صحيفة المثقف

مجدي ابراهيم: القرآن وبنَاء الإنسان (2)

مجدي ابراهيمللذين ذاقوا حلاوة القرآن وصفوه وصفاً لا يجارى، تشرّبوه وكأنما سرى فيهم سريان الدم من مجرى العروق، أحبوه فظهرت محبتهم على سنان أقلامهم بهيجة طرية نافذة إلى أعماق القلوب. ولا شك كانت تلك الأوصاف لضروب الوعي بالقرآن، تلك السجايا العالية التي سطرتها أقلام النَّوابه ممّن عاشوا معه وتمثلوا معانيه وفهموا مقاصده، كانت في غنى عن أيّة أقوال أخرى تُضاف فيما عدا الأقوال التي قيلت عن تجربة.

فما لم تكن التجربة مع القرآن هى الناطقة بالحرف والعنوان، بل وبالمعنى قبل الحرف، وهى الظاهرة للقارئ قبل ظهور ثمرات عقول الأغيار، فقلَّ أن يكون للكلام عنه أو فيه أية فائدة مَرْجوَّة؛ لأنه سيكون إذ ذاك ليس بتجربة شاخصة، ولا يشى بفعل التجربة من وراء المقروء والمكتوب. غير أننا أثرنا أن نأتي قصداً على حرف النابهين ممّن ستأتي تقدّمت في السابق أوصافهم ففاضت قرائحهم بمقاصده؛ لأنها في ذاتها كلمات معاشة فعلاً بالتحقيق قبل الاستشراف؛ فإحالة القارئ على وجاهة الرأي فيها، لكشف المعايشة الفعليّة مع القرآن والممارسة لأفاقه العليا المتسعة، فيه كل الفائدة ولا ريب؛ فإنّ لهؤلاء الرجال النَّوَابِه الهداة آثاراً عميقة تنجلي تحت سنان أقلامهم لتكون قدوة الناظر وملكة القادر وعبرة الثائر ونبراس المجتهد المثابر. ناهيك عما جاء في تلك الأوصاف من سمات منهجية للقرآن بدلالتها المباشرة على بناء الإنسان في النفس أو في الآفاق. فليس أقدر من القرآن : فهمه وممارسه تعاليمه، والنظر فيه على الدوام، وبحث عقائده والتفقه في أحكامه وتأمل سرديات قصصه، والأخذ من كل ذلك بقوة، ليس أقدر منه على بناء الإنسان جسدياً وروحياً، وما يندرج تحت قيم الروح من نفس وعقل وقلب وسر، وكل ما هو متصل بالباطن غير الظاهر المحدود.

من خصائص القرآن ذاتيه وخاصّة - كما أبان فضيلة الدكتور عبد الله دراز- : (1) البيان والإجمال (2) إقناع العقل وإمتاع العاطفة (3) خطاب الخاصّة والعامة (4) القصد في اللفظ والوفاء بالمعنى. وبما أن خصاص القرآن الذاتية تشمل هذه الأبعاد الأربعة، فإنّ كل بعد منها له ما يؤيده من مقاصد القرآن كون تعاليمه دستوراً سلكت السبل المنوعة بالوصول إلى تلك المقاصد لنفس القاصد؛ فقد وعد وأوعد، وبشر وأنذر، ورغب ونفّر، وبنى وهدم، وقوى وَوَهن، ووصل وقطع، وسلك لكل ذلك مسالك خاصّة أدته إلى المكانة التي بلغها من نفوس الآخذين به قديماً وحديثاً. والقرآن من جهة الترتيب آيات مجتمعة، ذات مرام متنوعة، ومقاصد شتى؛ فبينما تتلو آية وعظ إذا أنت بآية جهاد، تليها آية فقه، تتبعها قصة رسول، وهو بهذا يختلف كلياً عن أنظمة الكتب البشرية. وقد عدّ بعض المستشرقين مثل (دوزي) الهولندي، و(كاريل) الإنجليزي وغيرهما أن نظم القرآن بهذه الطرق عيب. وغاب عنهم أن نظام القرآن ليس بكتاب منشئ، أو بحث فيلسوف، فيحسب عليه تعديّه لقانون الكتابة البشرية؛ فيما لو جاز أن يكون للكتابة البشرية قانون، وإنما هو وحي إلهي نزل بحسب الحوادث على صدر رسول الله لا أثر له في تأليفه، ولا دخل لقوته في وضعه. ولو كان هذا القرآن على مثال الكتب الوضعية في الترتيب والتبويب، لكان كتاباً وضعياً ينتفي معه التقديس، وهو ليس كذلك، ولكان حظه مثل حظ كل كتاب؛ فيطالع مرة أو مرتين ثم يسأم، بخلاف القرآن فإنه يطالع مئات المرات ولا يزال يحلو مع تكراره، حتى لا يكاد يسلوه تاليه ممّن تحقق بذاتيته الخاصّة، طرفة عين، ولم يكن "يُخلق على كثرة الرد" أبداً.

ولو نهل "دوزي" و"كارليل" ومن نحا نحوهما من مؤلفي الغرب من فرات اللغة العربية لعرفوا أن القرآن الكريم كتاب لا كالكتب فيه كلام لا كالكلام، لا يستطيع تاليه أن يزعم أنْ لا ترتيب فيه، بل يرى أن الترتيب مهما كان؛ فلسلطانه قاصر على الكلام البشري، يجل عند هذا الكلام الإلهي كما يجل البحر عن أن يحدَّ بما تُحد به الجداول؛ فكما أن كمال البحر في أن يكون رهواً مرتفعاً متلاطم الأمواج، متقابل التيارات؛ فكذلك هذا الكلام العالي كماله وجماله أن يتنزه عن قبول القيود، وأن يكون هو محيط معان عالية لا تنتهي من المعاني إلى غاية، ولا تقف عند نهاية. ليس يشبه كلاماً إنسانياً ولا يشاكل كتاباً وضعياً، يفرق بين المرء وأهوائه، ويجمع بين القلب وشفائه، ويسري بين أطواء الفؤاد، وأحناء السرائر، كما تسري الكهرباء بين ذرات المعادن، فيفعل بالنفس فعلاً لا يغني الوصف كائناً ما كان، عن أن تراه بنفسك. وقد تكفل الأستاذ "محمد فريد وجدي" في مقدمته التفسيرية على القرآن الكريم بالاستفاضة عن هذا الجانب برؤية إسلامية خالصة تعتمد الذوق الروحي أساساً لها وتستفيض فيه وتدعمه بتوجه الذات مفردة في استقباله على الأصالة، وتقريره بالمواصلة، ووضعه أمام القارئ في حكمة وتدبر وإساغة بيان. فما إن تقرأ هذه المقدمة على الصفاء إلا ويتبين لك الإحاطة مع شعف الترقب ثم دخول المؤلف فيما يعالجه بقوة الحجة العقلية من جانب ورباطة الجأش وقوة الشكيمة من جانب آخر، وهما جانبان في الإنسان أعتني بهما القرآن أبلغ عناية : تربية البحث العقلي وتربية العمل القلبي، وهما أبرز ظواهر كاتب المقدمة التفسيرية للقرآن الكريم.

ــ تربية الخُلق القويم:

وكان أهم ما جاء به القرآن في هذا الصدد إصلاح شعبة الأخلاق، فكل شئ في بناء الإنسان يرتد إلى الخُلق القويم، وموافقه الباطن للظاهر، والقضاء المبرم على ازدواجية المعايير الخلقية؛ فليس العلم المعزول عن العمل بمقتضى الشرع بنافع ما لم يشمل حسن الخلق، فلا العبادة ولا النُّظم ولا القوانين ولا الفقه المحفوظ في الصدور، ولا متع الحياة القريبة العاجلة، ولا نظرة الإنسان إلى الكون في مظاهره العامة، ولا أية شعبة من شعب الحياة على التعميم بقادرة على الاستمرار مالم تتضمنها الأخلاق في جوهرها؛ لأن انقطاع الأخلاق عنها، لهو ممّا يهدم في النفوس وفي الحياة الأثر الذي ترتبه الحكمة الإلهية في الإنسان على التكليف بهذه الشعب، والإرشاد إلى التمسك بها من أجل بناء ذاته وارتقاء نفسه وقصود مراقيه.

إنمّا الخلق انفعال النفس وتأثرها بما ينبغي أن يكون؛ فيفعل، وبما لا ينبغي أن يكون؛ فيترك. والعقيدة وما إليها دون الخلق شجرة لا ظل لها ولا ثمرة. والخلق دون عقيدة ظل لشبح غير مستقر على حد قول محمود شلتوت في الإسلام عقيدة وشريعة. ولا دين على الإطلاق بغير تقوى الله وحسن الخلق؛ وهو أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة كما جاء في الحديث الشريف، وهو أساس بناء الإنسان على شرعة القرآن.

ولا بد من وقفة هنا نستوضح فيها تعريف الخُلق فنأتي إلى نَصِّ كان ذكره الجرجاني لنَستدعيه كما استدعى هو نفس النص من الغزالي لنراه يقول في تعريف الخلق: "عبارة عن هيئة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر ورَوِيَّة؛ فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلاً وشرعاً بسهولة سُميت الهيئة خلقاً حسناً؛ وإنْ كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سُميت الهيئة التي هى "المصدر" خُلقاً سيئاً...".

فالهيئة إذن هى المصدر للفعل سواء كان جميلاً أو كان قبيحاً. غير أن هذا التعريف ليس للجرجاني حقيقة ولكنه للغزالي, منقولاً بلفظه وحرفه ونصِّه من "الإحياء" حين شرح الغزالي الفرق بين لَفْظي : الخَلق والخُلق؛ فأورد نفس النص وزاد:" وإنما قلنا إنها هيئة راسخة؛ لأن مَنْ يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يُقال خلقه السخاء, ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ. وإنما اشترطنا أن تصدر منه الأفعال بسهولة ويسر من غير رَويَّة؛ لأن مَنْ تَكلَّف بذل المال أو السكوت عند الغضب بجهد وَرَوِيَّة لا يُقال خلقه السخاء والحلم؛ وليس الخُلُق عِبَارة عن الفعل فرُبَّ شخص خلقه السخاء ولا يبذل؛ إمَّا لفقد المال أو لمانع, وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل لباعث أو رياء ... ولكن الخُلُقَ في رأي الغزالي عبارة عن هيئة النَّفْس وصورتها الباطنة, تتشكل بالتكرار والتعود والمران وبذل الجهد في الممارسة, هذه الهيئة هى التي بها تستعد النفس لأنْ يُصْدُر منها الإمساك أو البذل".

وعليه؛ فالأخلاق إذا هى كانت في رحَاب القرآن تضمنتها بالضرورة أوامره ونواهيه. وإذا هى كانت نظرية فلسفية صارت بعيدةً في الغالب عن العمل والتطبيق, وكانت مُجَرَّد رأي ودراسة ليس إلا. والفرق أوضح من يحتاج إلى دليل بين النظر المجرد والتطبيق الفعلي.

ولم يشأ صلوات الله وسلامه عليه إلا أن يجعل مكارم الأخلاق متعلق رسالته فقال :"إنمّا بعث لأتمّم مكارم الأخلاق". وشدّد في حكمه على المرأة التي قيل له فيها : إنّ فلانة تصوم النهار وتقوم الليل، وهى سيئة الخلق، تؤذي جيرانها بلسانها. فقال عليه السلام : لا خير فيها هى من أهل النار. وبالقياس؛ فإنّ شدّة وقع هذا الحكم على هؤلاء الذين يتخذون الدين ستاراً لنفوس طواها المكر والختل والخداع، ووقفوا من ظاهر الدين عند الهمهمة السطحية والتسبيح البرانيَّ، ثم كثرة التحدث عن الفضيلة وصور العبادات وأشكالها، ولكن نفوسهم منطوية على الغش والمكر والخداع والملق والنفاق. ما أشدّ وقع هذا الحكم عليهم إذ يدبرون السوء ويفسدون ما بين الناس من روابط، مستعينين بشويه الحقائق ودسّ الأكاذيب، والعمل على ستر كل ما يقوض دعائم الحياة الفاضلة. أمثال هؤلاء الفسدة في الناس وفي واقعهم ليسوا من التدين في شيء، وإنْ الله سبحانه لم يجعل الإيمان به أساس دينه، ولم يجعل العبادات أركاناً له، إلا لما تحدثه من أثر طيب في النفوس يكون عنصراً للخلق الفاضل.

ولن تؤدي ازدواجية المعايير الخلقيّة في النهاية إلا إلى تقويض دعائم الأخلاق واستحلال ما بطن من الفواحش والإثم والبغي بغير الحق والقول على الله ما يبغضه الله. والقرآن يقدح في هذا قدحاً شديداً :"قل إنمّا حرَّم ربِّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" (الأعراف : آية 23).

ليس مطلوباً في الدين - على مستوى العمل والسلوك - أن تقول ما لا ينبغي عليك أن تفعل، وأن تفعل ما لا ينبغي عليك أن تقول, ليس هذا مطلوباً في الدين. إنما الذي يكون مطلوباً في الدين هو صلاح الظاهر يأتي من صلاح الباطن. ومن هذا المطلوب تحقيقاً بشعبة الأخلاق يكون الربانيون والشهداء والصالحون، وفي ظلال الأخلاق الحميدة يكون الأئمة والهداة والمرشدون. في ظلها تطهر النفس الإنسانية من الحقد والحسد والنفاق والجبن والكذب والخيانة والغش وما إلى ذلك من الأخلاق السيئة التي كثيراً ما أفسدت على الناس حياتهم وتوارت في ظلمتها القائمة وسائل الخير والصلاح. إنّ صلاح الباطن أساس لكل صلاح ظاهري، ولا بقاء لإصلاح خارجي إلا إذا تركز وكان نتيجة وأثراً للإصلاح الباطني. وشعبة الأخلاق، هى الكفيلة بالإصلاح الباطني، وهى الشجرة الطيبة التي ثبت أصلها وبسق فرعها وطاب ثمرها وأتت أكلها كل حين بإذن ربها. وما من شك في أن قوله صلوات الله وسلامه عليه :" إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب" من أقوى العبارات المأثورة في تقرير القضية الطبيعية؛ قضية الضمير، وهى صلاح الظاهر لا محالة نتيجة لصلاح الباطن.

(وللحديث بقيّة)

 

د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم