صحيفة المثقف

فكتور بيلفين: أصل الأنواع

2902 victor pelevin 1بقلم: / فكتور بيلفين

ترجمة: صالح الرزوق


 أغلق شارلز داروين الرتاج، وكان فوق رأسه، بدوي صاخب، وهكذا غابت أصوات الرجال الجالسين في الأعلى على الرصيف، ثم انزلق بصمت تحت الرصيف. تمسك بيده بالسور، الذي يلمع من الاحتكاك براحات أيدي الناس، وقبض على جسم الشمعدان المزود بشمعة سميكة بيده الأخرى. وحينما ابتعد عن آخر سلمة وسمع صريرها، أفلت السور وتقدم للأمام بحذر بالغ. كانت الأرض مغسولة، وجاء من الشمعة ما يكفي من الضوء ليميز الجدران الخشنة، وبرميلا دبقا، وعدة حبات بطاطا ملقاة على الأرض، وصفوفا طويلة من حاويات خشبية متشابهة محاها الظلام المتزايد بالتدريج. وكانت الحاويات مثبتة على الجدران بأسلاك قوية، وممدودة على طرفي الممر. تقدم داروين عدة خطوات إضافية، وأمكنه مشاهدة عدة براميل نبيذ وبضع أكياس مكومة في العتمة بمحاذاة الجدار. واتسع عرض الممر. وفي نهايته شاهد شيئا يتحرك. تقهقر داروين مرعوبا، ثم أدرك فورا ما هو، فقد هبت نسمة من عمق الظلام، وجعلت النار ترتجف، والخيال يتأرجح. وبدا له ذلك مثل شيء يتحرك أمامه. وبعد أن مر داروين بجانب كل الحاويات المصفوفة على الجدران، وجد نفسه في باحة واسعة إلى حد ما. كانت الزوايا مليئة بالنفايات: بقايا أشرعة قوارب، أوان مسودة، وألواح مكومة كيفما اتفق. وتأرجح قليلا جزء من سلك أمام وجهه. رفع داروين ذراع الشمعدان ونظر للسقف. كان السلك مربوطا بخطاف ضخم مثبت بخشب السقف الخشن. دار حول السلك بحذر، وقام بعدة خطوات حول المتاح من الأرض واقترب من طاولة ودكة قرابة الجدار. شم رائحة رطوبة وفئران، ولم تكن منعشة. في الواقع حولت الفضاء لما يشبه جو البيت. كانت عصا طويلة متكئة على الجدار بجوار سلة مفتوحة لها غطاء منسوج. كانت الأشياء التي تركها بالأمس هنا في مكانها. رمى داروين للجانب طية طويلة من معطفه، وجلس على الدكة، ووضع الشمعة على الطاولة، ونظر بتأمل في الظلام. نظر للأشياء وظلالها البارزة من الزوايا المعتمة، وفكر:”ألا يجد العقل البشري طريقه بسلوك يشبه هذه التعمية؟. ألا نجد في الظلمة بعض الترابطات المتاحة لذكائنا بنفس هذا الأسلوب ونحاول توظيفها في فهمنا لهذا العالم؟. ها هو برميل، وبعده حاوية، ولكن كما أرى إنها لا تشبه على الإطلاق بقية البراميل والحاويات الموجودة في كل مكان، أينما تذهب.. لماذا أفكر بالحاويات؟. الحاويات لا تهم. ما يهم هو أن لامارك ينتقي أحد وظائف الوعي البشري ويحولها ميكانيكيا إلى طبيعة.  هو يتكلم عن تطور تجريدي للحياة من أجل الكمال الذاتي. ولكن إذا كان التطور حقا هو السبب الأساسي للتحسن والتحول في العالم الطبيعي، كما يؤكد لامارك، ستكون كل الكائنات الحية مثالية ذاتيا وعلى نفس الدرجة من الجودة. والحقيقة نحن نرى شيئا مختلفا تماما!. نوع يسمح بالمرور لنوع آخر، ثم نوع ثالث يحل محل الثاني... 

بالأمس أكدنا أن للظروف التي نشأت فيها الحياة تأثيرا حاسما. ولكن بأي طريقة؟. لماذا يموت نوع ويزدهر غيره؟. ماذا يحكم آلية التحسن؟. وأية قوة تتسبب باستمرار الحياة بأشكال جديدة؟. وكيف يمكن أن نصل للانسجام مما يبدو لنا في النظرة الأولى أنه فوضى شاملة...؟”.  عزفت بهدوء ساعة بيرغوت المودعة في جيبه ألحانا من أوبرا “روبرت الشيطان”، فانتبه داروين من غيبوبته. وكالعادة أخذته أفكاره بعيدا - لمسافة بعيدة جدا، وحينما فتح عينيه، لم يعرف مباشرة أين هو وماذا يفعل. قال لنفسه:”والآن هيا إلى العمل. سأتابع من حيث انتهيت البارحة”. نهض من جلسته، واقترب من الجدار، والتقط عصا، ورفعه فوق رأسه وضرب به على السقف ثلاث مرات. بعد لحظة ردت ثلاث دقات. ضرب داروين السقف مرة إضافية ثم أعاد العصا لمكانها. وتخلص من معطفه وعلقه بأناقة على الكرسي. كان يرتدي صدارة سوداء مصنوعة من الجلد السميك، ومغطاة بكثافة بأشواك معدنية قصيرة. خفف من الرباط حول صدره، وتراجع عن الطاولة وبدأ يؤرجح ذراعيه ويقفز في مكانه ليدفئ عضلاته قبل بداية التجربة. ولكن تقريبا لم يكن لديه وقت للجمباز. سمع في الظلام صوت فتح القفل، ثم أصوات متوعدة وغرغرة مكتومة. وسقطت حزمة من الضوء للحظة على الممر الذي جاء منه، ثم بسرعة تم إغلاق القفل بصوت مدو، وخيمت الظلمة والهدوء مجددا. ومرت عدة دقائق وقف خلالها داروين بلا حراك قرب الطاولة، بمحاولة جاهدة ليستمع. وأخيرا جاء صوت خربشة من الظلام البعيد المنتشر وراء الفسحة المضيئة - صوت جر شيء ثقيل. وصرت ألواح الخشب. وانطلق صوت شيء يشبه الضحك من مسافة بعيدة، ثم طار برميل من الممر وتدحرج حتى قدمي داروين. ضحك داروين وتنحى جانبا. فتدحرج البرميل لمسافة أبعد، وارتطم بكيس دقيق واستقر بمكانه. الصمت مجددا. فجأة أصاب شيء صلب صدر داروينثم سقط على الأرض. قفز داروين جانبا وشاهد ثمرة بطاطا كبيرة أمامه. وطارت حبة بطاطا أخرى من وراء الحاويات وأصابت كتفه. تقدم داروين للأمام، وباعد ما بين قدميه، المتعبتين من بوط ثقيل، ومال للأمام وصفر بصوت مرتفع. فظهر شكل غامض في الممر، ثم حرك ذراعه وألقى حبة بطاطا أخرى مرت قرب أذنه. التقط داروين إحدى البطاطات من الأرض وسددها ثم بكل قوته ألقاها على منتصف الخيال المبهم. ومن الظلام جاء صوت صياح استفزازي تحول إلى شخير هادئ. ثم جاء نحو داروين خيال غاضب ضخم. كان يزمجر ويهدد، وتقدم الخيال ثم جمد عند حدود الدائرة المضيئة. والآن أصبح واضحا تماما. ومع أن داروين معتاد على المنظر، تراجع أوتوماتيكيا للخلف. وأمامه وقف غوريلا عجوز، يميل للأمام ويستند على ذراعين طويلتين لامستا الأرض. كان رأسه مدببا ووجهه بارزا، ويعطيه مظهر طفل مشوه ملأ فمه بكمية كبيرة من الأطعمة. كانت شفتاه متجعدتين ومنتبجتين، وأنفه - أفطس وداكن، ولكن عيناه البشريتان لهما نظرة عنيدة وكسولة. ومن خصره نحو الأعلى كان يبدو ضخما ومنتفخا مثل أحد الزوار اليوميين لحانات إدنبرة  - شخص من عشاق البيرة الذين يتخلون عن قمصانهم في الحر.          

كانت هناك تجاعيد سميكة على صدره الأمرد تقريبا وتشبه ثديين متهدلين - وزاد من هذا التشابه حلمتاه الداكنتان الضخمتان - ولكن داروين يعلم أنه لا توجد ولو أونصة واحدة من الدهون في عضلات المخلوق الفولاذية. مع ذلك هناك شيء أنوثي في خصلات الشعر الطويلة ذات اللون الأشهب التي تنمو على جانبي جسمه الخارق، ووركيه العريضين والمصمتين وبطنه المنتفخة. رفع القرد - إنسان الغاب - ذراعيه ثم ضرب بقبضتيه برشاقة على الأرض. ورد عليه داروين بتثبيت قدميه، وبالصفير مجددا ثم التقدم للأمام. التقت العيون، وشعر داروين أن القرد فهم كل شيء كما يجب. ولكن لم يكن يعلم كيف ولا بأي صورة عكست الإدراكات الحيوانية حقيقة ما يجري، غير أنه شعر أن القرد على شاكلته، مستعد للمعركة الأخيرة، وجاهز للمواجهة العنيفة والمتوحشة من أجل البقاء في عالمه البدائي. وفهم داروين ذلك من إشارات تفهمها عينه المدربة. كانت الرقبة القصيرة للقرد المذكر ملتفة، والثنيات العميقة التي تغطيها تتمدد وتتقلص، وهذا شيء طبيعي. فإنسان الغاب يطيل جلد رقبته كلما تعرض للإثارة أو الضغط. وأحيانا يغلق عينيه للحظة ويتنفس “بهدوء” ويبدل من القدم التي يرتكز عليها بثقله - يلقي وزن جسمه الثقيل على أصابعه الأمامية، والتي تكون ملامسة للأرض.  تقدم داروين من إنسان الغاب ببطء، وتأمل كفيه الأماميين. وحينما اقتلعهما عن الأرض، جلس بسرعة. وحرك كفه الضخم لما فوق رأسه وقبض على الهواء الفارغ. أصبح داروين الآن على يمينه. فوقف فجأة وحاول أن يمسكه مجددا، فأطلق داروين نفسا عميقا وضرب القرد على صدره. وللحظة عابرة فقد القرد توازنه وحرك  ذراعيه بحماقة وطيش. ضرب داروين أنفه الأفطس الداكن بلطمات قصيرة ودقيقة، فانهار القرد على الأرض، ولكنه قفز فورا. وزعق “ووووووو”. صفر داروين وقفز القرد المذكر حوله دون أن يقترب منه كثيرا. تحرك بالارتكاز على ذراعه وقذف ساقه القصيرة المغطاة بالشعر بعيدا باتجاه جانبي. وراقبه داروين مع ابتسامة باردة، وهو يدور حول نفسه كي لا يغفل عن مكان القرد. توقف القرد، وأبعد ذراعيه عن الأرض ودق على بطنه بيدين مضمومتين رماديتين. وزعق مجددا “ووووو” وأفلت راحتيه وفتحهما. قفز داروين بسرعة وصدره للأسفل، وسقط كلاهما على الأرض. وحينما كانت أصابع داروين تضغط على حنجرة القرد المجعدة، لف ساقيه بإحكام حول بطن القرد البارزة. وحاول القرد أن يلتف بعيدا ونجح في الإفلات عدة مرات من تحته، لكن داروين تمسك به وضغط بأصابعه بقوة مضاعفة. ولبعض الوقت دقت راحة القرد على جانبه بطياشة بالغة لكن كانت الضربة ضعيفة، ثم فجأة قبض على شعره من الجانبين - من المؤكد أن القرد أراد أن يقبض على حلقه، غير أن داروين توقع ذلك ووضع ذقنه بمحاذاة صدره لحمايتها. وضغط القرد بقوة أكبر على صدغيه وجر داروين نحوه، وتقريبا وضع وجه داروين لصق وجهه. ثم استلقى القرد والرجل بلا حراك لدقيقة من الوقت. ولم يعكر الصمت غير صفير الأنفاس اللاهثة. وفكر داروين وهو مشمئز من رائحة فم القرد المزعجة:” أساسا الطبيعة واحدة. وهي عضو ضخم واحد. ولكن عدة مخلوقات وأنواع تنفذ كل بطريقتها وظائف الأعضاء والخلايا المختلفة. وما يبدو من أول نظرة معركة لا تصالح فيها في سبيل الحياة، هو عمليا لا يزيد على أن يكون تجديدا ذاتيا للعضو، وهي آلية مشابهة لما يجري في أي شيء حي حينما تموت الخلايا المسنة وتتنحى، لأسباب طبيعية، وتحل محلها الخلايا الجديدة وتأخذ مكانها... ما هو الوجود المستقل من وجهة نظر الأنواع؟. ما هو وجود الأنواع من وجهة نظر كل شيء على قيد الحياة؟. إنه وظيفته ودوره..”. لم يتحرك الجسمان. حدق زوج من العينين بالزوج الآخر. وتقابلت كتلتان، واتحدتا كما في عناق عاشقين، ولكن واحدا منهما فقط يمكنه أن يفوز، واحد فقط يمكنه أن يعيش والآخر، الأقل قوة والأقل استحقاقا للحياة، يجب أن يموت ويصبح طعاما لملايين المخلوقات المختلفة - الكبير والصغير والذي لا تراه العين أبدا - عليه أن يقاتل حتى الموت وفناء آخر خلية حية. فكر داروين وهو يجمع قواه لآخر جولة:”وهكذا إن المعركة الوحشية بين كائنين حيين هي مجرد تقابل بين ذرتين موجودتين، نوع فريد من التفاعلات الكيميائية. في الحقيقة نحن واحد. نحن خلايا لمخلوق لا يفنى ويأكل باستمرار نفسه، واسمه الحياة. الطبيعة لا تميز بين فرددددد..”. والتف إنسان الغاب، وقوس ظهره، وتدفقت منه همهمتان مليئتان بالكراهية وتحولتا إلى عواء طويل من المعاناة وحب الحياة. ولعدة دقائق كان هناك ما يشبه جسد واحد من أربعة أذرع وأربعة أقدام - وكان من المستحيل أن تحدد لمن تعود هذه الأطراف وهذا الجسم. يد قبضت على بلعوم. ويد جرت خصلة من الشعر. جذع مرتعش التصق بالثاني. وطقطقت الأضلاع، وصرت الأسنان، وبرزت الأنياب. ثم تبع ذلك فقاعة من اللعاب والغرغرة. وطرقت كعاب الأقدام على الأرض. وقاتلت كل خلية من العضلات المشدودة في معركة حتى الموت، وحاولت أن تستعمل كل القوى المخزونة فيها، كما لو أنها تشعر أن هذه هي آخر فرصة. ضغط الورك القوي على الحضن، وانتفخت السرة. والتحمت سمانتا الساقين. ونفخت ثقوب الأنف، وتدلى لسان أزرق ملبد من الفم. وارتجفت للحظة إرادتان متنافستان فوق الميزان. ولكن كانت النتيجة قد ظهرت - أحدهما انطوى على نفسه، واستسلم، وانهار وانصهر تحت ضغط الآخر. مرت عدة ثوان. اثنتان من العيون الأربعة أصبحتا غائمتين بالكراهية وابيضتا بالتدريج. وأصبح داروين قادرا على إدراك وعيه ثانية. هز رأسه، وأرخى أنامله حول الحلق المغطى بالشعر ونهض ببطء على قدميه. وهمهم كل جسمه. وآلمه ظفر مكسور في يده اليمنى، وأنت ركبته المصدوعة، ولكن لا شيء من ذلك يمكن مقارنته مع المشاعر التي خرجت من أعماق قلبه، وبالتدريج وصلت إلى عقله. وبيد مرتجفة نحى بعض النفايات عن صدره. وفكر يقول لنفسه:”يجب دائما أن تنظر للانتصار في سبيل البقاء الذي يترسب وراء قناع مقطب الملامح قوامه المعاناة والموت. جوهريا لا يوجد موت. ولكن لدينا مخاض لولادة عالم جديد ومثالي. وبهذا الخصوص كان لامارك مصيبا تماما”. نظر حوله. كل محتويات الأشياء الموزعة حوله - الحاويات، الأكياس، والبطاطا المتدحرجة على الأرض - أصبح لها قيمة جديدة. كل شيء تعمد بوهج الانتصار وبرز من داخلها الجمال المدفون فيها، مثل عذراء تخلع النقاب الذي تغطي به وجهها لتسفر عنه للمحارب الذي سباها. كانت الحياة عظيمة. تراجع داروين، على ساقين متوترتين بسبب الجهد الأخير، نحو الطاولة التي كانت عليها شمعة تحترق. وجلس على الدكة. ولم تتبادر له أفكار جديدة لبعض الوقت. ثم نظر لقبضته المغطاة بالشعر والخدوش، وتذكر لامارك. قال لنفسه:”ليس وعي الطبيعة هو المكافح في سبيل تحقيق حالة مثالية. نحن نشاهد الانتخاب يلعب دوره، والأضعف يتنحى أمام الأقوى. ولذلك إن نوعا معينا يستبعد آخر ويستعمر البيئة. ولكن السؤال الآن: ماذا يحدد بالضبط مستوى الكفاءة؟. هل هي القوة؟”. ونظر لقبضته مجددا. على قفا يده شاهد الوشم الذي يصور ثلاثة تيجان غامضة تحيط بكتاب مفتوح. وعلى صفحات الكتاب مكتوب بحروف زرق عريضة “الرب هو ضوئي - Dominus illuminatio mea”. وارتعش عرق مزرق بسرعة بين كلمتي “دومينوس” و“إلوميناتو”. وفكر داروين:”كلا. لو أن المسألة مسألة قوة بدنية، لسكنت الأرض عمليا الفيلة والحيتان. من الواضح أن المسألة شيء آخر. ولكن ما هي؟. أحيانا أشعر أنني قريب جدا من اكتشاف الإجابة..”. وضع يده على جمجمته القوية الموجودة في رأسه، وانزلق بغيبوبة طويلة. ارتعش لسان الشمعة قليلا، وذاب الشمع، وجاء صوت من فأر غير مرئي. غرق داروين بتفكير عميق. كان خياله الضخم لا يتحرك أبدا كأنه تمثال. ثم تململ قليلا. وقف، والتقط عصا مستندة على الجدار، وطرق على السقف أربع مرات. وردت أربع ضربات خفيفة فورا من الأعلى، طرق داروين مرة إضافية على السقف. ثم أعاد العصا لمكانها، وانحنى على السلة، وحمل غطاءها النسيجي، والتقط موزتين خضرواين. أودعهما في جيب سرواله الأسود العريض، وحل أزرار قميصه، وجره لفوق رأسه ورماه على الطاولة بجوار معطفه. وحينما أغلق القفل غير المرئي بصوت مسموع، وأنت ألواح الخشب على طول الممر تحت خطوات ثقيلة وبطيئة، كان داروين قد استكمل استعداداته. في هذه المرة لم تنهمر عليه ثمار البطاطا - وتحرك الضيف الجديد دون أي هيجان. وحينما تحرك، لم يجر أصابعه على الأرض. تحرك بثقة، ودون تهور. وظهر غوريلا مرعب في دائرة النور. وكان مغطى بشعر أسود متجانس - فقط كان وجهه ويداه دون شعر، وكان له شكل عملاق يرتدي بذة سوداء ضيقة. وشعر داروين فجأة أمامه أنه صغير وضعيف. كان كتفاه عريضين، ولكن قامته أقصر. فكر يقول:”وإذا”. تنفس ووقف بصلابة واستقرت الأرض تحت قدميه. قال لنفسه:”إنها ليست مسألة قوة متوحشة جبارة. ماذا يحدد خيارات الطبيعة إذا؟. ربما أن تكون قادرا على التأقلم مع ظروف الحياة؟. القدرة على استعمال أفضل لما تقدمه لك البيئة؟”. تقدم خطوة من الغوريلا. كانت عيناه الصغيرتان غائرتين في جمجمته، وتنظران من تحت حاجبيه المقوسين بحذر، ولكن دون خوف. كان فمه مثل ندبة مشوهة. وأمكن لداروين ان يشاهد إحدى أذنيه حينما التفت الغوريلا برأسه لينظر لجثة من سبقه. وكانت أذنا الغوريلا شبيهتين تماما بآذان البشر. وحينما شاهد الغوريلا الجثمان الميت ثارت ثائرته. صدر عن الحيوان همهمة منخفضة، كنواح كلب، وأبرز أنيابا صفرا ضخمة. استدار لينظر إلى داروين، والذي لم يهدأ ولو لحظة واحدة. قام داروين بخطوتين سريعتين، واستعمل كل قوته ليقفز عن الأرض ويقبض على سلك متحلزن يتدلى من السقف. وتأرجح بدنه نحو الأمام مثل بندول عملاق. وحينما فصلته عن الغوريلا مسافة تقل عن يارد واحد، تراجع الغوريلا بخوف، ورفع داروين ساقيه بسرعة نحو بطنه، ثم ركل الوجه العريض الممسوح بكعبي قدميه. في آخر لحظة حاول القرد أن يتراجع، ولكنه لم يكن سريعا بما يكفي. وكانت الركلة قوية. التف الغوريلا على نفسه، وفقد توازنه وسقط بقوة على الأرض. أصابت القرد الدهشة البالغة. وسقط واستلقى بلا حراك. قفز داروين برشاقة للأسفل على الأرض واقترب منه. وفكر:”ما هي الكفاءة إذا؟. ماذا يحدد إذا كان كائن جاهزا للحياة في بيئة معينة؟. القابلية للبقاء؟ ولكنها دائرة شرسة. الكفاءة تحدد القدرة على البقاء، والقدرة على البقاء تحدد الكفاءة. كلا. لقد فقدت خيط المنطق...”. سحب ساقه ليضرب، ولكن في تلك اللحظة فتح الغوريلا عينيه وزحف عن الأرض. وأطبق بفكيه على بوط داروين. ولحسن الحظ أن داروين تمكن من جر قدمه وتحريرها، وغاصت أسنان الوحش في الكعب، وعض الساق المعدنية الغليظة. وانسحب داروين وخرجت قدمه من البوط. وبقفزة واحدة وقف الغوريلا على قدميه. وبغضون ثوان عض البوط ومزقه ليصبح كتلة بلا شكل من جلود ممزقة. ألقاه جانبا، واقترب من العالم، وزمجر، وأشهر مخالبه. وانتصبت موجات الشعر التي تغطي رأسه. وفكر داروين:”ربما كانت قوانين الطبيعة كونية. ولكنها تعلن عن نفسها في حياة كل نوع بدرجات مختلفة؟. ذلك هو شكل من أشكال التداخل بين الأنماط المختلفة وبمجموعها تحدد نتيجة الانتخاب الطبيعي؟".

وصاح:” غوررررر”. قفز الغوريلا للخلف خطوة. سحب داروين موزة من جيبه، ولوح بها أمام وجه الغوريلا ثم رماها نحو السقف. جرح الوحش رأسه وهو يلقي مخالبة إلى الأعلى بمحاولة للقبض على الموزة، ولكن في تلك اللحظة لوح داروين قدمه العارية وركل بها بطن القرد الأعزل. شهق القرد وانكفأ على نفسه ثم أصابه خطاف قوي ألقي من جهة اليمين ورماه على الأرض. وسقط الحيوان على صدره، ولم يضيع داروين وقته، قلبه على ظهره وقبض على حلقه وضغط بقبضته الفولاذية بقوة فادحة. وفكر:”المثقف أو حتى المثقف المبتدئ - يزيد من فرص النوع بالبقاء أثناء المعركة مع أنه أضعف بالقوة البدنية...”.

وبدأت معركة البقاء. جمع الغوريلا قواه بعد أن سقط على الأرض، وزمجر وحاول أن يتدحرج على ظهره. لكن داروين فتح ساقيه على وسعهما ليمنح نفسه موقعا أفضل ويضاعف قوته. وتنحنح الغوريلا وسحب كفه للخلف. وشاهد داروين اليد المجعدة مع الجلد بين الأصابع الوسطى التي حاذت وجهه. لكنه قبض على شعره. غشيت عينا داروين من الألم وضعفت قبضته. واستفاد الغوريلا فورا من ذلك وتدحرج على جانبه بالتفاتة قوية واحدة. وتوجب على داروين استخدام كل قواه ليثبته بمكانه - لو استدار الغوريلا قليلا فقط لفقد كل وسائل الدفاع عن أسنانه. وناح داروين وشعر أنه على وشك أن يفقد وعيه. شيء ما التمع أمام عينيه، ثم شاهد بوضوح، مثل نقوش عميقة، بيتا من ثلاثة طوابق ينتصب على ضفة النهر، وينمو عليه اللبلاب حتى قرابة السقف - بيت شروسبيري الذي أنفق فيه طفولته. شاهد غرفته مزدحمة بصناديق تحتوي على قشور وبيض العصافير. ثم شاهد نفسه، حينما كان طفلا، بمعطف غير مريح وضيق، يتجول على طول البحر خلال الجزر، وينظر لرخويات وأسماك يحملها الماء. ثم شاهد بوضوح الوجه الملهم للأستاذ غرانت، أول معلم له، وكان يتكلم عن الأشكال البدائية لدودة العلق والحزازية، ثم مرت وجوه أخرى، شاهد صورها فقط لكنها كانت حية على نحو غريب - وجده إرازموس الذي مات قبل سبع سنوات من مولده. وكارل لينيوس وجين باتيستا لامارك، وجون ستيفنز (وسرعان ما تذكر الملاحظة المكتوبة تحت لوحة الخنفساء النادرة في كتاب الحشرات البريطانية “قبض عليها ش. داروين المحترم”). كل تلك الوجوه كانت تنظر إليه بتفاؤل، وكلها تنتظره ليجد القوة في داخله ليفوز ويتابع العمل الذي باشر به، وجميعا أرسلوا له المعونة والدعم عبر ظلام السنوات والمسافات. وفكر داروين يقول لنفسه:”ليس لدي الحق بالموت. لم أبرهن على كل شيء بعد.. لا يمكنني أن أموت الآن”. واستعمل قوة بشرية خارقة، وشد كل عضلات جسمه الضخم ولف يده على رقبة القرد المنبطح تحته. وسمع صوت كسر الرقبة الخافت. وتحول الغوريلا في قبضته القوية إلى جثمان، ولكن لبعض الوقت لم يتمكن داروين من تحرير يده وبقي مستلقيا على الحيوان، بانتظار أن تعود أنفاسه لطبيعتها. وفكر:”نعم، لا تكفي الثقافة وحدها دون الإرادة. إرادة الحياة. يجب أن أفكر بكل شيء مجددا”. وقف على قدميه، وتحرك ببطء نحو الطاولة، وألقى معطفه على كتفيه والتقط الشمعدان بشمعته المشتعلة. وكان صدره الجريح ينزف، وساقه تؤلمه، ورقبته المشدودة تلتهب - مع ذلك خالجه الشعور بالسعادة. كان على بعد خطوات من الحقيقة، ومن نورها الوضاء - لا تزال غير براقة لكنها مرئية بوضوح - وتنير له ظلمات روحه. وقف داروين فوق الغوريلا الميت، ودار حول ساقي إنسان الغاب المفتوحتين بوضاعة، ثم اتجه إلى الباب. وحينما فتح القفل وواجه الشاطئ، أعماه ضياء الشمس. لبعض الوقت طرف بعينيه بسرعة، وتمسك بالسور، حتى اقتربت عدة أذرع لمساعدته في الصعود إلى الرصيف. غطى داروين وجهه بيده. وحينما اعتادت عيناه على النور، فتح جفنيه وشاهد النور الساطع اللامتناهي للمحيط والطيور البيض التي تحوم وتطير فوقه. وعلى مبعدة، فوق سفينة منخفضة، ومن خلال فراغات شبكة مرتجفة، شاهد الشاطئ الأخضر لجزيرة غير معروفة، كانت تختفي تحت السفينة ثم ترتفع مجددا. صاح صوت القبطان قرب أذنه:”سيد شارلز، هل أنت على ما يرام؟”.  دمدم داروين يقول:”أستحلفك بالله لا تخاطبني بكلمة سيد”.

قال القبطان بثبات:”صدقني إنه لشرف لي و لكل الطاقم أن نرافقك بهذه الرحلة”.

صنع داروين بيده حركة خفيفة. وتأكيدا لكلام القبطان، انفجرت أسلحة بجواره وارتفعت غمامة من دخان أبيض فوق الماء.

رفع داروين عينيه. وقف البحارون بصف واحد على طول جانب السفينة - تقريبا كل الطاقم. وعشرات الأعين نظرت إليه بمحبة، وحينما لوح نائب القبطان بسيفه، وكان واقفا أمام الصف ببذته الرسمية، انطلقت صيحة “هوراه” ووصلت لكل أرجاء الرصيف والبحر. قال داروين:”أهيب بك أن لا تفعل. فعلا - هذا لا يريحني”.

قال القبطان:” أنت فخر بريطانيا. كل رجل من هؤلاء سيروي قصصك لأحفاده”.

شعر داروين بالتحسس والإحراج، ونظر بعينين زائغتين لصف البحارة. وسار على طول الرصيف. وبقربه، في محاولة للمتابعة، رافقه القبطان، ووراءه هرع مجدف الزورق بقفازات بيض، وبيده سطل يحتوي على زجاجات الشمبانيا الباردة. هبت الريح الرطبة على معطف داروين، وشعر ببرودة مريحة في صدره العاري، وعادت إليه قواه بسرعة.

سأله القبطان:”بماذا تفكر؟”.

“أنا أفكر... آه، يا إلهي. هل يمكن أن يتوقفوا عن الصياح”.

لوح القبطان بيده وصمت صوت “هوراه”. وتابع داروين بجفاء:”أفكر ببحوثي”.

قال القبطان:”سيد شارلز. حينما أفكر بآرائك الشجاعة وبالمدى والعمق الذي بلغته، ينتابني الدوار. أعلم أن أفكارك قد لا تكون مفهومة لضابط بسيط من ضباط جلالتها، ولكن لا أعتبر نفسي جاهلا حقا. أنا أيضا درست في أكسفورد...”. وبحركة سريعة، رفع القبطان كم معطفه وعرض على داروين الوشم: ثلاثة تيجان زرق وكتاب مفتوح يحمل العبارة المعروفة. وانبسطت تعابير داروين. وقال:”أنا درست في كامبريدج. ولكن ليست هذه هي المسألة. أنا أفكر بمشكلة البقاء. أن تكون حيا شيء رائع، أليس كذلك؟. إنما المعركة وحدها هي التي تبعث فيك المسرة والمتعة - معركة قاسية وحامية الوطيس من أجل أن تنتزع حقك بتنفس هذا الهواء. انظر للبحر ولتلك النوارس. هل تفهم ماذا أعني؟”.  ورفع عينيه للقبطان، وأومأ القبطان بحكمة مثل شخص لم يفهم تماما معنى الكلمات التي انصبت عليه ولكنه يفكر بها بعقله ليستنتج حكمة من معانيها لاحقا، حين يكررها لنفسه وهو بعزلته عدة مرات. تقابلت عيونهما، رفع داروين ذراعه وألقاها على كتف القبطان. وفجأة بدا أن عيني القبطان فقدتا اللون - وتحول الإعجاب تقريبا لرعب ملحوظ. ابتسم داروين وخفض ذراعه. وتقريبا شعر أن جدارا يفصله عن بقية الناس، الناس العاديين المهمومين، وكان يصعب أن تعيش بينهم إذا كنت تنتمي للأبدية والتاريخ. وحتى لا يربك القبطان، نظر داروين لصف طويل من الأقفاص الموجودة على متن السفينة. عشرات من القردة العملاقة نظرت إليه من وراء قضبان أقفاصها بلا أية عاطفة. بعضها مد راحته خارج الأقفاص المشبكة، بعضها جلس مقاطعا ساقيه مثل الأتراك حين يتربعون على الأرض، وبعضها كانت تتحرك بتململ. وضع داروين يده في جيبه، وتحسس شيئا رطبا ولزجا. وأخرج موزة مسحوقة. وكانت تلتصق بها عدة خصل من شعر أسود محمر. رمى الموزة بعيدا والتفت للقبطان، وقال:”بغضون ساعتين اسمح لآخرين بالدخول. ربما اثنان وهذا يكفي لهذا اليوم. أما الآن...”.

سأله القبطان بانتباه:”بعض الشمبانيا؟”.

قال داروين:”شكرا. شكرا. يجب أن أتابع العمل. وبصراحة أعاني من صداع فظيع”.

***

......................

* ترجمتها عن الروسية: ميشيلي أ. بيردي

* فيكتور بيلفين Victor Pelevin: كاتب روسي معاصر. حاز على البوكر الروسية عام 1993. ينتمي لـ “جماعة الصراحة الجديدة”، وهي حركة روسية نقدية تدمج الخيال العلمي مع الفلسفة وما بعد الحداثة.  من أهم أعماله: حياة الحشرة 1993، أصبع بوذا الصغيرة 1996، الجيل باء 1999، شمس حرة 2020... 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم