواها من خطاب الدين لا خطاب التكفير. أما غير المؤمنين، فإن الحرية كفيلة بتحري الصدق وقول الحقيقة والشفافية وإلاَّ لما تحمل الفرد مسئولية (عدم الإيمان) هي الأخرى أو تحمل مسئولية عدم اعتبار الإيمان (مسئولية).. وتلك القضية مختلفة عن سواها. ولذلك ربط الإسلام قضية الإيمان بحرية الإنسان وجوداً وعدماً (من شاءَ فليؤمن ومن شاء فليكفر).

ثانياً: مجال الثقافة

لا تبدو مشروعية الكذب منفصلة عن حال الثقافة العامة واستراتيجياتها في مثل هذه الحالات. لأنَّ بعضاً من جوانب الثقافة عبارة عن مجموعة من الحيل والاستعارات والمراوغات التي تُسكِّن بؤر ودروب وحفر الصراع في المجتمع. الثقافة بتلك الأساليب تخلق سياقاً للتفلُّت من المراقبة وتسمح بإعادة تسديد الأهداف كما يريد الأفراد. وقد تمارس وجودها القابل للتملك بالنسبة لهم في بعض المواقف، مع أنها قد تكون عصية على ذلك طوال الوقت. وليس هذا لسبب موضوعي خاص بهذه الثقافة أو تلك، لكن لأنه ستكون لدى الآخرين الحيل نفسها وربما أكثر. فهم نتاج الثقافة وهم قاطنون داخلها حد الإمتلاء والشبع بالتاريخ عبر مراوغاتها وأساليب التنكر للآخر.

لعل جوانب الثقافة بهذا تحجب الأشياء في الواقع أكثر مما تظهر. وتمثل جراباً كجراب الساحر، فتخرج منه الألعاب تلو الأخرى مثل إخراج الأرانب والطيور من القبعات على خشبة المسرح. وعندئذ يحاول الأفراد بث غاياتهم الملتوية عن طريق ذات الجراب في سيرك الحياة الاجتماعية. حيث يكون الجميع (لاعبون ومتفرجون) حاضرين على مسرح واحد بعضهم إزاء البعض. وفي هذا لا تخذل الثقافة أيَّ فردٍ يستطيع اتيان ما لا يستطيع غيره. ولا تنكص عن محاولة ابهاره فتسبقه بكافة المخزون والمواد التي تهيء له تأدية دوره بنجاح. فهي بإمكانها توفير (مساعدة مزدوجةً) لمن يريد ولمن لا يريد. اللاعب الثقافي يمتح منها ما تعوزه المواقف واللعب الاجتماعي والسياسي. وهي أيضاً توفر الأرضية النفسية والعاطفية لدى الجمهور لتسهيل مهمته بنجاح. في تلك اللحظة قد نرى ثمة تواطئاً بين الخطاب العام والثقافة الجارية. لكن صاحبة في جميع الأحوال يستثمر الموقف خير استثمار مقتنصاً غاياته القريبة. وهذا يوجد باستمرار في مجالات الدين والسياسة والعادات والأخلاق وحتى المعرفة والإقتصاد.

ربما كان "سقراط والسفسطائيون" المثال الأبرز على أهمية الثقافة من تلك الزاوية. فالسفسطائيون كانوا هم الحاذقين في صياغة أفكارهم طبقاً لألاعيب ثقافية واسعة الإنتشار في المجتمع اليوناني. فلقب سفسطائي sophist كان يطلق على الماهر والحاذق في فنه وهو فن البائع للمعرفة والأفكار. ولكن ماذا كان الفن سوى بلوغ درجة الاتقان في الأعمال. وهذه الأخيرة نتاج ثقافي في دلالتها وأهميتها. أما الفن الأخطر الذي اشتهرت به السفسطائية فهو" فن القول". طرحوا خطاباً إزاء سيطرة فلسفة أفلاطون والجمود العقلي الذي سببه عالم المثل. فهو عالم خاص بأفلاطون استطاع صاحبه أن يصادر إرادة الإنسان منه مقابل رسم صورة للمجتمع والتاريخ والحقيقة والذاكرة والسياسة. فكيف سيرفضه الفرد اليوناني المهموم بالتعبير عن نفسه في أجورا ووسط الأحداث والظواهر المتلاطمة. كان السفسطائيون واعين بتلك الحيلة الأفلاطونية وأنه لم يكف عن آلية الهيمنة على مجريات الواقع.

لم يكن كلام السفسطائي سوى أساليب بلاغية غير معهودة ثقافياً. كثيراً ما لجأ إليها لخلخلة نمط التفكير الأفلاطوني. فهذا النمط يضع العقل بين رحى طرفين متنافرين، المثال والواقع كما نوهنا. لكنه يحسم الصراع لصالح المثال لا لشيء إنما لأجل إعادة التمكن من الواقع. إنه انهاء للجدل في صورة طرف متفرد، قطب وحيد. ونفهم ذلك حين نعرف أن عالم المثل له باب أفلاطوني واحد، أفلاطون نفسه هو من يمسك به. وهو من يمتلك فتحه وكشف أسراره. في مقابل زيف الأشياء، أي كذب الواقع. بل الأخير على ما يصفه عالم الأشباح غير الحقيقية.

إذن المشروعية في تكذيب الواقع مشروعية ميتافيزيقية. وهي الحكم عليه بكونه غير حقيقي. لأنه لم يكن أصلياً إنما كان يُحاكي المثال. ولذلك خرج الواقع مشوهاً، كذوباً ومزيفاً كما أراد أفلاطون. ثم اُعلّنت سيادة المثال على كافة الموجودات الأخرى، فكان الزيف والكذب مصير الأخيرة.

كان السفسطائيون مناوئين لهذه السيادة وبخاصة كون فلسفة أفلاطون أصبحت مذهباً للمجتمع وكان صاحبها فيلسوفاً للدولة. ألم يطرح كافة القضايا من الذاكرة إلى الجمهورية السياسية والهندسة الاجتماعية وتشكيل المستقبل في هيمنة عالم المثل؟ وكأنَّه يقرر في محاوراته: كيف يعيش اليونانيون وكيف يفكرون وإلى أين تذهب آمالهم في الزمن. والأهم كما أشرنا أنه قد فرض نمط من الحقيقة على وعى الأفراد. ويبدو من قوة فلسفة أفلاطون أنها وسمت- لو ضمنيا- كل سفسطائي بالمغالطة والمماحكة. ونظراً لكون اللغة بمثابة الصيغ التي يتطابق معناها مع الحقيقة، فإن أي تلاعب بتلك الصيغ معناه تلاعب بقوة الحقائق.

هذا وقد طرد أفلاطون السفسطائيين من دلالة اللغة الصادقة عن الحقيقة كما يراها. معتبراً إياهم مجادلين بغير صدق لا مجرد حقيقة فقط. هم مزيفون من حيث تزييف اليقين الأفلاطوني. ونظرية الحقيقة بهذا المعنى ظلت تحاذر السفسطائيين عبر تاريخ المعجم اللاتيني ومعاجم اللغات الأوروبية. فما زالت القضية من وجهة نظر أفلاطون قضية امتلاك اللغة. لأنه حين عرف أن العلاقة بين الاسم والمسمى علاقة غير اصطلاحية، أدرك ضرورة الهيمنة على نظام الدلالة السائد. وبذلك تكون مشروعية الصدق والحقيقة هي مشروعية تكذيب الآخرين وجعلهم نموذجاً للجدال غير الهادف.

ليس أقرب إلى فكرة أفلاطون تلك من احتفاظ اللغة الانجليزية واللغات الأوروبية بدلالة التضليل لمصطلح السفسطائية. فالسفسطة sophism تعني قياساً فاسداً. بالمثل تعني مغالطة لا طائل من ورائها سوى المراوغة. وتدل على التكلف في طرح الآراء. أما القائم بذلك العمل، فشخص متكلف أو محنكsophisticated هو الآخر ولا رجاء من استقامة لسانه ولا منطقه. ومع أنه رفيع الثقافة (السوفسطائي حاذق ومطلع)، إلاَّ أن الوصمة الأفلاطونية مازالت موجوده في جذور اللغة، فهو الشخص الذي يحرف المعاني والذي يُعقِّد الأشياء مضيعاً بساطتها وتلقائيتها.

لنرى ماذا قال أندرية لالاند في هذا المجال حتى نعرف أبعاد الفكرة. أشار مبدئياً إلى السفسطائي بوصفه ذلك الحاذق والمتمتع بمهارات كما لدى الصانع الماهر. ودون قصد سُوقي تشير الـــsophiste إلى ذلك الذي يحترف الحكمة والمهارة (صوفيا). وهو المتمكن من فنه في محاورة الآخرين. بل قال بروتاجوراس – على لسان أفلاطون- السفسطة فن جعل الناس أرفع كعباً مما كانوا عليه، فن تنشئة بشر أرفع (أندرية لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد الثالث  (R-Z)ترجمة خليل أحمد خليل، اشراف أحمد عويدات، منشورات عويدات، باريس- بيروت، الطبعة الثانية، 2001، ص 1316.).

لكن مع تحول (الفلسفة الأفلاطونية) إلى مشروع سياسي اقصائي عنيف، اعتبرت السفسطائية سُبة ولحقت بها دلالات سُوقية. فأفلاطون كان يريد إزاحة من يفكر بخلاف مذهبه الفلسفي. ليست المشكلة في السفسطائية، لكنها في خطاب شمولي وحيد الاتجاه كان يتربص بالجميع. يؤكد لالاند " اعتباراً من عصر أفلاطون وبالأخص أرسطو، صارت تستعمل الكلمة بمعنى ذميم واضح، فالسوفسطائي هو ذلك الذي يستعمل مغالطات على نحو عادي" (المرجع السابق ص 1316). ونحن نعرف أن أرسطو أكمل مسيرة أفلاطون إن لم تكن في الجانب الفلسفي فعلى الصعيد السياسي.

المهم قد تكون مشروعية الكذب بإيعاز من الثقافة السائدة. وهو ليس كذلك بالمعنى المعروف تحديداً. فالكذب الفلسفي سواء أكان سفسطائياً أم أفلاطونياً إنما يمثل صراعاً حول امتلاك المجال العام. ومن هنا أخذ سقراط أهميته ولقى حتفه مسموماً أيضاً. كانت تهمته إفساد عقول الشباب!! كيف يمكنه تبوؤ مكانة المعلم ورجل الفضيلة وأب الأثينيين كما أطلق عليه افلاطون ومن أين له بإفساد العقول؟! تكمن القضية برمتها في مشروعية الكلام السقراطي قياساً إلى المعتقدات العامة.

فرغم اعتماده طريقة "التهكم والتوليد" في الحوار، إلا أنَّه وقع ضحية المجال العام. هذا المجال الذي أغرقه (أفلاطون) بسلطة المحرم فلسفياً. لقد أوجد سلطة خارج الأفراد، تجسدت المشروعية في مفاهيم مملوكة للمجتمع. وهي كذلك من حيث تعيش في كنف الوعي الجمعي وتدافع عن نفسها بقوته وسيطرته. وتهب فجأة في وجه من يحاول المساس بها متهمة إياه بالخروج عن النموذج. بحيث لا يستطيع فيلسوف الاقتراب دون اتهامه بسرقة المشروعية. خاصة وإن تحدث كلاماً لتغيير الرؤى كما فعل سقراط. إذ سيتهم بالكذب (والتكذيب) معاً. كذب على الناس لأنهم مازالوا مقيدين بمثال الحياة العامة (جمهورية أفلاطون) ومازالوا في دائرة التفكير وفقاً للمقدس (الأساطير والآلهة). والتكذيب لكونه يمس معتقدات لا تتزحزح. وهو حين يعرضها للمناقشة كمن يحاول تكذيب كلام الآخرين ودحض إيمانهم.

وهذا بصدد الخطاب الديني والخطاب السياسي أكثر بروزاً. حين يكذب أصحابهما في شؤون الحياة العامة تعللاً بالتحدث باسم مشروعية المعتقد أو السلطة والحفاظ على النظام العام، وأنه في النهاية سيؤدي إلى مصالح عامة من جنس ما يدافعون عنه. ويكذبون غيرهم خوفاً على تلك المصالح وخوفاً على المجتمع من الانحراف.

ثالثاً: مجال القانون

طبعاً القانون عبارة عن صيغ منضبطة دلالياً للتعبير عن معايير وقيم وآليات المجال العام. أي هو صيغ ضد التلاعب بهذه المساحة المشتركة واستغلالها والإضرار بشؤونها، مؤسسات كانت أم نصوصاً أم رموزاً أم كيانات مادية ومعنوية. فالقانون لا يعطي مبرراً لأحد للكذب باسمه ولا باسم غيره، إنه معنى بتلك المسألة إلى حد العمل الصارم عليها باستمرار. فما أن يخرج الأفراد إلى خارج ذواتهم إلاَّ وهم في حضرة هذا القانون. إذا مارس فردٌ كذباً بين المجموع، فقد ارتكب خمسة أفعال في وقت واحد: أولاها الفعل الذي يقع على ذاته مباشرةً وينسب إليه (أي يوصف بالكاذب). والفعل الثاني يحدث إزاء الأخرين وتضليل مواقفهم والتسبب بالحاق الأذي بهم. أما الفعل الثالث، فيقع على دلالة الصيغ العامة للقانون (التلاعب بالقانون). الفعل الرابع هو ترك أثار الكذب للأجيال القادمة واعتبره أمراً مسموحاً به لغيره من الناس. والفعل الأخير هو انتهاك قيم المجتمع وإيقاع الضرر غير المباشر على كيانه الثقافي والتاريخي.

أي أن الكذب في تلك الحالة أكثر من مزدوج، بل وقابل للأزدواج عن طريق انتهاكه لتلك المشروعية. أي يأخذ قوته من تبريرات مشروعية خاصة متجاوزاً ومنتهكاً المشروعية الجمعية. ولهذا سيبقى أثر الكذب عالقاً في الحياة العامة بأثر القانون وتنبيهه لمراكز الوعي لدى الأفراد. من جهة وجود فرد، بحيثيته أيا كانت، قد انتهك مجاله المشروع. حيث سيقال أن فرداً قد انتهك هذا النطاق العام داخل نطاقه الإقليمي (الفردي). أما الشيء الواضح فهو أن القانون لا يمتلك إلاَّ مشروعيته حصرياً، تلك المعبرة عن المشترك الجمعي. ولا يسمح لأحدٍ بامتلاكها سواء على نحو خاص أو عام. بالتالي سيقع الكذب تحت طائلة القانون آجلاً أم عاجلاً. لأنَّه سيغتصب مشروعية ليست له. والطائلة هي القوة التي توفر له المساءلة والتحري. من ثم سيفتح باباً للأسئلة تلو الأخرى بحثاً عن الفاعل وحدود فعله و ردود أفعال المجتمع.

لكن لماذا يتم الكذب في هذا المجال؟ هذا السؤال قد لا يعدُّ دقيقاً ولاسيما إذا فُهِم كأنَّ هناك كذباً يتماشى مع القانون. لهذا يعدل إلى الصيغة التالية: لماذا يُمرّر الكذب؟

قد يكون ذلك التمرير بتأويل معين للقانون، وهذا يعني وجود أوجه متنوعة لفهم الصيغ القانونية. ولا يتم ذلك اعتباطاً إنما بالتأكيد وفقاً لحيثيات القانون ذاته. فإقامة الحجج ومناقشة الآراء والقضايا والملابسات والقرارات وكشف التضمينات أمور ملازمة لتلك العلاقة بين القانون والأفراد. والتأويل قوة فهم لا مجرد تلقي سلبي لموضوع عام. هي قوة تنقل المؤول إلى استعمال القانون لصالحه في المواقف الملتبسة. يكاد المؤول يقول: إذا كان القانون في هذه الحالة سيضعني تحت طائلته، فأنا سأجد مخرجاً قانونياً منه. أي عن طريق القانون سأهرب من القانون. والمشروعية المستثمرة وراء عمله مشروعية قائمة بموجب تلك الحيلة القابلة للتبرير.

وهي حيلة صعبة التوصيف. هل القانون يسمح بذلك رغم كونه ظاهرياً لا يتيح تلك الإمكانية؟ أم أنه صِيغ بدرجات متفاوتة ليتمكن الخاضع له من فهم إمكانياته؟ أتوجد ثغرات في الصياغة، وبالتالي تُرحل المشكلة كلها إلى اللغة؟. ربما تستعمل عبارات نفعية من قبيل "التكييف القانوني". وهي عبارة تقال حين يخضع القانون للمصالح كي يتماشى معها. فإذا عُرفت الأخيرة، يبحث صاحبها عن صيغة ملائمة للتوافق مع القانون.

وقد يُمرّر الكذب عن طريق تغييب القانون وعدم مراقبة القائمين عليه للأفعال والأقوال. لكن هذا يحتاج قوة تعادل وضع القانون وتنتهكه. وإذا حدث ذلك فعادةً ما يكون القانون هامشياً في الحياة السياسية والاجتماعية. ولا ينتظَّر من وجوده سوى أن يصبح أكثر تهميشاً كما يحدث مع أكاذيب الأنظمة الحاكمة في غياب المساءلة والنقد. فسيادة القانون غير موجودة من الأساس في مثل هذه الأوضاع إلاَّ بشكل تجزيئي. وأية مقايسة عليها لن تكون إلاَّ في جانب منتهيك القانون. والتغييب قد يأخذ معنى الحجب، أي لا يطبق في حالات قادرة على الاطاحة به (عدم إنفاذ القوانين والتلاعب بها).

ولذلك تُقاس ديمقراطية المجتمع عادة بمدى فعالية القانون ونفاذ سيادته لا تعطيلهما. ونحن نعرف كون القانون حق من لا حق له مباشرة. أي هو حق المجتمع. وإلى وصل الإنسان إلى مفهوم الحق المعنوي هذا قطعت المجتمعات مراحل من الصراع والمقاومة لكافة صنوف الاستبداد وما زالت. لأنه يجسد مشروعية غير قابلة للاغتصاب ولا للتزييف.

ولو تصورنا عكس نفاذ القانون كما في بعض المجتمعات الشرقية، فإن مشروعية الكذب وتبريراته تطغى على أية سيادة أخرى. حتى غدا الكذب أرشيفاً سرياً ومنقوشاً بحرفية خطابية في صحائف الحياة اليومية، في أغلب الأحاديث السياسية والأعمال والعلاقات والعبارات المتداولة. وصولاً إلى أبسط الشئون المشتركة بين الناس، وقد يقال عنه: مجاملة بينما هو مقاتلة، يقال عنه: تسامح وهو ذبح بغير سكين، يقال عنه: خجل بينما يعد فضحاً ضمنياً لبنية التفكير، يقال عنه: مداراةً بينما هو تصريح بالمراوغة، يُقال عنه: قبول بالأمر الواقع بينما هو اسهام في تدميره وتدمير قوام الحياة. عندنا في المجتمعات العربية، تراكم الكذبُ إلى درجة مهولة حتى أكل أدمغة فاعلي الثقافة، وأسس وجوده المراوغ مع المفاهيم السائدة وأنماط الحقائق الاجتماعية. بحيث لا يمكننا فهم شيء دون أخذ الكذب أسلوباً احتياطياً دلالياً كحال احتياطي النفط. والكذب هنا يجري كشيء لصيق باستعمال اللغة، في الخطاب السياسي و الخطاب الديني و الخطاب الاجتماعي... وهلم جرا!!

تدريجياً باتت مشروعية الكذب تزاحم أية مشروعية أخرى، للقانون والحقائق والمؤسسات والأفكار والمعتقدات. ببساطة لأن تلك الأشياء لا توجد دون وجود الكذب في المجال العام، إنه يمنحها زخمها وآلية وجودها. وإن انكشف الإنسان عارياً داخل مجتمعه الحديث كما ينكشف سلفه الأول متوحشاً في الغابة، فما الجديد، ما معنى هذا التراكم، كيف ينتقل من عصر إلى آخر بكل سهولة؟! أتصور أن هذا السؤال لهو سؤال المجتمع والإنسان، استفهام كيانهما وماهيتهما معاً.

 

د. سامي عبد العال

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم