صحيفة المثقف

جَبَّار مَاجِد البَهادلي: تَمَثُّلَاتُ شِعرِيَّةِ الآيرُوتِيكِ الحِسِّي (1)

جبار ماجد البهادليوَالمُستَويَاتُ الجَماليَّةُ لشِعريَّةِ التَّناصِّ فِي غَزَلِيَّاتِ يَحيَى السَّماوِي الجَمَالِيَّةِ

الفَّصلُ الأوَّلُ: تَمَثُّلَاتُ شِعريَّةِ الآيروتيكِ الحِسِّي


 تَقدَّيـمُ الذاتِ الشَّاعريَّةِ:

يَحيَى عبَّاس عبُّود الحِسنَاويُّ، الشَّهيرُ لَقَبَاًبـ (يَحيَى السَّماويِّ)، ولدَ في مدينة السَّماوة بالعراق في السادس عشر من آذار/ مارس عام 1949م (1)، شاعرٌ وأديبٌ عراقي معُاصرٌ من شعراء العصر الحديث المائزين. أسهم إبداعياً بأشكال الشعر الثلاثة: التَّشطيري التراثي القديم، والتَّفعيلي التجديدي الحديث، وقصيدة النثر الحديثة، وفي رفد وإثراء هيكلة جذوة خريطة الشعريَّة العربيَّة في القصيدة الحديثة عموماً، والعراقية على وجه التحديد. وتجديدها بثقافة موهبته الإبداعية الخَلَّاقَة، وأسلوبه التعبيري المتميِّز. وكان شاعراً فكريَّاً فذَّاً، ومثقَّفاً طموحاً، وجريئاً في شعره، وكرَّس قدراً كبيراً من اهتمامه ورعايته الذاتية، وجهده التخليقي الحثيث في خطاباته الشعرية الرصينة من أجل قضية (المرأة) رمز حبِّ الوطن والأرض والحياة.

وقاده شعوره ذلك إلى خوض غمار صورتها المرئية الظاهرة، واللَّامرئية المُضمرة، ووصفها وصفاً حسيَّاً جماليَّاً دقيقاً، لافتاً النظرَ إليها عبر مخياله الفكري في ثنائيةٍ تضاديةٍ بين فنيَّة (الآيروتيكِ) الإبداعي الجمالي الحسّي المُقدَّس، وتقنيَّة (الستربتيزِ)، ذي العُهر الابتذالي الرخيص المُدنَّس_الذي تناوله قبله من الشعراء العرب القدامى، كامرئ القيس، وأبي نوّاس، ومن المعاصرينَ، نزار قباني، وسعدي يوسف، وحُسين مردان العراقي، والكاتب عبده وازن اللُّبناني_ليرتقيَ بآيروتكية الشعر من ثقافة وعاء اللَّذة الجنسيَّة المُفرَغ القديم إلى إبداعية الرغبة الجمالية في الحبِّ الجَسَدِي ذي القيمة الروحية الإنسانية؛ وذلك انطلاقاً من مبدأ القاعدة الدينية النورانية النقلية القدسيَّة التي تؤمن بعرفانية الحبِّ التألُّهية وعذاباته النفسية من أنّ الله جميلٌ خَيِّرٌ ويحبُّ الجمال والسعادة والحقَّ الصادق لِمخلوقاته الكونية ومعبوداته الوجودية على الأرض.

تهدف هذه الدراسة النقدية البحثية المكثَّفة إلى قصدية الكشف عن مكانة المرأة الثقافية، وبيان صورتها الجمالية العشقية في شعره، واستكناه بنية الخطاب الذي تميَّز به في أسلوبه الفنِّي التخليقي، وتوضيحه للمتلقِّي والدارس، فضلاً عن تمظهرات النموذج الأنثوي المُتعدَّد للمرأة وتميِّزه في شعره من حيث جلالة التقديس من وضاعة التدنيس، والرقي الجمالي من عدمهِ، وإشكالية دوافع الإباحي الابتذالي الغريزي، ودورهما الإبداعي الفاعل في عملية الإنتاج والتخليق الابتكاري الشعري الإنساني، وصنعه جماليَّاً وفنيَّاً وروحيَّاً. وكان ذلك الشعور الثقافي الجديد واحداً من أسباب مواصلة السَّماوي خُطَّى مسيرته الظافرة نحو آفاق (المدينة الشعرية الفاضلة)، تلك المدينة الحُلُم، والتي من خلال نوافذها المضيئة، وفنارها الشعري الساطع أطلق السَّماوي الحُريَّةَ لعصافير شعره أنْ تنطلقَ مُحلقَةً في سماء الشعريَّة السَّابعة، كما يؤكّد ذلك نفسه (2)، معتمداً على أسلوبيته المعجمية الشعريَّة الثرَّة، وفقه لغة لسانه الواثب ببلاغته وصدق مناورته.

والقصديَّة التي يتغيَّاها السَّماوي في شعرية الآيروتيك الإبداعية الهادفة تهدف بتجلٍّ واضحٍ من خلال مفاتيح هذه العتبة العنوانية المكثّفة التي تمثّل  (ثريا النصّ) المشعّة، والتي تعتمد دلالاتها النصوصية على بلاغة الإزاحة الفنيَّة والمفارقة الإدهاشية المثيرة، إلى احتضان وعي القارئ المتلقِّي، وشحن استعداده النفسي، وفتح مخيَّلته الصورية، ودمج وعيه الفكري والثقافي على تقبِّل جماليات الآيروتيك الحسِّي روحيَّاً وفنيَّاً في نصوص خطابه الذي أُولى ثنائية التداخل بين (المرأة والوطنِ) جُلَّ رعايته، حيث تتحوَّل فيها الذات الشاعرة وطناً مع الآخر، والوطنُ يغدو حبيبةً مع نوازع الذات في هذا التوحُّد الرًّوحي االجمالي.

مَدخلٌ تَمهيديٌّ:

مُنْذُ مطلع العقد السابع من عمره المنصرم تنبَّه الشّاعر يّحيى السَّماوي واهتدى بوعيه إلى حقيقةٍ فنيَّةٍ مهمّة تُفرِّق بين شاعرٍ، وآخر في الخطاب الشعري، فقد أدرك جيِّداً بأنّ هناك بوناً شاسعاً واضحاً وكبيراً بين  (شاعرٍ نصَّي ٍتقليدي)، يتَّخذ من شعرية النصّ التقليدية الموظَّفَة فنَّاً إبداعيَّاً لخطابة القولي النسقي، و (شاعرٍ فكريٍّ مثقّفٍ) آخر يجعل من نصوص إنتاجه الشعري مشروعاً شعرياً فكرياً ثقافيَّاً فنيَّاً جماليَّاً، يُؤسِّس فيه فكريَّاً لخطابٍ إبداعيٍ واعٍ ومُغايرٍ في جوهر فعله الأسلوبي التعبيري الفنِّي عن رؤيا أسلوبية شاعر النُّصُوصيَّة في فكره وثقافته ومزايا تجدُّده الإبداعي الفنَّي في مرافئ الشعرية العربية الحديثة.

لذلك سعى السَّماوي بفكره الواعي الثاقب وخطواته الواثبة إلى بناء، وتأثيث مشروعه الشعري الثقافي الفكري الجمالي الناهض برمزية المرأة في تشكّلاته الغزلية، وعشقياته  (الحسيَّة الرُّوحيَّة)، والَّذي يُحيلُ فيه صورة الحبِّ الجسدي المجرد الصوري البصري المحسوس إلى روحٍ متحركةٍ متساميةٍ، ويُصَيِّرُ الروح المتسامية جسداً في أبرز صورة من تجلِّيات الحبِّ الإبداعي العرفاني؛ وذلك تماهياً بصورة المخلوق مع الخالق الصانع. ذلك التَّماهي الرُّوحي المقدَّس الذي يَنقلُ فيه ضفاف آيروتيكيا الشعر الحديث إلى صورةٍ تأمليةٍ فكريةٍ فلسفيةٍ روحيةٍ ساميةٍ من صور علم الجمال وفنّه الإنساني بعيداً عن تَرَعِ النزعة الشهوانية.

رسم الشاعر يَحيَى السَّماوي عبر مشغله الفكري لوحَاتٍ إبداعيةً حقيقيةً شعريةً تجريديةً وحسيَّةً مختلفةً عن جمال عشقيات المرأة الآيروتيكية النقيَّة الصَّافية، وقد جاءت مناظر تلك الصور ومشاهدها مستمدَّةً من ظلال الطبيعة الوارفة الوافرة، وعناصرها، وألوانها، وأشكالها، وزهوها، وتألقها، وعنفوانها. هذا ما تؤكّده سيميائية التمظهرات اللَّونية لتشكّلات تلك الصور الطاغية، والَّتي غطّت مِساحاتٍ واسعةً من فضاء عشقياته الحسيِّة التي ركَّزت على أنَّ المرأة في شعره معشوقةٌ روحيَّةٌ مُثلى لا عاشقةً متدنيةً؛ كونها تمثِّل معادلاً رمزياً موضوعياً وطنياً إنسانيَّاً ثقافيَّاً هادفاً. وكما جاء في متن هذه الدراسة أنَّ القصيدة الشعرية الحسيَّة الآيروتيكية التي ينتجها فعل السَّماوي الفكري، ما هي إلِّا خطاب شعري نصيٌّ موجَّهٌ بدلالاته الفكرية والثقافية إلى كيان المرأة المعشوقة المقدَّسة لا المدنَّسة اجتماعياً وشرعياً، والمترعة بجمال صورتها الحسيَّة التي يتفاعل معها فكريَّاً وثقافياً، ويتماهى مع جمال روحها. والمرأة في شعره مثَّلتْ حقلاً رئيساً متجدِّداً من حقول معجمه الشعري العشقي الثَّر، وأخذت مِساحةً وآفاقاً شعريةً كبيرةً لافتةً من عمق تجربته.

وكان موقفه الفكري والآيديولوجي تُجاه المرأة واضحاً منذ بداياته الشعرية، وازداد نضجاً ورسوخاً وسطوعاً وجمالاً في أخريات نتاجاته الشعرية عندما بلغ مرحلةً عمريةً مُتقدِّمةً. وقد توسَّعتْ تجربته العشقية حتَّى فاقت عشقيات نزار قباني في سعة نضوجها وجماليات عالمها الرُّوحي العرفاني للحبِّ. لذلك لم يَعُدّ الحبُّ عنده مجرد امرأة أنثى هي  (الوطنُ) بعينه فحسب، بل أضحى العشق عنده اِندماجاً موحَّداً بين اثنين (المرأةِ والوطنِ).والنصُّ الشعري عند يحيى السَّماوي يُعدُّ عملاً تشكيلياً تجريدياً مُهنَّدسَاً بفنيَّة صوره الحسيَّة والرُّوحيَّة، ينبثق من صميم مخايل تجربته الذاتية الشعورية، وسيماء مقدرته الشعورية التي عبَّرت عن وسيع آراء فلسفته وتطلُّعاته الفكرية والثقافية في محافل الشعرية العربية والعراقية والدَّولية.

وعلى الرغم من جماليات ذلك التشكيل الصوري الفنّي لشعرية العشق فـــ"إنَّ جمالية القصيدة_عند السَّماوي_ ليست مقصورةً على الجانب التشكيلي فحسب، وإنَّما على الجانب الدلالي، والجانب الإيقاعي النغمي الذي يَنساب مع الفكرة أو المغزى الدلالي الذي تضمنته" (3). فضلاً عن بنية الجانب التركيبي لجمالية الجملة الشعرية في تصميم لغةِ هندستها الشعرية التي يتطلَّب معجمها هذه المستويات الأسلوبية.2893 البهادلي

أوَّلاً: التَّشَكُّلَاتُ الرُّوحيَّةُ الجَمَالِيَّةُ لعِشِقِيَّاتِ المَرأةِ

فِي شِعريَّةِ الآيرُوتِيكِ (Erotic)الحِسيَّة

تَوطِئَـةٌ:

إنَّ أغلب نتاجات يَحيَى السَّماوي وقصائده، بل يكاد جميعها يتضمّن أُنموذجاً فنيَّاً للمرأة المقدَّسة بأنواعها، أي المرأة التي نظر إليها في عشقياته الغزلية الحديثة ليست نظرةً روحيَّةً مقدَّسةً فحسب، إنَّما هي نظرةٌ قيميةٌ جماليةٌ عنوانُها الرئيسُ الخيرُ والسَّعادةُ؛ لهذه الأسباب وغيرها يعدُّ هذا الحقل اللُّغوي العشقي الإنساني من أكثر الحقول الدلالية التي احتوتها شعريته تأثيراً وجمالاً وقبولاً في نفوس مُتلقِّيه وقرَّائه ودارسيه. ولا غرابة في كون الشاعر ينطلق في خيوط تلابيب عباءة فنِّه الشعري من قاعدة تأسيس مشروعٍ ثقافيٍ فكريٍ روحيٍ جماليٍ حضاريٍ ينهض شعريَّاً  (بآيروسيَّة) المرأة إنساناً وفنَّاً إبداعياً لا يمكن إغفال تجلِّياته الرُّوحية والجمالية؛ وذلك لأنَّ المرأة والحبَّ وجهان لمعادلٍ موضوعيٍ فنِّيٍ واسعٍ، لتحقيق خطابٍ جماليٍ عشقيٍ يُوْسَمُ في تركيبه اللُّغوي الاندماجي التآلفي  بــالاتّحاد (الحسّ رُوحي) الذي هو محور دراسة النصّ الدلالي لهذا الحقل المتناسل توليداً وتجدُّداً وإبداعاً.

فالحبُّ والعشق صورتان جميلتان مكشوفتان، ووجهان مضيئان متَّحدان لتحدٍّ حثيثٍ متواصلٍ مع فلسفة الوجود الكوني للحياة في أقدس تجلِّياتها الرُّوحية والحسيَّة المجرَّدة، والتي تشغل حيزاً كبيراً من تفكيره العقلي والذاتي. وهذا مما جعل الحقل الدلالي للحُبِّ أو التغزّل العشقي أنْ يحتلَّ المرتبة الأولى في ترتيب حقوله الدلالية في أبجدية معجمه الشعري، إذ تَجُوزُ خُطى تراتيل مفرداته الدلالية الشعرية وكلماته التي تردَّدت بنسبٍ عاليةٍ جدّاً من إجمالي النسبة الكليَّة لحقول خطابه الشعري، وهذا مما يمنحه أحقية التقدُّم على سواه من الحقول الأخرى، فضلاً عن هذا كلِّه، أنَّه يمثل نواة البؤرة الدلالية، وعصبها الدقيق في خطاب السَّماوي الشعري الرفيع، حتّى يكاد أنْ يكون  (كمَّاً ونوعاً) صاحب السِّيادة الإنتاجية، وقمَّة الهرم الإبداعي الفنّي لِسُلَمِ إنتاجه الفكري الذي يتصدَّره إبداع آيروتيكا الشعر الرُّوحي الحسِّي الجمالي.

إنَّ النظر لِسُلَمِ هذا الترتيب الأسلوبي  (العلمي العملي) الإحصائي الممنهج في أسبقية هذا الحقل، وهيمنته على الحقول الأخرى يتطلِّب منَّا موضوعيَّاً معرفة عناصره الرئيسة ومفرداته وكلماته الدلالية الفرعية ذات العناصر الحسيَّة المتَّصلة والمنفصلة، والمتجرِّدة التي تتصل مرجعياتها الدلالية والمعنوية وأنساقها الثقافية بالحقل الدلالي الرئيس مصدر هذه الدلالية المتفرِّعة. وهذا بالتأكيد يعني أنَّنا "لكي نفهم معنى كلمةٍ يجب أنْ نفهم مجموعة الكلمات المتَّصلة بها دلاليَّاً" (4). أي الدلالات المُتجاورة لها والمتَّصلة بها دلالياً وجمالياً. فضلاً عن ذلك أنَّ هذا الحقل بتشكُّلاته الدلالية المتعدّدة يرتبط ارتباطاً وثيقاً ببقية الموضوعات الدلاليَّة الأخرى في معجمه الشعري، ويعمل على توليدها وإنتاجها فنيَّاً وموضوعياً ودلاليَّاً.

وقد تجلَّت نتائج آثار تتبعنا الدقيق لمفردات حقل الحبّ الآيروتيكي الشعري بمختلف تشكُّلاته الحسيَّة والمعنوية أنَّ الدوال أو الكلمات التي يدور حولها هذا الحقل اللّغوي الإبداعي المائز بصفاء عناصر دلالاته اللُّغوية في المفردات والتراكيب الشعرية الآتية:  (السومريَّةُ، الملاكُ السومريَّةُ، نهرُ الأنوثةِ، نَهرُ الودِّ، مَعصومةُ الماءِ، مَعصومةُ البستانِ، مَعصومةُ الأزهارِ، مَعصومةُ الأعذاقِ، حقلُ الأنوثةِ، زُهورُ اللّوزِ، زُهورُ البرتقالِ، قِدِّيسَةُ الشَّجرِ، ضَوئيةُ العُمرِ، مَائيَّةُ النِّيرانِ، مَائيَّةُ الياقوتِ، نَاسكةُ الهوى، سِفرُ الهوى، لَذةُ الفردوسِ، بَساتينُ اللَّذةِ، بُستانِ العِشقِ، آيةُ العِشقِ، العِشقُ البَتوليُّ، إِينانَا العِشقِ والجنسِ والجمالِ، بُثينةُ العشقِ، حُجَّةُ العشقِ، العِشقُ، بُراقُ قلبِي، تُفَّاحةُ الفِردوسِ، حَريقُ الأشواقِ، جَنَّةُ اللهِ، هُدهُدُ البُشرى، ربَّةُ الأمطارِ، شَمسُ عُمري، هِلالُ العيدِ، البدرُ التَّمامُ، الطينُ الفُراتيُّ، مُطَهَّرةُ النَّدى، وَادي المُنَى، شَهرزادُ، الَمرأةُ، الأُنثى، دِجلةُ، المَهَا، الشَّمسُ، النَّخلَةُ، النَّحلَةُ، الرُّوضةُ، الزَّنبقةُ، الفَراشةُ، الهَديلُ، القِيثارُ، الهُيامُ، الهَوى، عَذراءُ، مُولاتِي، البَشيرةُ، القَمرُ)، وغيرها من الكلمات والمفردات الأُخَر.

وتكشف قراءتنا التتبعية لهذه الألفاظ بأن حضورها واستدعاءها قد تَردَّدَ بشكلٍ عادلٍ في ثنايا خطابه، كما تستنطق بتجلٍّ واضحٍ حقيقة هذه الدوال بدلالاتها الإشارية السيميولوجية_التي تستبعد الشاعر وتقصيه من فاعلية المشاركة النقدية للنصّ، وتشير إلى أنَّ المرأة بتشكّلاتها الأسلوبية، هي المؤثّر الفعلي الأساسي، وبؤرة تكثيفِ الفنار الضوئي الحقيقي المُشعِّ بروافد أضوائه الشاحنة لهذه المفردات الدلالية، وأنَّ السَّماويّ هو واحد من بين أهمِّ وأبرز صُنَّاع لُغة الجمال الشعري الحديث، وَمَهَرَةِ احترافهِ القلَّة في تأثيث جسد القصيدة الرومانسية وتخليق روحها ونفخها باللُّغة الحيَّة الناطقة من الداخل شكلاً ومضموناً، وهو حقَّاً "الشاخص الأَمْيَزُ الذي يَعجن اللُّغة[ لغةَ الشعرَ والعشقَ والجمالَ] بالموسيقى عَجناً" (5)، ويخرجها إخراجاً بنائياً فنيّاً جمالياً ¬يُغري ذائقة المتلقّي الحاذق الواعي، ويؤثِّر به تأثيراً إدهاشياً عبر جماليات القراءة، والتفكيك، والتلقِّي، والتحليل والتفسير، والتأويل الهرمنيوطيقي المذهل الجَادِّ لمنظومة الميتا شعر الحداثوي.

وهذا كلّه يشي بأنَّ المرأة في معجم الشاعر السَّماوي اللُّغوي تمثّل له شيئاً كبيراً، إذ قال عنها مُفرِّقاً بينها وبين الرجل: "إذا كان الرجل زهرةً، فإنَّ المرأة هي عطرها.. وإذا كان الرجل سفينةً، فالمرأة هي الشراع والموجة والريح، أنا لا أقصد البُعد الفرويدي في تعبيري هذا، إنَّما أقصد البعد الإلهي كما ورد في سورة النساء، وسورة البقرة، وسورة المائدة، والنور والأحزاب، والمجادلة، والممتحنة، ... المرأة هي رَحمُ الأرضِ بالنسبة لشجرة حياتي المثقلة الأعذاق بعناقيد الطفولة والعشق والصداقة والأمومة وبزهور المسرَّة والحُلم والأمنيات" (6). إذن المرأة عند السَّماوي تمثّل غذاء الروح العشقي الجمالي، لا الجسدي الجنسي الغريزي الفرويدي المبتذل، وهي النسغ الفكري الرُّوحي المُتجدِّد الذي يستمدَّ منه أنساق مرجعيات ومصادر الرحيق الشعري  الثقافي والجمالي في فنيَّة الكتابة الإبداعية التي تتطلَّب أُسلوبيتها الفنيَّة ذلك.

واللافت المُلاحظ على مفردات ودوال حقل الآيروتيك العشقي أنّ أغلب مفرداته وتركيباته اللُّغوية البنائية التي تُشير دلالاتها المعنوية بشكلٍ نصِّيٍ مُباشرٍ، وغيرِ مُباشرٍ إلى المعشوقة (المرأة) أو العاشقة، هي في غالبيتها العظمى توصيفات حسيَّة لمسيَّة في ظاهرها التَّشكُّلي بصوره المتجرِّدة إلى مسامع أذهان المتلقِّي ورؤيته البصرية. وهي في الوقت ذاته تُنبئ موحياتها في رمزيتها عن صورةٍ  (إمجيةٍ) روحيةٍ جماليةٍ في الجوهر الباطني للعشق الروحي. وكانت اختياراته لهذه المفردات اختياراتٍ قصديةً ذاتيةً تنمُّ عن نسائمِ لغةٍ رومانسيةٍ عاليةِ الدَّقة، وبالغة الإحكام الذاتي والفنّي الذي يتَّخذ من المحسوسات الكونية للطبيعة منهلاً روحيَّاً، ورافداً جمالياً يُغذِّي به مخيال تجربته الشعرية في الحقل المعجمي لدلالة العشق، ويعرج بِشِهَابِ المحسوس الجسدي الآيروتيكي غير المبتذل الإباحي الماجن عبر اختراقه منطقة المرغوب الغريزي، وكسر توقِّعه بأدب الآيروتيك الشعري في نسق اللبيدو المُحرَّم أو (التابو العرفي) المسكوت عنه فنيَّاً وجمالياً، والوصول بسارية  (الرغبة في الحبِّ الجسدي) إلى ضفاف محطَّات مرفأ المقدَّس الروحي.

وكان ذلك الطموح الهادف الجريء من خلال تَسلُّق الشاعر المبدع السَّماوي عبر جدار خيط ٍرفيعٍ من الجرأة الفكرية والجمالية يفصل شحنات الآيروتيك الجسدي البايولوجي_بوصفه ظاهرةً فنيّةً أدبيةً_ عن دلالات مفاهيم النظرة الإباحية الجنسية المُدنَّسة التي تفرِّغ الجسد من علاماته الحسيَّة الدلالية الوصفية التي يوظَّفها الشاعر أو الأديب في خطابه النصِّي الإبداعي إلى جسدٍ مُتأسلبِ الإرادة خاضعٍ إلى نسق خطاب الشبق الجنسي الذكوري الغريزي، متغافلاً دور المرأة كونها رمزاً حسّيَّاً وجمالياً قائماً بذاته، له وجوده الفاعل في المشاركة الإنسانية الرئيسة بخطاب عذاب اللَّذة الحسيَّة وألمها العشقي الماتع عبر آليات العلاقة الوجدانية السامية الحميمة في الرغبة بحبِّ الآيروس رغبةً نفعيةً جماليةً إلهيةً في جوهرها.

إنَّ قلماً شعرياً فكرياً فذَّاً صائداً لمهارات الشعرية الإبداعية الآيروتيكية من الناحية الفنيّة والجمالية، لَهوَ قلم واثبٌ، ما يُلقَّاهُ إلِّا ذو حظٍّ عظيمٍ من بدائع الدِّربة الفنيّة والفكرية، ولا يُتقِنَهُ إلَّا القِلَّةُ القليةُ من الشعراء المبدعين بآلية فن وهندسة معمار الشعرية الأدبية العربية والعالمية. كونه فعلاً جمالياً يخترق بثقافة  (الآيروتيكِ) الجنسي المُبهرِ حُدودَ المألوفِ في منطقة الممنوع المُحرَّم الشرعي، ويتسلَّل بوثوقية وإقدامٍ وٍبسالةٍ عبر أقانيم تمظهرات الحسيَّة الجسدية إلى داخل فضاء (التابو) النسقي العرفي، متجاوزاً بخطوطه النارية الجريئة (الحمراء) كلَّ مظاهر الفكر الشرائعي المكتوب والشفهي، وعاداته، وتراثه، وقوفاً عند صور مهماز المثار الجنسي الشهواني التي تخدش فضيلة الحياء، ومن ثمَّةَ الخوض به لغوياً وفكرياً في أنساق المُحرَّمات الثقافية والاجتماعية، ومنتهجاً في نسقه الآيروسي الثقافي الشعري خطّاً شعرياً مغايراً للغريزة الإباحية، يُبعده عن مظاهر الصياغة النمطية التقليدية المقيَّدة بأنماط البنى السياقية المعطوبة المستهلكة، والمحنَّطة بظلال النسق التداولي التَّالف في بنية خطابه الإنتاجي الإبداعي التعدُّدي، والجديد بتشكُّلات شعرية التفاصيل العشقية المُترعة بتسريد أقاصيص وحكايات الغزل الجسدي الحسِّي للمرأة المعشوقة.

لقد حقَّقً السَّماوي رغم إيمانه في الحقل الدلالي للغزل الآيروسي الحسّي خرقاً فنيّاً واضحاً غيرَ مألوفٍ في الولوج إلى مناطق عديدةٍ من مظاهر حسيَّات الجسد الممنوع والمحرَّم دينياً وثقافياً، مُعلناً بإيمانٍ من خلال تمظهرات فنِّ الآيروتيكِ الرُّوحيِ السيرَ بثقةٍ كبيرةٍ في خريطة تصميم مشروعه الفكري الثقافي، وبلغةٍ عاليةٍ مُهذبةٍ بعيدةٍ عن كلِّ أشكال صور الابتذال، والتورية، والغموض، والتعقيد، والإيهام اللُّغوي في إنتاج خطابه الآيديولوجي الفكري، وتصوير شخصياته الأنثوية المبدعة، ورسمها من خلال تجسيد وتجسيم حركة اللَّوحة الشعرية التي تتَّضح معالمها الفنيَّة وأفقها التشكيلي الداخلي والخارجي باكتمال الصورة (المرئية والصوتية) عند نهاية الدفقة الشعورية التي ينتهي عندها القفل الشعري السكوني الصامت.

ومعنى ذلك "أنَّ خصوصية لغة الشاعر، هي التي تشكّل أسلوبه الذي ينماز به عن غيره من الشعراء؛ ولكي  يتحقَّق له ذلك، عليه أن ينحرف باللُّغة عن المألوف من استعمالها، ويبتعد عن نمطية القول المعتادة، فيخلق لغةً شعريةً خاصةً مُستندةً على  (إلى) رؤاه وتجربته، وممثلةً لهما في الآن نفسه" (7). وهذا الانحراف بلغة الشعر الجديد، هو ما أكّده الجاحظ (ت255ه) وأشار له قديماً في كتابه الأدبي  (البيانُ والتَّبيينُ) حين قال: "إنَّ الشيء من غير معدنه أغرب، وكلَّما كان أغربَ، كان أبعدَ في الوهم، كان أطرفَ، كان أعجبَ، وكلَّما كان أعجبَ كان أبدعَ" (8). ولنقرأ ما قاله السَّماوي مُنحرفًاً بجماليات لغته الشعرية، ومُنزاحاً برؤية عشقياته في أخر مقطع له من قصيدته المعبرة عن نفسها (جَهرٌ):

فَأنَا الفُرَاتُ

وَأنتِ دِجلَةُ

والسَّريرُ بِكُوخِنَا شَطُّ العَرَبْ (9)

فالشاعر بموحيات بلاغة لغته الانزياحية البعيدة يُحيل معشوقته المرأة وينحرف بها بلاغياً إلى جمالَّيات الصورة البيانية وفق ماتراه رؤيته العشقية، كونه هو الرائي لها لا الآخرون من الغير؛ لذلك هو بهذه الثناية الجدلية بين (الأنا، والأنتِ) صيَّر رِتمَ صورتها الفنيّة المرئية إلى حركيةٍ  (دجلة) المؤنثة، وهو  (الفرات)النهر الذكوري، وجعل من ثيمة التلاقي الروحي والبصري هي المعادل الموضوعي العشقي الجامع للملتقى بينهما، هو (شطُّ العَربِ) في علاقته الحالية المكانية  (السرير) رمز الاشتهاء العشقي المحسوس.

لقد أبهرنا السَّماوي في شعرية العشق (الجسدي) في مثل هذه النصوص الإبداعية المبتكرة بالتركيز على صورة الجانب الآيروتيكي (الآيروسي) الحسِّي الذي يتخطَّى مفهومه حدود الدافع البيولوجي الفرويدي الغريزي (الحبَّ الجنسي) إلى آفاق عالم الآيروسية الروحي الجمالي، والتي تعني (الرغبة في الحبِّ)، وفق مفهوم  (لالاند) الفكري، أي العلاقة الحسيَّة الكثيفة المُتكوِّنة بين الشاعر العاشق بوصفه رجلاً، وبين المحبوبة المعشوقة كونَها اِمرأةً. وكانت مطامح السَّماوي وأنساقه الثقافية المنشودة العليا فيها، هي "الوصول[في عالمه] إلى [تأثيث] حالاتٍ جديدةٍ أو تخصيص وقائع إضافيةٍ لعلاقاتٍ تراها العينُ المجردةُ، وتستشعرها الحواس القرنية في حدودها الدنيا والقصوى، كالتمثيل الإيقوني  (الصوري)" (10) لحركيتها.

ولذلك فإنّ السَّماوي في مشاهده الشعرية الإيحائية الملتصقة تعالقياً بالمشاهد الآيروتكية يشحن القارئ على تأمُّل تلك المشاهد ويحمله على تدبُّر أفكارها الموجبة والسالبة، ومن ثُمَّ الاهتداء إلى مبدأ المخايرة العقلية في مدى قبولها أو رفضها، كونها تدخل في جوهر التكوين العقلي في النظرة الحسيِّة إلى صورتي المرأة المعطوبة أو المرغوبة، من حيث مفهوم القيمة الجمالية المرتبطة بلذَّة الخير والسعادة، وفي رؤية العالم لها رؤيةً جديدةً تأخذ على عاتقها التفريق بين النظرتينِ (حسيَّاً وروحيَّاً)، لأنّ مفهوم اللَّذة بينهما مرتبط بمفهومي (الخيرِ والجمالِ)، و (الشرِّ والقُبحِ) بعينهما الثالثة اللَّاقطة التي هي عين الشاعر المفكِّر.

وأهمية هذه النظرة  (اليحياويَة) الآيروتيكية الفكريَّة الجادَّة تدفع بنا إلى القول بدلالة فنِّ (الآيروسية) لغةً  وثقافةً، وفنَّاً شعرياً يرسم الكلام شعراً، ويكتب الشعر مخيالاً صوريَّاً إبداعياً مُعبِّراً، بأنَّها "ترفعُ لهباً أزرق مرتعشاً، هو لهب الحبِّ، الآيروسية والحبُّ هما اللَّهب المزدوج للحياة.وأقامَ علاقة بين الآيروسية والشعر: الأولى شعر جسدي، والثاني آيروتيكية لفظية. كلاهما يتألَّف من تعارضٍ تكامليٍ: اللُّغة قادرة على تسمية أكثر الأشياء انفلاتاً وتلاشياً، أي الأحاسيس. والآيروسية هي الجنس محوّلاً إلى استعارةٍ، إلى طقسٍ وتمثيلٍ، والمخيَّلة هي الوسيط الذي يُحرِّك الفعل الآيروتيكي والشعري معاً، المخيَّلة هي القوَّة التي تحوِّل الجنس إلى طقس وشعيرة، واللُّغة إلى إيقاع واستعارة في بلاغة البيان الخطابي الشعري الأصيل. وعلاقة الآيروسية بالجنس، كعلاقة الشعر باللُّغة... ومن البديهي أن ينبثق الجمال من هذه الإرادة في الحالين" (11).ولا نعدم من هذه النظرة الفلسفية المتشاكلة علاقة الشعر الآيروسي والآيروس الشعري  بها.

ودور الشاعر الفذِّ يكمن لسانياً برشاقة فقه لغته التصويرية، وفنيَّاً يَتَمَحوَرٌ عميقاً بإضفاء القيمة الجمالية والأخلاقية على اللَّذة الحسية الآيروتيكية من خلال الرغبة في الحبِّ وأنسنة دوافعه روحياً، وتحريكه حسيَّاً، وإنْ كان ذلك التحوّل اللُّغوي الانزياحي بالواقعة الجمالية افتراضاً مخيالياً للعملية الجنسية في أغلب صور مشاهده الشعرية للواقعة الموضوعية الجماليَّة؛ لكنَّه يعدُّ فعلاً جمالياً إبداعياً ماتعاً.

وحين نُجيلُ النَّظرَ في البحث عن أصول مبعث مفهوم الآيروتيكية، ونتتبَّع جذور معناها الاصطلاحي والحضاري، نجد أنَّ "آيروسَ في الميثولوجيا الأغريقية هو إله الحبِّ والرغبة الإباحية والجنس والخصوبة والسعادة، وكان ملازماً لأفروديت أُمِّهِ، وراصداً لتجلّيَّات الجنس عبر الحضارات البشرية، فصوَّرَ أعمى لا يرى عيوب المعشوق، أو بجناحينِ في زرقة السَّماء، أو عازفاً على قيثارةٍ، أو ممتطياً ظهر دولفين، كما ظهر في الفنِّ القُبطي والمصابيح.. والكلمة آيروتيك erotic مشتقةٌ من الكلمة eroc، أي جنسيٍ وشهوانيٍ، يُماثلهُ في الميثولوجيا الرومانية كيوبيد، والمحاور التي تدور في فلكها الآيروسية هي: الرغبة الجنسية العارمة والجامحة، والجسد والانتشاء ما بين خمرٍ ومجونٍ طائشٍ، وتجاربٍ جنسيةٍ عابثةٍ ظامئةٍ، تتلوى على وتر الشُّرهِ والافتتانِ" (12). ومهمَّة الشاعر تحويل المشاهد الكيوبيدية إلى نقاط عفافِ ضوئيةٍ.

ومفهوم مصطلح الآيروس (Eros) في المثيولوجيا اليونانية_فضلاً عن ذلك كلِّه_يعني كلَّ رغبةٍ حسيَّةٍ عارمةٍ، أو كلَّ هوىً جامحٍ، أوكلَّ ميلٍ شديدٍ لحبِّ الجسد، أو نشدانٍ لشيءٍ بِتَولِّهٍ، أو شعورٍ بوجدٍ شائقٍ للحبِّ الجنسي، يُقابلهُ في هُويَّة الآخر الرُّوحي كلُّ معاني المحبَّة والجمال والخير والسعادة والرحمة والصداقة والحقِّ والإيمان. وقد أخذ مفهوم  (الآيروس) الاصطلاحي عند علماء النفس الَّذين استوعبوه بشكلٍّ عامٍ، وعند سيجموند فرويد على وجه التحديد معنىً دلالياً أكثر شمولاً واتِّساعاً واختلافاً وتبايناً بين طرفي سالب وموجب، فوجد له طريقاً حركيًا ثالثاً من المُباينة (الحس روحيَّة)، بين المفهوم الجنسي بمعناه الدلالي القريب المحضِّ، ومفهوم الرغبة في الحبَّ بشكلٍّ عام (13).وما بينهما نجد متعة الجمالية حاضرةً.

ولكي نقف تجلَّياً عند مفترق أحد الطريقين بين  (الحبِّ الجنسي) الصِّرف؛ كونه مظهراً إنسانيَّاً من مظاهر التمدُّن ونتيجةً من أبرز نتائجه، بل هو من أرقى وأهمِّ عوامل التمدُّن، و (الرغبة في الحبِّ)، لابدَّ وأنْ نفهم ما دلالة كلّ طريق آيروسي؟ إذ "يأخذنا الحبُّ الجنسي إمَّا إلى حدود الفنِّ والإبداع، حيث ينبثق الجمال. وإمَّا إلى حدود الإيمان، بُغيةَ الوفاء بما ندين به للحياة. فحين يرقُّ رجل بين يدي امرأة يكون قد استحوذ عليه شعور خفي بالمديونية للأنثى، وهو شعور أقرب ما يكون إلى شعور الفنَّان المبدع أو المؤمن المتصوِّف لحظة اندماجه في الكون نقطة التقاء بين لا نهايتين" (14). وهذا يعني أنَّ الحبَّ الجنسي هو أظهر أنواع الحبِّ، بل إنَّه الأساس المتين لكل أنواع الحبِّ الحسيَّة والروحيَّة، فهو الجسد المحسوس والروح الملموس الذي لا يمكن تجاهله في عوالم الحياة الدنيوية، وتجلِّيات جمالياتها الكثيرة.

ومن طرف خفيٍ إنسانيٍ وشرعيٍ آخر لا تنحصر رؤية مفهوم الآيروس (الحسِّي الجمالي) بهاتين النظرتين المتباينتين شكلاً ومضموناً، فقد سمَّاه اللاهوتيون بــ (بالآيروسِ الإلهيِ)، أي (الحبُّ الإلهيُّ)، وهو المتَّصف بالوجد الروحي، وقد عدُّوا مفهومه بقوِّة الحبِّ الحقيقية الخالقة، والموحِّدة التي تضمَّنت بتفرِّدٍ مطلقٍ كلَّ معاني الحبِّ الرُّوحي في الجمال والسعادة والمحبة والصدق والخير وحبّ الحقّ ِوالأخلاق  (15). وكثير من الناس لا يُدركون القوّة الحقيقية لهذه الموجودات كما يرى إفلاطون، فالحبُّ ناتج عن كَمَالِ السَّعادة التي تُسَمَّى (عذاب الحبِّ)، والَّتي هي نوع من الألم الخفي الشفيف الّذي يصيب النفس الإنسانية العاشقة وَيُطَهِّرُهَا، إذا لم ينقلب صدى وجد ذلك العشق إلى كُرهٍ وتباغضٍ وتباعدٍ؛ لذلك هو نوع من أنواع الانتشاء والعذوبة الروحية على ما يرى أشهر الصوفية الشيخ الأكبر مُحيي الدين بن عربي.

ومن الباحثين المُحدثينَ من يرى في الحبِّ هذه الرؤية الثلاثية الافتراضية الفلسفية فيقول: إنّ "الجنس مقيَّد إلى الجسد، والحبَّ إلى شيء غامضٍ يُدعَى الرُّوح. فالجنس يهدف إلى الإرضاء الجسدي، أمَّا الحبُّ إلى أرضاء الشخصية وتضخيمها، وتهدف دوافع الأنا إلى تحقيق السيطرة" (16). إذن الجنسُ يتحرَّرُ من شرنقة الجسد، ومن دواخل الجسد وظواهره المحيطية تنبعث الروح الجمالية الخيرة متساميةً بحبّها الروحي الصوفي منطلقةً إلى رحاب التألِّه في آيروسها الإلهي العرفاني الرُّوحي الجمالي الجديد.

ولعلَّ تجلِّيات هذا التتابع الأفقي العمودي التصاعدي لمفهوم الحبِّ الآيروسي، هو ما نجد أفقه الشعري الروحي واضحاً في روح فقه لغة السَّماوي التعبيرية، وفي كمال تضاريس جغرافيا لسانيات خريطة بناء آيرتيكيته الشعرية المُوظِّفة لرموز معشوقته التي ينظر إليها من خلال قيمتها الجنسية المرتبطة بقيمة الجسد، فأنْ تدنَّت صورتها، تدنَّت قيمة الجسد، وتدنَّت قيمتها الأنثوية، وإنْ تسامت العلاقة الجنسية الجسدية، تعالتْ قيمة المرأة الروحية والجمالية على وفق نظام سير هذه النظرة الاضطرادية المتوالية.

وقد يشي هذا التعالق بإنَّ السَّماوي ينظر إلى سمو هذه العلاقة نظرةً ربانيةً روحيةً فلسفيةً جماليةً، فقد يغالبه فكرياً الاعتقاد الشعوري، بأنّ فصل النفس أو الروح وإخراجها من منطقة الحسِّ الجسدي، هو أساس  (العذاب الجنسي)، بل هو منتهى اللَّذة الروحيَّة. وقد يؤمن السَّماوي في غزلياته الرُّوحية وعشقياته الآيروسية بما يستشعره ضمناً أبو حيان التوحيدي في رؤيته الفلسفية لثنائية (الروح والجسد)، حين يرى أنَّ "الجسدَ كثيفُ النَّفسِ، والنفسَّ لطيفُ الجسدِ"، فكثيفُ الجسدِ صفة ثابتة غير مقيّدةٍ لصورة الجسد وكماله، ولطيفُ الجسدِ صفة ثابتة غير مقيَّدة لتملك الجسد، وليس هناك حـدٌّ فاصل معيَّنٌ بين كثيف النفس أو الرُّوح، وبين لطيف الجسد، ومعنى ذلك أنَ الكثيف يُلطَفُ، واللَّطيفَ يَتَكَثَّفُ.أي أنَّ الروحَ أو النفسَ هيَ الجسدُ، والجسدَ هو الروحُ. وبذا تكون (العفَّةُ) عتبةً وعنواناً بارزاً لرمزية الرجل، و (الشَّبَقُ) عتبةً متجليةً للمرأة مصدر هذا الثراء الإغوائي الرُّوحي، والشاعر وسط هذا المؤثر وذاك ثُريا النصِّ الموازي المشعَّة.

وقبل الشروع في تجسيد تشكُّلات شعرية الآيروتيك الحسِّي المشتق اللًّفظي من كلمة آيروس  (الجنسي الشهواني)، والذي هو جزء من تراث وثقافاتِ أممٍ وحضاراتِ شعوبٍ ضاربةٍ في القدم تنضوي في مُجْمَلِهَا على مجموعةٍ من الشرائع الفكرية والدينية والصورية والأعراف والعادات والتقاليد والموروثات الشعبية المكتوبة والمتشافهة بوصفها ديانةً قديمةً أو منهجاً روحيَّاً أو طقساً بَغائياً كهنوتياً مقدَّساً من أشكال العبادات الدينية الغابرة زمكانياً كما أنها تشكِّلُ في الأساطير والرموز القديمة حضوراً مُهمّاً وقويَّاً ولافتاً في الفنِّ والأدب الآيروتيكي الواسع الانتشار قبل ظهور الديانات السماوية الثلاث، وكما تجلَّى ذلك في قصة  (البغي) أو (المومسُ المقدَّسةُ) سيدوري صاحبة الحانة التي أُرسِلَتْ لإثارة وإغواء وأنسنة البطل الوحش أنكيدو بمفاتن أعضائها الجنسية والجسدية، لمواجهة الندِّ كلكامش في الملحمة السومرية الشهيرة.وأنَّ مزيَّة حضور الأدب الآيروتيكي بهذا الوجود الحقيقي، يُعزى مَردهُ الروحي الشعائري كُليَّاً إلى النظر باحترامٍ وتقديرٍ وتبجيلٍ وتقديسٍ إلى جوهر قيمة الإنسان وآدميته، ولأعضائه الحسيَّة الجسديَّة، وخاصةً التناسلية.

ولابدَّ من جدير الإشارة هنا التفريق الدقيق في الأدب، بين مفهومي (آيروتيكية الشعر)، و(الشعر الآيروتيكي) اللَّذين اختلطا على المتلقِّي أو الدارس الواعي بفعلٍ قصديٍ أو غيرِ قصديٍ، لتداخلهما، لأنَّ "هناك مزجاً غير بريءٍ بين مفهومي آيروتيكية الشعر، بما هو حالة إبداعية صافية وحقيقية، وتحتوي على فعلِ خلقٍ جديدٍ، وبين الشعر الآيروتيكي، بما هو حالة تعبيرٍ عن الآيروتيكية الإنسانية كحالةٍ شعريةٍ ساميةٍ، قد لا تُمتَزَجُ" (17).ولابد هنا من الكشف عن تمثُّلات هذه المرأة المعشوقة آيروتيكاً وروحياً:

1- المَعشوقةُ الحِسيَّةُ المقدَّسةُ روحيَّاً وفنيَّاً

ولأهمية الجسد المثيرة في حياة الناس؛ كونه مظهراً ذا قيمةٍ روحيَّةٍ كبيرةٍ لهم، فقد تمكَّن السَّماوي أنَ يوظّفه داخل أعماله الشعرية بوصفه ثيمةً موضوعيةً وفنيَّةً جديدةً، لإضفاء معنىً لغويٍ آيروتيكيٍ حسِّيٍ مُخلَّق ٍجديدٍ يُماهي صورة المرأة الشكلية في تشكُّلات العشقية المثالية التي تقدِّس صورتها الداخلية الرُّوحية في مواجهة النظرة السلبية التي تعانيها شكلاً دونيَّا مُدنَّساً، لا يَمُتُّ بصلةٍ لقدسيتها الروحية التي تُمَجِّدُهَا دينياً واجتماعياً وثقافياً؛ كونها مصدراً للخصب والنماء، وأساس التناسل والتوالد والتكاثر والارتقاء بِعُمارةِ الحياة. ولنقفْ متأمِّلينَ صورتها المثالية المؤثّرة كيف استوطنت قلب الشاعر، وملأت كيانه حبَّاً وجمالاً، لا لأنَّها مخلوقة أنثى تشاطره وقع الحياة، بل لأنَّها مخلوق إنساني فاعل جميل، وكائن حيّ ينتمي للطبيعة ويستمدُّ منها بقاء ديمومة العيش والاستمرارية، بل هي النموذج الحسِّي الصادق والمؤثِّر للمرأة المقدَّسة في فحولة سِفْرِهِ الشعري، إذ يصفها السَّماوي قائلاً ومُصرِّحاً بظلال وأفياء جنتها الشعورية:

يَا جَنَّةَ اللهِ فِي قَلبِي  وَ يَا قَمَرَاً

مِنَ الأُنُوثةِ أدنَانِي مِنَ القَمَرِ

إنِّي عَبَدتُكَ لَكِنْ دُونَ مَعصِيَةٍ (18)

كان لحبِّ المرأة وقعٌ خاصٌ ومكانةٌ رقيقةٌ في قلب الشاعر، فهي القمر الوجودي الكائن المفترض الذي يُقرِّبه من جمال سطوع القمر الحقيقي، وهي الجنَّة التي تتهيَّمها علائق الروح وتسعى إلى بلوغها. ولم يكن ذلك التعلُّق بالمرأة وبحبِّ عبادتها، إشراكاً وكُفراً وإلحاداً ومعصيةً لمفاهيم عقيدته الدينية، بل كان ذلك تقديساً إلهياً عرفانياً، وسعادةً وخيراً وجمالاً لحبّهاَ الجمالي. فهذ التَّعَلُّق الذي أوصله إلى حدِّ العبادة العشقية، والتمسُّك بها كونها أساساً مخلوقةً روحيَّةً تغفر له ماضي شبابه، وتُعِيُد له توازنه الروحي المتَّقِد:

يَا آيةَ العِشقِ لَو تَدرِينَ مَا قَلَقِي     أُردَى إذَا غِبتِ عَن سَمعِي وَعَن نَظَرِي

وَيَا  هَــدِيلَكِ  لَمْ  يَعـرِفْ  لِنَشوَتِهِ   سَمعِي مَثِيلاً سِوَى تَكبيرةِ السَّحَرِ (19)

وهذه العلاقة الروحية بالمرأة جعلت الشاعر لا يتردَّد في صراحته المعلنة حين يعترف بما يعتريه وما يُقلِقُهُ في عشقه لهذه المخلوقة الَّتي يُشكِّل غيابها وفقدانها عن مرأى ناظريه ومسمعيه هلاكاً يفقده حياته. فالمرأة في صورتيها (المرئية والصوتية) لها عند الشاعر حضورٌ لافتٌ يمنحه نسغ روح الحياة. فصوتها الصادح هديل حمامٍ ينتشي بِنَغَمَهِ ويرفُّ له مسمعه، وليس لمثل هذه الصورة الصوتية مثيل إيقاعيٍ يقابله في الأسماع سوى نغم تكبيرة صلاة السَّحر في الغبش الصباحي الجديد (اللهُ أكبرُ ... أللهُ أكبرُ كَبيراً).

وعلى وفق ذلك التصوِّر لا يتوانى الشاعر في رسم لوحته الشعرية لهذه المعشوقة الأثيرة التي سيطرت على كيانه الوجودي، فبلغت مبلغاً كبيراً من السحر والتأثير النفسي والجمالي الذي جعلها متجددةً في بثِّ خطابه، فكانت مرَّةً (جنَّةَ اللهِ)، ومرَّةً أخرى (آيةَ العشقِ)، ومرةً ثالثةً  (قِبلةَ صلاةِ) عشقه الروحي المقدَّس الذي يؤدِّي به فروضه الرُّوحية نحوها معشوقةً لا يُشرك بها أحداً من النساء الأُخَر. فالمرأة لديه رداء قيميٌّ مقدَّسٌ يخلعه على خيمة حبّه وطناً في أقانيم جغرافيته العشقية التي تتوالد أصداءً مُشعَّةً بِمَاحُوْلِهِ الشعري، وهي عنده قصيدة آيروتيكية قابلة للحياة والطبيعة والإنسان، لأنَّها تمتلك قوة الآيروتيك وسحره:

جَرّبتُ أنْ أختَارَ غَيرَكِ

قِبلةً لِصَلاةِ عِشْقِي

فاستَدارَ إليكِ قَلبِي وَالمُصَلَّى (20)

وصورة الوفاء العشقي لهذه المحبوبة التي وظَّفها السَّماوي تُذَكِّرُنا بصدق الوفاء الذي عبَّر عنه سلفاً رموز شعراء الغزل العذري الأُموي على وجه التحديد في التراث الشعري العربي، وما سبقه أو تلاه من عصور الشعر الذهبية للغزل، تلك الصورة التي خطَّها (المجنون) قيس بن المُلَوَّح لحبيبته ليلى العامرية حين خاطبها دون وجلٍ أو تردُّدٍ أو إشراكٍ لمبادئ عقيدته، مُصرِّحاً علناً بجماليات روح الحبَّ، وانثيالات تراتيله العشقية بلغة الحبِّ، لغةِ الاعتراف الجميل الذي تطوَّق به عنقه عاشقا لها، مُحبَّا لتكوينها الحياتي:

أرَانِي  إذَا صَليتُ يَمَّمتُ نَحوَهَا          بِوَجهِي  وَإنْ  كَانَ  المُصَلَّى وَرَائِيا

وَمَا بِيَ  إشرَاكٌ  وَلَكِنَّ  حُبَّــهَا  وَعُظْمَ الجَوَى أعيَا الطَبيبَ  المُدَاويَا (21)

وهذا التحاكي والتقارب النفسي العشقي من صور الوفاء يوحي بتجلٍّ أنَّ السَّماوي قد هضم قصص التراث وفهم موضوعاتها الفنيَّة والجماليَّة والحضاريَّة، وأفاد من شعراء التراث المتقدِّمين، فوظَّف إفادات فهمه بصورةٍ واقعيةٍ حديثةٍ تناسب حركة العصر ومتغيِّراته الفكرية والجمالية، وكان التجديد مستمدَّاً من ظلال الماضي الوارف، وإسقاطه على واقعة الحاضر، واستشرافه الفكري لغدِ المُستقبِل الحياتي الآتي.

2- المَعشوقةُ الآيروتيكيَّةُ المُتَخَيَّلةُ حِسيَّاً

إنَّ دراستنا الثقافية والأسلوبية اللُّغوية لهذا النمط الدلالي المعجمي العشقي من الحبّ لعلَّها توضِّح، وتكشف جانباً مهمَّاً من فكر ورؤية الشاعر الآيديولوجية تُجاه موضوع عشقيات المرأة الحسِّي؛ كونها كائناً حيوياً مهمَّاً في المجتمع لا يمكن تجاوز إيجابياته أو إغفال سلبياته المتشعبة في عملية التواصل الأدبي. وفي الوقت نفسه نطمح أنْ تكون خطوات هذه الدراسة النسقية أضواءً حياديَةً لجوانب من منهج النقد التكاملي الحديث الذي أعتمدناه في تحليل وتفكيك نصوص الشاعر الشعرية بهذه الدراسة البحثية، قد كشفت مرجعياتها الثقافية النصيَّة نسقاً مضمراً مضاداً لهوية الآخر الذي انبثقت منه صورة المرأة وتشكَّلت في الثقافة الأدبية العراقية والعربية الحديثة، النخبوية والشعبوية كائناً مقدَّساً أو مُدنَّساً، وجميلاً أو قبيحاً، ورفيعاً أو وضيعاً، له أثره الواضح في إعادة إنتاج جماليات النصِّ الأدبي الشعري حين يتحوّل إلى خطاب شعر مؤثِّر في أدبيات الشعر وأساليبه الشعرية المعاصرة وفق إبجديات نظرية الشعر الحديثة.

إنَّ السَّماوي  (يَحيَى) في حبّه وعشقياته التغزِّلية قد اتَّحد صوريَّاً وفنيَّاً مع ظلِّ المرأة، وتوحَّد معها _بوصفها مخلوقاً اجتماعياً إنسانياً_ توحِّداً روحياً تامَّاً في بوتقة العشق الجمالي، وخصَّص لها سبعَ مجاميعٍ شعريةٍ، ومدوناتٍ كثيرةً من شعره الغزلي الرهيف لتصوير طبيعة العلاقة الإنسانية (الحس روحيَّة) القائمة بينه، وبينها، والتي شغلت جانباً كبيراً من نتاجه الشعري الحديث الذي جسَّد فيه قيم خصوصيتها، ودورها المدني الإنساني في الحياة، وطناً وأُمَّاً وزوجةً ومحبوبةً وعشيقةً ومعشوقةً لا تُهمَلُ فرائد جوانبها.

وكانت أواصر هذه العلاقة الرُّوحية بينه وبينها سبباً مباشراً في إضفاء الشعور الرُّوحي الجمالي عند الشاعر بالحياة التي يسعى جاهداً إلى اقتفاء أثر المرأة الوضعي؛ كي يحيا وينعم ويعيش بظلال ثمراتها، لعلَّها تُعَوِّض عن الشعور بالمرارة والأسى عن جرح الوطن المفقود، وعن تلك المنافي وعذابات الاغتراب النفسي الذي أكل نصف عمره، مُعلَّقاً كلَّ كيانه الشخصي في وطن ثانٍ مُستعارٍ غير وطنه الحقيقي الأصلي الذي وظَّف له كلَّ حياته الفكرية، وطاقاته الشعرية والشعورية والنفسية، عَلَّهُ يجد في شعره وطناً حُرَّاً يكون ملاذاً آمناً في أُخريات إبداعه، فهو يَعِدُ وطنه الكبير جنةً، لأنّ الجنَّة كما يرى تبدأ من الوطن.

في قصيدته (لاتَذعُري) نلتقط للشاعر مقطوعةً فنيَّةً جماليَّةً من لوحاته الحسيَّة التي يُحوِّلُ فيها فن الآيروتيك الجنسي الشكلي الإنساني المحسوس إلى فنٍّ رُوحيٍ تمتلك فيه القصيدة آيروتيكة الشعر، وتسمو بأثره شعرياً إلى النهوض واللَّمس بمفردات الجسد إلى حالةٍ جماليةٍ فريدةٍ في صورتها المرئية حركياً وصوتياً، وغايته الفنيَّة بثُّ روح الامتاع الروحي، لا الإباحي الجنسي الشهواني الغريزي الحيواني المُبتذل الذي يجعل المرأة وعاءً جنسياً للتفريغ، وانقضاء شهوة الجسدية لا أكثر من تلك النظرة القصورية:

وَدَفَنتُ وَجْهِي

بَينَ قُبَّةِ يَاسمينَ وَبَيدرٍ مِن عَنبَرِ

وَأُمَشِطُ الشَّعْرَ المُبَعثَرَ

فُوقَ فِضَّةِ سَاعِدٍ بَضٍّ

وَوَجْهٍ مُقْمِرِ (22)

في هذا النموذج العشقي للمرأة الرومانسية الحالمة بالحبِّ الحسّي الجسدي الصريح المتوافق بعلاقته  يضفي عليها السَّماوي ببديع بيانه كلَّ ما هو جميل مُذهل ماتع رافع لجلال، وقدر حريَّة هذه العلاقة الروحية التي لا تُحبط من قدسيتها الإنسانية، أو تُهْبِطُ بها كليَّاً إلى صور الرذيلة من قاع حضيض الحاجة الغريزي الممقوت ثقافياً واجتماعياً؛ لأنَّ أفياء عشق الآيروتيك الجسدي الوارف عنده بصورته الكماليَّة (الحس روحية)، تمثِّل بوابةً جماليةً، ونافذةً للإبداع النفسي لا بديل لها، لما فيها من حسن المفارقة وذهول الإثارة والإدهاش، وكسر توقّع المألوف وتهشيم جداره الصلب بجديد ِجِدَةِ استعارات لُغة العشق المحبَّب وصوره الفنيَّة. وهذا ينبئ بأنَّ القصيدة الشعرية إذا لم تكن آيروتيكية لا يُعُوَّلُ عليها أبداً.

وتسمو صورة هذا الآيروتيك الحسِّي عند الشاعر بوعي المدرك لحقيقة الأنثى المعشوقة، حتَّى تصبح عنده صورة خلقٍ جديدٍ فاضلةٍ كعلاقة الشعر بالشاعر وبلغته في بُعدِهَا الإنساني والجمالي الذي يُعلي من سقف نورانيتها العرفانية أداةً رفيعةً جمَّةً للحبِّ والخصب. وهذا التأويل التعضيدي لفلسفة الشاعر يكشف لنا بأنًّ المرأة المعشوقة في قاموسه، تعدُّ قصيدةً وليدةً قابلةً للحياة، وحديقةَ روحٍ غنّاءِ مورفةً بجمال أعراض المظاهر، وخفي أنساق الجواهر الذي لا يجفُّ عطاؤه الدائم ما دامت دلالة المرأة شجرةً قدسيَّةً وارفة العطاء، ورمزاً ثرياً للسخاء.وقد جمع كلَّ تلك المعاني في هذا الثراء اللُّغوي الصوري الجمالي بقوله:

فَأنَا

أخَافُ عَلَى الحَمائِمِ

مِن حَريِر قَمِيصِ نُومِكِ

أو فِراءِ المِئزَرِ (23)

***

يتبع

الدُّكتُور جَبَّار مَاجِد البَهادلي

......................

 (*) من كتاب بنفس العنوان سيصدر في الأيام القليلة القادمة .

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم