صحيفة المثقف

سامي عبد العال: الدين والسياسة.. تبرير مشروعية الكذب (2)

سامي عبد العاللعلّنا نُلاحظ فلسفياً أنَّ (بنية) الدين و(بنية) السياسة متشابهتان، بل متداخلتان لدرجة القرابة من جهة التصورات وطرائق العمل والتأثير. فهناك تراتب وظيفي في الدين أو بالأحرى التدين (الإله – البشر، الإمام- المأموم)، وكذلك هناك تراتب وظيفي في السياسة (الحاكم- المحكوم، الراعي - الرعية). وهناك فعل اعتقاد في مضمار الدين (الإيمان والتسليم)، وهو ذاته فعل الإعتقاد الذي يخلق اشباحاً بين الناس على أثر أفعال السياسة (الثقة وربط الآمال بالأشخاص والأنظمة الحاكمة). وهناك يقين وحُب في دائرة الدين، وكذلك يوجد القبول الساذج والإتفاق التلقائي داخل أعمال السياسة (الخلط بين الغريزة والعقل). وهناك أسرار في مجال الدين بحكم الميتافيزيقا والغيب، وكذلك تُوجد أسرار في مضمار السياسة نتيجة خفاء السلطة وحضور المجهول. وهناك فكرة المصير وتحولات الأقدار في الدين، وبالمثل تظهر هناك ظلال المصير وتغير المسارات في السياسة.

ولذلك يمكن النظر إلى تبريرات الكذب دينياً وسياسياً بصيغة: كيف تتكون إمكانية الكذب في هذين المجالين؟ وبالتالي سيكون من الضروري تقديم فكرة مختلفة لمعرفة طبيعة الدين والسياسة على نحو جديدٍ، وما إذا كان مجال كل منهما منطواً على إمكانية التبرير لفكرة الكذب أم لا.

رابعاً: مجال الدين

هل يمنح الدين مبرراً للكذب؟ قطعاً الإجابة بالنفي، وقد لا يرد إطلاق مثل هذا السؤال لدى المؤمنين في أفق الأديان. إذن: كيف نفهم فلسفياً مشروعية الكذب باسم الدين؟ القضية لو نلاحظ في كون الدين يعطي أصحابه (وهذا من زاوية الممارسة والتطبيق) مبرراً وظيفياً للتحدث باسم الدين، للقول عنه، أي أنَّه يعطيهم قوة استعماله عبر أنشطة المجتمعات. فالدين تاريخياً مع أنشطة الحياة المتباينة يتحول إلى مشروعية (اعتقاد وممارسة) تستهدف التأثير والإنجاز. وهو دوماً إيمان ينزع إلى إرادة عمليةٍ، وبخاصة أن الإيمان عقيدة يجب أن يصدقها الفعلُّ (بعبارة الحديث النبوي: الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل)؟

لكننا سنُلاحظ أنَّ أصحاب الخطاب الديني لا يستطيعون بلوغاً لهذا الهدف العملي بطريقة ذاتية خالصةٍ. أي أنه بالاعتماد على قدراتهم الذاتية يصعب ترجمة ما وقرَ في القلب بكل مصداقية إلى واقعٍ. لا من طريق الدين ولا من طريق خاص بهم، بل اللافت تباعاً أنهم فهموا عدم إتمام ذلك دون (إرادة جمعية) تتبنى مقولات الدين وأفكاره وطقوسه داخل المجتمعات. ولكي تكتمل الدائرة بين (الذاتية والجمعية)، كان لابد من توسيع نطاق المعتقدات من جهةٍ، وكان لابد من (التدخل البشري) جمعياً لحمل لواء الدين من جهةٍ أخرى.

هكذا، فإن أصحاب الخطاب الديني لا ينجزون ذلك دون مدى كبير للتأثير الكلي في المجتمع، أو ما يطلقون عليه (أسلمة المجتمع). وهذا لا يتأتى بفضل وجودهم فقط، إنما استناداً إلى رابطة الإيمان الديني بين أصحابه. فيجب أن يوجد هذا التقارب المنتظر عن بعد بين" الإيمانات " الفردية (جمع إيمان). وهو التقارب الذي يضمن التصديق المتبادل بينها، وبالقطع سيتفاعل رُجوعاً إلى مرجعيةٍ قوةٍ عليا، مرجعية مقدسة هو نظام الإعتقاد. جيث يفترضون إستناداً إليه - عن طريق نصوص وعلامات الدين- التدخل غير المباشر في الحياة. ولئن جاءت الوقائع الملموسة معاندةً لهذا التصور، سيكون التأويل (إذ يجعل الوقائع واقفة بجوار المؤمن) هو نفسه الذي يبرر تحاشيها إياه أحياناً. أي أنَّ المبرر يقف مع إمكانية الإيمان كتأويل وأيضاً يقف معانداً له كنقيض فعلي. فالاعتقاد بوقوف الإرادة العليا لمرجعية الدين (الإرادة الإلهية) بجوار المؤمن هو ذاته الذي يبرر تخليها عنه أحياناً في مواقف أخرى بمقدار إلتزام المؤمن بتعاليم الدين.

لا يعبر ذلك عن شيء بقدر ما ينقل اكتمال دائرة الإيمان مع دائرة التفكير تمهيداً للفعل. وليس ثمة تناقض فيها، لأنَّ ما يظهر متعارضاً في جانب سرعان ما يوافقه التأويل مع بعضه بدلالة المقدس ووجود القوة العليا (الإرادة الإلهية) في جوانب أخرى. فدائرة الإيمان ترفع التناقض أو تجد له تأويلاً، ولكنها لا تلغيه من الأساس. ولعلَّ الإيمان في هذا الاتجاه يحمل صيغة "مع وضد"، شريطة أن يقع داخل نطاق عمل الإرادة الإلهية. تلك التي تفسر: لماذا مع هذا ولماذا ضد ذاك في الوقت عينه. ومجال التفسير الخاص بهذا التناقض هو أعمال الإنسان، توافقاً معها وتقصيراً في فهمها أيضاً. بعبارة واضحة أنَّ أحوال الإنسان، حياته، وأنظمته المتعددة، هي أشياء مُريدة لذاتها ولغيرها حين تسير تبعاً لإرادة عليا.

بهذا يحاول الخطاب الديني العمل على تأكيد اليقين الجمعي باسم اليقين الفردي (تطبيق الشريعة وتديين الحياة). لأن الطرفين يقعان على نطاق واسع في دائرة: "مع وضد". هذا التناقض الإيماني أوسع من حركة المجتمع، وحتى أبعد من تاريخه المحدود الآن. إنه يوفر شعوراً- مع الطابع الشفاهي للخطاب- بالبعد والقرب، بالاختلاف والتماثل معاً. وتلك مسائل يصعب حلها، إي يستحيل إنهاء تناقضها، وإلاَّ لتفكك الإنسان معها. والأحرى سيصبح عرضة للتحلل نفسياً في آخرة دنيوية عاجلة. وتظل حركة "مع وضد" تشكل كل تصرفات المؤمن طاويةً التجارب والمفاهيم وصور الأفراد المحيطين به. ولا يوجد غير احتمالين لحلحلة التناقض. أولهما: التوحد بالإرادة العليا ولا يجرى ذلك عادةً إلاَّ باتباع خطى النص أو تطبيق الأحكام الشرعية. ومن هنا يظل الخطاب الديني مطالباً بحاكمية إلهية ليس إمامه بلوغها إلاَّ بالدنيا. وهذا قمة اليقين الفردي والجمعي حاال تطابق الأقوال والأفعال في المجتمعات.

ثانيهما، البحث عن اليقين الجمعي حيث يحتوي ضمناً "الإيمانات" الفردية. في تلك الحالة ليس المهم: ما إذا كانت المشروعية لأي عمل صحيحةً أم لا؟ لكن الأهم ايجاد سقف عام يجمعها ويُصدّق على الجزئيات النوعية بختم الاعتقاد، حيث يُنتظر أن يغطي هذا السقف أي تباين بالداخل. وبالتالي فإن ما سيصح على التصور، سيغدو صحيحاً بالمثل على الواقع والحياة. وتلك الخطوة ستعطى دفعة لانتهاك حدود اليقين نفسه والإغارة على مصداقيته بسبب أنه ليس كذلك وأنه لن يختفي" الضد والنقيض" (الخير والشر، الحسنات والسيئات، الخطيئة والتوبة) من حياة الإنسان.

أي ستكون ثمة حالات ترفض هذا السقف العام من واقع أفعال الإنسان المزدوجة والمتناقضة ذاتياً. فلو كان هناك فعل معين موجود نتيجة الإيمان بناء على نصٍ ما، فكيف يتحقق على وجه الحقيقة. أي كيف يتحول الإيمان إلى نظام اجتماعي وسياسي وقيمي وثقافي. الكيفية هنا تسلب أية كيفية أخرى من المواقف وتستغل بعضها البعض لفرض نمط وجودها الخاص. وتلك هي الثغرة التي يستغلها بعض مراوغي الدين والمتربحين من سلطته لصالح منافعهم الخاصة. ومن ثم يكون الكذب من جملة الحيل المطلوبة لتمرير تلك الحالة.

سيكون الأمر بتلك الطريقة (ظلاً موفُوراً) للحقيقة الناتجةِ عن الإيمان. ظل وجودها وتداعياتها ناهيك عن الارتباط بالتعبير عنها خارج وجودها لا في ذاتها. إذا أردنا عبارة واضحة، فالوفرة هنا وفرة المحاولة تلو المحاولة لامتلاك الحقيقة والإدعاء باسمها، لا وفرة الحقيقة نفسها. فمَنْ مِنْ المؤمنين لا يرى امتلاكاً لحقيقة الإعتقاد؟ بل مَنْ لا يشعر بسريانه مثلما تسري الطاقة بأنحاء جسده؟ بل بالنسبة لمجال الدين يراه المؤمنون جارياً عبر جميع الأفكار والأفعال والظواهر والحياة.

وهذا ما يجعل منظري الخطاب الديني على ثقة مفرطة بالمستقبل مهما تطورت الحياة أو لم تتطور. كما جاء بالقرآن قوله:" إن غداً لناظره قريب"، إذ تم تأويل القول في بعض الأحيان لصالح التفلت من الإلتزام والتخلق بالآداب العامة. ذلك حين يفعل الإنسان ما عنَّ له من أفعال ثم عند مطالبته بالتزام الأخلاق يقول (إن شاء الله). وهو الأمر المؤجل إلى الغد وإن ظل الإنسان منتظراً إياه طوال الحياة. لأنَّ غداً لا ينقطع عن الوجود مثلما لا تنقطع حقيقةُ الإيمان من وفرةٍ ذاتية.

إذن هناك درجة كبيرة من وفرة الحقيقة على صعيدي التصديق والتحقق اللذين لم يأتيا بعد. بمعنى أننا نترقب الأمر بصيغة: ها هي الحقيقة ستأتي، كأننا نحصل عليها تواً رغم استمرار لحظتها الغائمة تلك دون نهاية. هي ستمثل حينئذ وعداً مطروحاً مع الكلمات والعبارات بمجرد التلقي. لكن أين وكيف بالضبط؟ إنه سؤال عن أشياء غير محددة. ومن ثم فإن التنغيم واللحن في التعبيرات مع الخطابة الدينية أمران يتحينان وفرة المعاني. وهما آليتان صوتيتان لإشباع المستمع بالفيض اللغوي، لاستحضار العالم المعبر عنه. كأنَّ المدلولات ستحضُر حقاً لا مجازاً. وليس من شك لدى صائغ الخطاب في إبلاغ المضمون الوفير للكلمات. فهو يتعامل مع الصوت كمادة طبيعية معرفية ذات حضور ميتافيزيقي كلي. إن مهمته تشبه عملية الخلق للمعاني بطقس الإلقاء كما في الحكايات والسرديات القديمة. فيكون الصوت الجهور والنبرات المشددة والترديد المتواصل أشياء مفهومة بالمغزى السابق. فإذا أعملنا عقلنا نقدياً، سنعرف كم كان الواقع مغايراً لما يُقال. نظراً للقفز الاعتقادي على مقتضى الحال الذي هو السياق.

يعنى هذا أنَّ خطاباً دينياً من هذا الصنف هو" اغراق السياق " بمعانٍ فضفاضة دون حدودٍ. ليست معبرة إلاَّ داخل النطق فقط. هل ذلك نوع من الكذب؟ أليس تناقض الكلام مع الفعل بُعداً عن الحقيقة؟ الإجابة -بحكم تلك الأفكار- لن تكون إثباتاً، إنما ستحمل الفرد على تكرار الحالة. هذا ما اتضح كثيراً في خطابات الجماعات الدينية بعد الربيع العربي. لقد ظل اغراق السياق في ميادين التظاهر هو السمة الغالبة تأثيراً على المتلقين. وباتت المعايير التي نعرف بها  (الصح من الخطأ) غير واضحةٍ. كما لا تستند لغة الخطاب إلى أي شيء سوى زخم الإحداثيات الطارئة على الأرض.

من زاويةٍ أخرى، هناك في خلفية الخطاب الديني قوة استباق للواقع قفزاً عليه أو تجاوزاً له أو اسقاطه من الأساس. وحين يمتلك الخطاب وفرة سلطة، فليس للواقع أدنى وزن، بل ذلك سبب كاف لاجتياح أي واقع مختلف مها يكن. وتلك القوة ذات الطابع المقدس محصنة ذاتياً ضد المساءلة أو التوقيف أو حتى المراقبة. فإمكانيتها – كما يتصور الخطاب- أكبر من أية إمكانية غيرها. بالتالي يعدُّ الواقع مجرد طريق لا أكثر نحو ما يريد الخطاب. وهذا يحول القوة إلى عنفٍ لا يرى أمامه ولا يميز المواقف. وقد يقع الخطاب في محاذير التعدي على الحقوق وحرق المراحل واقتناص الفرص. يُسمى في بعض الأحيان الغلبة والغنيمة والغزوة (كما قيل مع الانتخابات غزوة الديمقراطية). لكنه يقوم بعملية رسم لخريطة الصراع وفقاً لما يخبأه من مآرب. فإذا بنا نخرجها في الوقت المناسب بعد تمكن أصحابه من مواقعهم. ولسان الحال يردد كما قال الشاعر:

ما نيل المطالبِ بالتمني :: ولكن تُؤخذ الدُّنيا غِلاباً.

أما منطق الخطاب الديني عندئذ، فيقول لا مناص من الاستحواذ على الواقع، ضرورة السيطرة عليه قبل أن يلتهمه الآخرون. فالحياة غالب ومغلوب. وإذا كان المؤمنون هم أولى الناس بها، فإنِّ ضمان الإيمان كفيل بإتمام المهمة بالقوة. وهذا المنطق يقول إن التفكير- أدنى تفكير- يمسح أي خطأ بمجرد خطوة إلى الأمام. هو بلا شك سيُغطى بكم من القفزات تجاه الأهداف. حتى إذا سُئل الفاعل لماذا تم ذلك؟ سيقول بسبب امتلاكي للحقيقة كل الحقيقة وهذا سبب. أما السبب الآخر، فأنا أحق وليس أولى فقط من غيري. والدليل أنني موعود بهذا اليقين على نحو كامل. فالدين في أساسه وعد بالغلبة للمؤمنين.

حتى أنَّ الكلمات تتمتع بواقع ذاتي قابل للحركة والسعي من تلقاء نفسه. فهي تتشبث به كما لو كانت حصراً له. هكذا تغدو المعاني أفعالاً لا شيء غيرها. بينما المدلولات (المعاني) -كما نوهنا- فائضة إلى درجة الطوفان عن الدوال (الكلمات والنصوص). القضية أنَّ هذا الاستباق لا يجعل الخطاب محدداً في إمكانيته. أهو يسير بخطوات وئيده أم أنه سيبدل أهدافه كلما سنحت الفرصة؟! الخروج من تلك الأرجوحة لا يتم إلاَّ بالعيش في الحياة. العيش بحسب تجربة واقعية تحول الاعتقاد إلى مجال مفتوحٍ للاختلاف. وهذا الشيء نادراً ما يحدث.

في الوقت ذاته يمنح الخطاب أفقاً للتفلت من مشروعية المجتمع ، بل لا يستند إلى أية مشروعية مقبولة إجمالاً. على أساس كون المشروعية الأهم مأخوذةً من الله مباشرة، فكيف يمكننا انتظار مشروعية أية كيان سواه؟! ولكن يتناسى الخطاب بهذا أنه سيعبر بطريقة أو أخرى عن (مشروعية إنسانية)، حتى لو آمن بمشروعية عليا. الفكرة أنه لم يستطع الوعي بتلك النقطة. ولو وعاها لاستطاع فهم تجارب الآخرين ولتمكن من التدرج في الحياة بحسب مقاصد الشرع.

وهذا الاستباق يُوقِع صاحبة في وهم امتلاك المصير والحقيقة والقوة غير المنظورة. أي سيأتي بالأمور من نهاياتها القصوى. فهو بدلاً عن السير مع الزمن يضع نفسه لاشعورياً عند نهايته. يقول: ما بالنا بأن الخطوات تلو الخطوات بطيئة ولا تتفق وضرورة" التمكين" المنتظر. هذا المصطلح الذي اشتهرت به الجماعات الإسلامية ولا سيما الاخوان المسلمون. كأنَّ السلطة تحديداً هي الوعد الإلهي لهم، فكان نهمهم التاريخي للحكم بلا حدود. صحيح ليس للتمكين زمن معين، غير أنَّه يحمل مصيراً ما. والمصير يعبر عن نهاية معروفة من جانب أصحاب التمكين بالنسبة إلى أطراف النظام السياسي. فإذا كان أحدها سيمكن من السلطة، إذن سيكون مصير الآخرين التهميش والإقصاء. وتلك النتيجة ستخرج من الغلبة التي تحكم قواعد اللعب.

وتباعاً ينتقل الاستباق إلى امتلاك الحياة ذاتها. فالخطاب الديني – لا الدين- يتحدث بنبرة ابتلاع دلالات الحياة، بشراً وحركةً ونظاماً وزمناً ومصيراً في جميع المجالات. أيضاً تحت مبرر أن أصحابه هم الأجدر- دون فهم الحياة- بالسيادة عليها. ستكون حركتهم في أي مجال من المجالات بطريقة المزاحمة، حتى فيما لا يمتلكون قدرات التواجد فيه والأهلية له. مع أن نظرة بسيطة تعرفنا أن هناك نتاجاً علمياً وفكرياً وحضارياً ينبغي تجاوزه كي يستحق المطالبون بالمكانة هنا أو هناك أن ينالوها. من ثم كانت معاني الخطاب الديني ضحمة جداً بينما فحواها ضئيل التكوين والتأثير جداً. من هنا نشأت أفكار التكفير والتفسيق والتبديع والاقصاء في هذا الخطاب، فالحياة حين لا تخضع لهم، يذهبون إلى ملاحقة الآخرين والأغيار بالتكفير.

إنَّ أمراً كهذا أدي بالخطاب الديني إلى تهويم الآخر في معناه الشمولي. فالآخر يقع دوماً في مرمى القناص (صاحب الخطاب). وإذا سنحت الفرصة لن يفلت من الاصابة المباشرة بمعاني السيطرة وممارسة العنف. ويأتي التهويم من كون الخطاب الديني إذ يتحدث عن امتلاك الحياة يجد نفسه محصوراً في زاوية ضيقة منها. لأن الحياة الإنسانية لها قوانينها الصارمة التي لا تسير اعتباطاً نحو هذا الاتجاه أو ذاك. وقد استطاعت الحضارات فهمها ووضع آليات التعامل معها، فأبدعت وانتجت، بينما القول بالهيمنة عليها لم يبلغ إلا مسامع أصحابه فقط.

والكلام سيتوجه إلى أهداف غائمة بقدر العجز عن فهم القوانين وإبداع عالم يعبر عنها ويتفق مع مرجعية الخطاب. لا يمكن التمييز في تلك الحالة بين الخداع والحقيقة إذا أردنا تعبيراً واضحاً عن المقصود. فالمعاني ستكون نوعاً القطع الحاسم تجاه الأشياء والتي لا يمكن القطع فيها ولم تفهم آلياتها. وأحيانا يفسر نصوص الدين خطأ مثل قول القرآن:" ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين". فالقرآن هنا يخاطب المؤمنين دون سواهم، ولكن ما هو الإيمان كمعيار للكلام؟ إنه هذا التدفق الداخلي للشعور بالوجود الإلهي وكتبه ورسله وأقداره وأمور الآخرة وأحوالها. إذن العلو بهذا المضمون ليس له معيار إلاَّ صاحبه، فلم يخترع الناس ترمومتراً لقياس الإيمان.

إنَّ العلو المقصود يأتي للمؤمن من إخلاصه لربه ومن التزامه بذلك التنسك قدر طاقته وإيمانه، وبقدر ما يتم اتصاله بمسببات العلُّو في الواقع. فالتدفق الشعوري ما لم يسنده عملٌّ، يتحول إلى مجرد رصيد نفسي ميتافيزيقي ليس أكثر. كما أن الآية تقول" إنْ كنتم مؤمنين".. وهذا لا يقطع بكون الموصوفين بالإيمان كذلك حتمياً. فـــحرف "إنْ" السابق على كنتم يعطي إحساساً بعدم تملك الإيمان كما نتملك الأشياء المادية ولا التمكن منه تمام التمكن دون ريب. وذلك أولى بالعناية لأنه يفتح باباً للاستزادة والتيقن دون أنْ يمنحهما كاعتماد فوري لكل مؤمن.

يترتب على ذلك: إنّه لو كان الكلام تطييباً لنفوس المؤمنين، فهو دافع للتمسك بالإيمان. التمسك به بوصفه معياراً داخلياً إذا احتكمنا إلى واقع متأرجح وإذا كان مصدراً للحزن والهم والوهن. إذن لفتة القرآن الطريفة هي: عدم القدرة على امتلاك الحياة بقدر ما نمتلك إيماناً. ويصبح الإيمان تعويضاً، بل دافعاً للمحاولة تلو المحاولة لبلوغ ذلك الهدف. وهذا يختلف عن الزعم بأعلويتنا في الحياة لكوننا مؤمنين وحسب. والآية جاءت قصداً بطرح الحزن والوهن في مقابل بقاء الإنسان قوياً بإيمانه حتى تظهر المفارقة. ومن جانب آخر، لا تترتب عليه نتيجة حتمية إلاَّ ضمن واقع معيش يؤكده، ويجعل حرف "إن" قابلاً للإثبات باستمرار. فليس شرطاً إذا كنت مؤمناً أنْ تعلو في الحياة وعليها. في الوقت ذاته يمكن لمَنْ لا يمتلك رصيد إيمانك (أنت المؤمن) العلو في الحياة بحسب قوانينها المادية. في الوضع الأول، أنَّ القرآن استخدم العلو في الإيمان مقابلاً للحزن والوهن. بالتالي مقابلهما سيكونان (الفرح والقوة). وهاتان الكلمتان تأتيان في القرآن بمعانٍ سلبيةٍ، فذكر القرآن: أن الله لا يحب الفرحين، ولا تمشي في الأرض مرحاً. والقوة مرتبطة كذلك بالطغيان والجبروت وادعاء الألوهية سواء أكانت بالنسبة لفرعون أم قارون أم النمرود.

لفظ العلو يأتي مع الجانب الإيماني أو الإحساس بالجليل المقدس. أمّا الحياة، فيرد بشأنها القوة والغلبة. والخلط بين الاثنين تبعاً لمعيار أحدهما ولا سيما الإيمان يدفع بالخطاب الديني إلى التحدث تهويماً عما لا يعلم. يتحدث بلغة مَنْ يتيقن أنَّه يعلم كلَّ شيءٍ بينما هو عكس ذلك تماماً ... ماذا يُسمى حينئذ؟

هناك سمة أخيرة: توقُّع الخير. إذ نجد أن الخطاب الديني يتحدث عن الخير باستمرار طالما أن مصدر الأشياء هو الله. ولو وجد شر مثل الموت والزلازل والبراكين والأمراض والأوبئة، فيُحمل في غايته الخفية على أنه خير أيضاً. وهذه الحالات الطبيعية تسحب على أفعال الإنسان وتصرفاته. معنى هذا أحد احتمالين: إمَّا أن وجود الخير موجود فعلاً، وإما أن هناك مسخاً للخير حتى يتجسد شراً. المشكلة في أن هذه الرؤية تمثل مبرراً لخيرية الشر إذا جاء من طرف أصحاب الخطاب الديني. فقد يكون هناك عمل عنيف وهو شر. لكن منطقه كالتالي: أن هذا الشر شر مؤقت من أجل خير دائم فيما بعد. ونظراً لأنَّ هدف كل شر مؤقت الوصول إلى الخير. إذن لا مناص من الشر بلوغاً إلى الهدف الأسمى. ولهذا نرى القتل المادي والاغتيال الرمزي اللذين تمارسهما الجماعات الدينية واردين بإسم الخير، وباسم الخوف على المقدسات والمعتقدات والقيم من الانحراف في المجتمعات. وإذا سُئل الفاعل: لم فعلت ذلك العنف؟، سيقول إنما لم أفعل ما فعلته إلاَّ بالخير الذي أحمله للآخرين!!

هكذا يتعين التوقع السابق بنقيض الخير لا من طريقه تحديداً. لأن الغاية الخيرة (كما يراها صاحبها) تخترق أي فعل نوعي ولو كان شراً. وهذا سبب آخر يضاف إلى إعتبار الشرور في طريق الخير خيراً أيضاً. بل تعتبر امتحاناً لتحمل الصعاب ولتمحيص معادن الرجال في طريق الهداية كما يقال. وهذا معناه أن مشروعية الكلام الديني المخالف للواقع هي معقودة سلفاً ولا تحتاج إلى فحص ولا إلى تأكيد. لأن جواز مرورها النافذ كامن فيها. فالتوقع من هذا الصنف هو يقين مؤكد ذاتياً، مخزونه الشعوري الخاص ضامن لوجوده. تماماً كما يترك مخزونه التبريري المُمالئ بقعاً من الشك التي قد تتقرح في تكوين الخطاب والفكر.

إذن إختصاراً لا يوجد كذب في نطاق التدين بهذا المفهوم العام في مجالات أخرى. بل الكذب هنا يمسح نفسه أول بأول كمنظف ومطهر ذاتي لما يرتكب أصحابه من أقوال وأفعال. وعليه لا يوجد خطأ واضح تمام الوضوح. هناك آلية خاصة تتخطى السلبيات. صحيحة كانت أم غير ذلك، فليست تلك هي القضية إنما المهم أنه لن توجد هناك آثار لما يحدث من نتائج ولن يتم محاسبة أحد عليها من حيث المبدأ.

خامساً: مجال السياسة

السياسة هي أقرب المجالات من حيث التشابه والتكوين إلى الدين كما ذكرت، إن لم تكن هي ترجمة حرفية للخطاب الديني. وشاءوا أم أبوا، سينزلق رجال السياسة وراء دلالة النبرة الدينية تأسيساً وتخريجاً، لأنها أحد مفردات الهيمنة على الشعوب. والسياسة من تلك الجهة هي (إلباس الدين) بتكتم وسرية (لباس اللادين). فلابد للسياسي أنْ يحول الدين إلى سياسةٍ. وتشكل المسألة على المدى الدين وضعاً مقلوباً. الإله بالأرض والشعب في السماء، عملية قلب للعالم ولصندوق الاعتقاد تبعاً لوضعية السلطة. فإذا بفتحة هذا الصندوق السري إلى الأسفل وقاعدته بالأعلى. أي أنَّ الشعوب تجأر من الظلم إلى الله وتحلق في السماوات والأكوان بحثاً عن خلاص بينما يستولي الطغاة الكذابون على الأرض كآلهة من طين!!

تعتبر السياسة من ثمَّ تقديساً أرضياً بلغة الدنيا. هي (دنيوية الدين) في طابعه الجذري الذي يحدد ماهية الأشياء وعلاقة الإنسان بها. وما لم نأخذ هذا التحول أساساً في فهم عمليات الكذب، لن ندرك لماذا يتشابه الخطابان الديني والسياسي. يتماثلان من زاوية طرح المعنى بضمان (الغيب السياسي) في الثاني و(الغيب الديني) في الأول. وهو نفسه الضمان الذي يبرر أي قول دون أهمية التحقق، أو يمرر تسويفاً دون أجل محدد. وإنه الضمان الذي يوقّع "هول التخيل" لدى المتعامل مع هذين الخطابين. ويطرح الخطابان الديني والسياسي بهذه الصيغة المزدوجة انتظاراً لرود الفعل المؤيدة والداعية إلى الإلتزام بهما. كأنهما يصران على تلقى ردود الفعل المقبولة كما يريدان وكما يبغيان.

وهذا هو الباب الواسع للكذب وإطلاق سراح الشائعات في السياسة، فلا ينتظر رجال السياسة من الشعوب متابعة أفعالهم وأقولهم، ذلك بموجب التغطي بعباءة السلطة المغلظة بالعنف تجاه المخالفين. ولو تدخل أحدهم، فسيكون عُرضة للبطش والتنكيل كما رأينا في التاريخ القريب والبعيد للأنظمة العربية الحاكمة. وكأن السياسي يردد: المواطنين يجب أن يُساءلوا، وينبغي أن يخضعوا للنقد والأمر والنهي، أما رجال السياسة فلا يخضعون لذلك الشأن إطلاقاً. وذلك الأمر جزء لا يتجزأ من تقديس الحكام ومن بقايا الأساطير التي تسكن أدمغتنا حتى اللحظة.

إن الأكاذيب تنبت في السياسة بين الفينة والأخرى، لكونها مجال (المحظور البديل) من توسيع قاعدة السلطة ونتيجة الإختباء غير الواضح بها. وهذا هو ما يجعل البذور لكل كذبة كبري موجوده بالقوة ضمن هذا المتن القابل للتكرار بحسب درجات الحرية وتكوين المجتمعات واختلاف السياق ونمط السلطة النافذ لدى الأفراد والجماعات.

الحاكم في نظمنا السياسية الحاكمة (نصف إله)، وأحياناً كثيرة (إله كامل) لا يُصدّق ولا يكذّب، كلامه خارج هذه المعايير الخاصة بالشعوب. يقول ما يريد القول، يزعم ما عنَّ له الزعم، يرددُ ما نفذ الترديد إلى مداه .. كلُّ ذلك بلا أدنى إمكانية للمراجعة ولا المساءلة ولا محاولة التحقق مما يقول. دائما يطلق العبارة المحذرة من الإقتراب من وجوده، يرى نفسه فوق القانون وعلى أكتاف الشعوب.

ولذلك تعدُّ الشفافية Transparency أول قاعدة للديمقراطية، ولا يجب أن تتأخر عن مكانتها تلك كأنها أداة من أدوات الحكم. فليست هناك ديمقراطية ولا توجد إمكانية للتعبير عنها وتدعيمها بخلاف الشفافية. لأن الشفافية هي الدائرة الأكبر من الإجراءات والأنظمة والقوانين والإجراءات السياسية. حتى أنها تعتبر أوسع من نظام الحكم ذاته، نظراً لإرتباطها بحق المعرفة وحق التنوع وحق الفهم وحق الحياة المشتركة وحق الحرية تجاه السلطة وعسف القوانين.

والشفافية هي قدرتنا معاً على أنْ نعيش (بوضوح وحرية واعتراف) داخل المجال العام الذي يلتزم فيه المواطنون بمعرفة كل شيء وإطلاع الآخرين على كل شيء. وليس (من حق) النظام الحاكم إخفاء أية تفاصيل ولا خلفيات الأحداث والأعمال والسياسات عن المواطنين. وهذا الوضوح يحتاج أشياء كثيرة لا تقل عن تغيير طبائع الثقافة ونمط العيش وطرائق التفكير وجوهر السياسة وفكرة السلطة ووجود الآخر المتنوع.

إن الأنظمة السياسية التي تتسربل بالأسرار وتتزي بالغموض سيكون مصيرها السقوط عاجلاً أم آجلاً. لأنَّ انعدام الشفافية سينتهك جدار الثقة المفترض وسيفتح باباً لجحيم الأكاذيب التي لا تنتهي، حتى أن النظام الحاكم نفسه قد يتحول بين ليلة وضحاها إلى كذبة مهولة بحجم الدولة. وللأسف لن تنفثئ هذه الكذبة من انتفاخها المذهل بسهولة، إنما ستنفجر مدوية بطول التاريخ وعرضه. وسيصعب التخلص من روث الأكاذيب السياسية إلاَّ بتنظيف الأدمغة وتطهير الممارسات وتقوية إجراءات وقيم الديمقراطية، مما سيأخذ عُقوداً من إعمال مبادئ الشفافية والصراحة بين المواطنين والمؤسسات في المجال العام.

 

سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم