صحيفة المثقف

محمود محمد علي: فالح عبد الجبار.. اليساري المناضل

محمود محمد عليتحتفي المجتمعاتُ المتحضّرةُ بأعلامها الملهِمين الكبار، فتنشر آثارَهم وتعرّف بها في حياتهم، وتوّفر لهم أفضلَ الفرص، وتقدّم لهم ما يؤمن لهم حياةً حرةً كريمة، لأنها تدرك أن قيمةَ الأوطان تُكتسب من رصيدها الحقيقي بحضورِ هؤلاء الأعلام ومنجزِهم الكبير، لكن أكثرَ الناس في مجتمعنا لا يهمّهم الاحتفاءُ بالملهِمين الكبار في وطنهم، وإن كانوا يحتفون بأعلام ينتمون إلى أوطان أخرى، وتنفق وزاراتُ الثقافة والتربية والتعليم والمؤسّساتُ الأدبية والفكرية الحكومية وغيرُ الحكومية ميزانياتٍ فلكيةً من دون أن تخصّص جوائزَ لتكريم المفكرين والمبدعين من ذوي المنجز المميز.

اليوم أود أن أحتفي بالكتابة عن علم من أعلام الفكر والثقافة العراقيين والعربيين التقدميين المعاصرين، وواحدا من مشاعلهما المتوهجة، يضج بالحيوية والنشاط، ولا يكف عن الغور في حياة مجتمعنا وسبر اعماقها، باحثا عن مخارج لمآزقها وحلول لأزماتها، وكاشفا بتواضع العالم عن الجديد دائما في هذه الميادين، وبما يقدم عونا ثمينا للساعين الى معالجة معضلاتها، والى خير الناس ورقي البلاد.

وفالح عبد الجبار هو مناضل سياسي ، وباحث دؤوب في طبيعة المجتمع العراقي، وتشكيلاته القبلية والاجتماعية والمعقدة، ومساره السياسي الذي لا يقل تعقيدا ، ألا وهو الأستاذ الدكتور فالح عبد الجبار ، ذلك العالم والمفكر العراقي الذي تسلح نظرياً بالفكر الماركسي عبر مصادره الأساسية. فصرف 20 عاماً في ترجمة رأس المال عن الإنجليزية، مقارناً إياها بالنص الأصلي بالألمانية، التي بدأ يتعلمها من أجل هذا الغرض، يتحدث اللغة الإنجليزية والألمانية بالإضافة إلى لغته الأم، وله حضورٌ إنساني شفيف يتدفقُ حياةً وذكاءً ومعرفةً ونبلًا. إضافة إلى كل هذا إنسانًا يتسم بأعظم درجات النبل والكرم والوفاء..   فالح شامخٌ في شخصيته، عنيدٌ في تفكيره، وثوقياتُه الفكرية والايديولوجية والسياسية لا تقلّ عن وثوقياتي الإيمانية، لذلك عندما يتحدث أستمع إلى لغةٍ لا تخلو من مقدّمات جزمية ونتائج يقينية حاسمة، على الرغم من أن حضورَ الجزميات في علومِ الإنسان والمجتمع أقلُّ بكثير من العلوم البحتة والطبيعية.. فالح عقل مستفز، وكل عقل يستفز عقلي يوقظ ما هو نائم فيه، أحترم فالح لأن عقلَهُ الشجاع كان يستفزني، ولأنه كان لا يستحي أن يقولَ كلَّ ما يعتقد به وإن كان مثيراً.

وظل فالح عبد الجبار منذ عدة عقود يخوض معاركه الفكرية والبحثية دون كلل، ولم يتعب من التفكير والاجتهاد في كل الميادين والمواضيع التي اشتغل عليها. وقد أدرك فالح، ومنذ وقت طويل، "أن الثقافة بُعدٌ من أبعاد السلطة، وأن للمثقف، بوصفه حاملاً ومنتجاً للمعرفة، دوراً يلعبه في عملية التغيير، لكنه أدرك، في الوقت نفسه، أن النضال الثقافي وحده لن يحقق التغيير" وهكذا افتتح الفقيد مسيرته الثقافية والفكرية والنضالية الوطنية في احضان الحزب الشيوعي العراقي.

وكان فالح عبد الجبار يعمل بطاقةٍ مؤسسية لا بطاقةٍ فردية، إذ ظل حريصاً طوال مشواره الفكري أن لا يتصدى إلا للقضايا المجتمعية الملتبسة ذات الجذور المتعددة المستويات، وذات المخرجات العملية المتداخلة الدلالات في آن معاً. ولذلك ملأ زمانه، وسيظل يملأ زماننا الحالي والقادم، لأنه ببساطة "جازفَ" بمقاربة الكليات السوسيوسياسية، ونجح في تأطيرها عقلياً في كل مرة، حتى حين كان يوغل في الجزئيات والتفاصيل. حقق كل ذلك مرة واحدة ودفعة واحدة: التأليف الفردي، والمداخلات العامة، والبحث الجماعي، وتأسيس المشاريع الأكاديمية، وإطلاق مشاريع النشر والترجمة.

فالح عبد الجبار مثقف نقدي مستنير، مسكون بحلم النهضة والتقدم، آمن بمبدأ النقد والنقد الذاتي. وسعى في حياته لاقامة الحوار الدفين بين العقل والدين والتاريخ، ومارس الكتابة الفكرية الفلسفية بوجهيها السياسي والايديولوجي، وشكل نموذجًا متفرد للمثقف العقلاني الأصيل في الفكر اليساري العراقي والثقافة اليسارية العربية.

ولد فالح عبد الجبار في بغداد عام 1946 ، وعمل في شبابه خلال منتصف سبعينات القرن الماضي، في جريدة "طريق الشعب" حيث عمل محرراً في قسم الأخبار الدولية ثم سكرتير قسم الشؤون العربية والدولية، ولاحقاً سكرتيرا للتحرير. غادر عبد الجبار العراق في بداية عام 1979 الى براغ، بعد الحملة الشرسة التي قامت بها أجهزة السلطة الدكتاتورية لتصفية كوادر الحزب الشيوعي العراقي. ثم انتقل إلى بيروت، ومنها التحق بصفوف حركة الأنصار التابعة للحزب، حيث ناضل في جبال وسهول ووديان كوردستان بسلاحه وكلماته و صوته .

وفي اواسط الثمانينات، غادر الفقيد كردستان متنقلا في عدد من المحطات منها (سوريا، لبنان، المانيا)، وفي مطلع التسعينات استقر في العاصمة البريطانية لندن، حيث نال شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من كلية بيركبك بجامعة لندن في العام 1999.

وشغل الراحل العديد من المواقع الأكاديمية المهمة، كان آخرها مدير معهد الدراسات العراقية في بيروت، وعمل سابقا محاضرا في إحدى الجامعات في لندن، كما قاد مجموعة بحث المنتدى الثقافي العراقي في كلية بيركبيك التابعة لجامعة لندن منذ عام 1994، وعمل مديرا للبحث والنشر في مركز الدراسات الاجتماعية للعالم العربي ومقرها في نيقوسيا وبيروت للفترة بين عامي 1983-1990.

وفي فجر السادس والعشرين من شباط (الشهر المشؤوم)/ 2018 غادرنا فالح عبد الجبار في رحلته الأبدية المفكر وعالم الاجتماع والشخصية السياسية والأكاديمية المرموقة الدكتور فالح عبد الجبار إثر "جلطة قلبية". هكذا إذن رحل بُغتة وهو في اوج نضجه الفكري وعطائه المعرفي يخوض معاركه من اجل التغيير والحداثة. لذا فان هذا الرحيل المبكر يشكل خسارة كبيرة للثقافة الوطنية والديمقراطية العراقية ولنا نحن اصدقاءه وقراءه وأحبته الكثر.

كان فالح إضافة إلى كل هذا إنسانًا يتسم بأعظم درجات النبل والكرم والوفاء… فالح عبدالجبار رحل مبكرًا وبشكل مباغت… هكذا من دون سابق إنذار.. رحل المؤسس الثاني للشخصيّة الاجتماعية العراقية بعد علي الوردي.. رحل عبدالجبار ولم يودّع.. لم يكن يفكر لحظة في هذا الرحيل…

وقد نعاه الباحث والمؤرخ العراقي، رشيد الخيون، في تغريدة له على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي تويتر قائلًا: "رحيل فالح عبد الجبار وفي هذا الوقت خسارة لا تعوض، كان بفكره وبقلمه وبصوته ومركزه وبحضوره باحثا وكاتبا معاندا للتخلف والانحطاط. أجد صعوبة في بث كلمات الرثاء، فقدك يا فالح غدرني وغدر بجبهة فكرية وثقافية جمعتها وشكلتها محنة عقل وضمير ووطن، تركت تراثا قيما فيه عمق الفكرة وصلابة الموقف".

رحل فالح عبد الجبار تاركاً أسئلة طازجة كثيرة كان قد وعدنا بتقديم إجابات وافية عنها عبر مشاريعه التي لم تعرف الكلل أو الإحباط يوماً، إذ غادر مسرعاً منصاعاً لفكرة الموت البيولوجي السقيم والعبثي. وإذا كان قد ترك شيئاً جوهرياً لا يصدأ في عقول مجايليه وتلاميذه وقرائه، فإنه سيحقق حيزاً مؤكداً وثابتاً له أيضاً في ذاكرة الباحثين الشباب القادمين ممن سيجدون في مؤلفاته ومحاضراته ومقابلاته المتلفزة رصيداً مدهشاً لا ينضب، يتعلمون منه كيف يمكن استيعاب مجمل التطور الاجتماعي الغامض التكوينات والغايات، ببضعة مفاهيم آسرة كان وحده يجيد مزجها ببعضها على نحو تفسيري يبطل سحر المعطيات الكلية المعقدة.

إن حياة الدكتور فالح، على امتدادها الواسع، كانت حافلة بالعطاء في العديد من ميادين المعرفة المختلفة، درسا كبيرا لأجيال عديدة من اصدقائه وأحبته وتلامذته، وعزاؤنا ان الفقيد الكبير ترك لهؤلاء، وغيرهم أيضا، إرثا طيبا من المنجز البحثي والمعرفي، ومن المواقف الأصيلة والذكريات الطيبة والسلوك الإنساني الرفيع والروح الشفيفة سيظل يتحدث عنه، ويذكر به، ويبقيه حياً دائم الحضور بيننا؛  فقد كان باحثا ماهرا يعرف صنعته جيدا بما قدمه من إبداع أصيل ومنجز بحثي مهم، سيظل محفورا في الذاكرة الجمعية. ورغم رحيله المبكر والمفاجئ سيظل فالح يشاركننا جلساتنا وصخبنا وأحلامنا وآمالنا واختلافاتنا حول الطرق الجديدة غير المطروقة ... فالاختلاف كالحراثة في الأرض، تجرحها سكة المحراث ولكنها تمنحها العافية والغلال.

أصدر الراحل كثيرًا من الدراسات الاجتماعية الخاصة بالمجتمع العراقي والفكر الماركسي ومن أهمها: «الدولة والمجتمع المدني في العراق»، و«الديمقراطية المستحيلة والدولة الممكنة»، و«معالم العقلانية في الفكر العربي» و«المادية والفكر الديني المعاصر»، وكذلك كتاب «دولة الخلافة: التقدم إلى الماضي («داعش» والمجتمع المحلي في العراق)»، «العمامة والأفندي»، و«الدولة والمجتمع المدني في العراق»، و«معالم العقلانية والخرافة والمادية»، و«الفكر الديني المعاصر»، و«بنية الوعي الديني والتطور الرأسمالي»، و«فرضيات حول الاستراتيجية»، و«المقدمات الكلاسيكيّة لنظرية الاغتراب».

إضافة إلى كتاب سمّاه «الديمقراطية المستحيلة» ودراسة عن أسباب العنف قدمها إلى منظمة اليونسكو ونشرتها في «كتاب في جريدة» الذي كان يصدر عن المنظمة وعنوانها: «في الأحوال والأهوال" ، وتوج كل هذا الجهد الميداني بدراساته النظرية مثل «فرضيات حول الاشتراكية» و«المقدمات الكلاسيكية لنظرية الاغتراب»، وآخر كتبه في هذا المجال «الاستلاب»، الذي صدر قبل شهرين فقط، واضح فيه تطوره النظري والفكري الباهر.

وقد ظل فالح  عبد الجبار يسارياً وهو في أقصى حالات نقده للماركسية وانفتاحه على مدارس علم الاجتماع الأخرى، إذ لم يغادر أبداً فرضية أن الفكر العلمي الأكاديمي ليس ترفاً معرفياً محايداً، بل له غائيته الساعية لتغيير التاريخ إلى وضع أكثر عقلانية في علاقة المحكومين بالحاكمين، وفي اعتماد أسس منصفة لإعادة توزيع الثروة، وفي إمكانية أن يتدخل (أي الفكر العلمي) دوماً لبلورة وعي سياسي جماعي متقدم عبر التأثير في العوامل المادية المنتجة لذلك الوعي، لا سيما من خلال التأثير الإيجابي في نسق العلاقة بين السلطة والمجتمع. فالناس قابلون دوماً للتغيير بفعل السياقات المستجدة، أي مرشحون دوماً لإعادة إنتاج ظروف حياتهم بما يجعلهم أقرب إلى إشباع حاجاتهم المشروعة المستلبة، وهنا على الفكر العلمي أن يسهم في استكشاف هذه السياقات والعمل على إنضاجها.

وهو في يساريته هذه ظل عقلانياً وأمبريقياً، على نحو فريد، إذ زاوج بهدوء وسلاسة بين التفكير العلمي والنزعة الأخلاقية دون أن يُفسِد أياً منهما، بل تلاقحا حد التماهي. فكانت بصمته التي ستبقى ماثلة في الثقافة العراقية: إنه المفكر المهموم بقضايا المستضعفين، دون أن يفقد ارستقراطيته الأكاديمية.

وأخيراً نقول .. وبهدوء وحزن وإشراق.. أن رحيل قامة لا تتكرر كفالح عبد الجبار قبل أوانه، مغترباً خارج وطنه رغم التصاقه الروحي به، ودون إسناد أو تقدير كافيين من مؤسسات بلده، تجعلني أسترجع بأسىً القيمة الكبرى التي لطالما التصقت بكبار المفكرين الاجتماعيين: قيمة الوفاء لمجتمعهم وناسهم وذكرياتهم الأولى رغم كل شيء. وببساطة، كان فالح وفياً لأفكاره وللعراقيين الذين أحبهم كثيراً، ولذلك فإنه ككل الكبار رحل ليبقى أبداً..!

وستبقى ذكراه مضيئة في قلوبنا، ويبقى الارث الفكري والثقافي التقدمي الذي تركه لنا يسهم في انارة عقولنا، ويبقى عنفوانه الذهني محفزا لتفكيرنا وتطلعنا الى غد عراقي لا ريب فيه، واعد وصاعد على الدوام. ، وسيبقى خالدًا مخلدًا في ذاكرة المثقفين وفي قلب تاريخ الكفاح اليساري العراقي والعربي، ووداعًا

 

د. محمود محمد علي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم