صحيفة المثقف

سامي عبد العال: الدين والسياسة.. صناعة الكذب (3)

سامي عبد العالنتيجة الخلط المتعسّف بين الدين والسياسة، أدى الإعلام دوراً خطيراً في (صناعة الكذب) إزاء الأحداث التي شهدتها دول العرب مؤخراً بعنوان "الربيع العربي". وهي الأحداث التي لم يعرف العرب طبيعتها حتى اللحظة، ولا ماذا حدث فيها، ولا لماذا انتهت بهذا الشكل الدراماتيكي ولا إيلام ستؤول بعد عقود تُضاف إلى الذاكرة؟ لأنَّ إلتقاء برجماتياً بين هذين الطرفين (الدين والسياسة) عبر وسيط فاعل (الإعلام ووسائل التواصل) يجعل الواقع مُسطَّحاً ومصقولاً، لدرجة التشكيل الخادع للأحداث تحت أنامل المآرب والأهداف وتدخل القوى الإقليمية والدولية. إذ كانت هناك أياد كثيرة تلعب في المشاهد السياسية وأساليب إخراجها، أي حاولت إدارة الصور بكل الحيل الممكنة بدلاً من التواجد غير المتاح في الشوارع اليومية.

حالة الكذب بهذا المعنى هي " حالة تلبُس" كاملة الحيثيات والقرائن، شريطة أن نقرأ حواشيها بالصورة التي يكون الكذبُ فيها (خطاباً مُراوغاً) إزاء الأحداث. وهو عندئذ ليس حتى مجرد خطاب بفحواه المعهود، لكنه (مهماز ومفتاح) لأبواب سرية داخل تكوين المجتمعات العربية الإسلامية، ذلك مع وجود الجماعات الدينية وكيف تشكل تنظيماتها أنفاقاً تحت الوعي للإطلالة على تراث السياسة الشرعية وعلى أفكار الجهاد وعلى سرقة الدول الراهنة وعلى (عقدة الدراما) لدى المواجهة بين مفهوم الدولة وكيانها الحديث والقفز على مقاعد الحكم لتصفية كل هذا التراكم السياسي.

وهنا تنتقل مشروعيةُ الكذب لأول وهلةٍ من التبرير إلى نوعٍ من (الصناعة الثقيلة)، لأنَّها خلال هذه البرهة الزمنية كانت مشروعية تساوي الحدث ذاته. ففي السياسة تعدُّ صناعة المشروعية مقامرة خطيرة، قد تدق عنق صانعيها وقد تتجاوز كل حدود ممكنةٍ وأخيراً قد تنتج خطاباً من جنس ما تهدف إليه، كما أنّها قد تُراهن على التدخل في الواقع لصالح منفذيها. وبالتأكيد هي صناعة تتحين الفرصة لتحريك الجُموع والحشود التي تُشعل فتيل الأحداث وتسرّع وتيرة التحولات دون قدرة المجتمعات وأنظمة الدول على استيعاب المشاهد والتحكم فيها. ولنذهب الآن... لمعرفة كيف حدث ذلك؟!

ظاهرة تلفزيونية

إذا كان ثمة شبحٌ خفيٌّ يقف خلفَ وقائع الربيع العربي، فهو الإعلام. شبح يظهر بعيداً كأنَّه منقطع الصلة بالموضوع، بينما تورطه-سلباً وايجاباً- واضح بطريقةٍ ما. لقد كان المحللون ومقدمو البرامج نجوماً تتطاير في السماء وتحط عليهم الإنظار من كل حدبٍ وصوبٍ. وبدت عبارات اللغة كأنَّها (مخلوقات خرافية) تحط هنا أو هناك. حيث ظهر الاشتباك بين المؤيدين والمعارضين للنظام السياسي بالأيدي (تونس) وبالأجساد (مصر) وبالسلاح (ليبيا) وبالحرب (سوريا). رأينا كم كان ينتظر (الجمهور السياسي) كلماتَّ التغطية الاعلامية مثلما ينتظر وعداً مع المستقبل. حتى أصبح الربيع ظاهرة " تلفزيونية"[1] تشحن وعي المتلقي بإمتياز. الوعي الذي ترك عليه الحسُ التلفزيوني[2] انطباعاً قوياً بأبعاده الرباعية: المتظاهرون، المجتمع، السلطة، العالم الخارجي.

وبضربات افتراضية طبقاً لذات الحس المصطنع، غدا الواقع يتهاوى تدريجياً وطفقت الجموع تزحف نحو الميادين. لعلّنا لاحظنا - في حينه- تغيُراً للأوضاع السياسية للأنظمة الحاكمة بمجرد عرض الأخبار ورصد التوقعات (هروب زين العابدين بن على وتنحي مبارك). وتلك بدورها لم تسلم من حيل المونتاج الخطابي الاعلامي. فخضعت إلى عملية سردٍ تصويري غير حيادي على أقل تقدير. وبمدار ساعات الأيام، تابعنا كيف تُرسم خيوط الحِكاية تبعاً لأهداف شاشة الفضائيات وتزامناً مع كتل الفاعلين.

في هذا الإطار، مثّلَّ توظيفُ المُقدس (أشخاصاً- آيات- نصوصاً – مآثر- تأويلات- قصصاً- مواعظ) كأحد مشاعل الحراك العنيف. كانت رمزيته تطغى على الأحداث، تتداخل معها، تستبقها في غير حالة. لنقُل مكثت هذه الرمزية ولاسيما في شعارات الاسلام السياسي بقصد احتواء الحقائق رغم التباسها. الاحتواء بمعنى التغذي عليها وجعلها رصيداً ملموساً للاعتقاد. لأنَّ المقدس بالأساس يتأجج تلقائياً في آفاق معتنقيه. ثم يبدو ظلاً عملياً (باهتاً) بين الأيديولوجيا والفعل المباشر. بهذا الوضع مهدت الفضائيات - فيما بعد - طريقاً لإنقضاض الإسلاميين على مقاليد الحكم في قالب الأحزاب الدينية بأدوات مدنيةٍ. وهي أحزاب تعاملت مع أطياف المجتمع بالأسلوب الاقصائي نفسه للأرهاب والتطرف.

إلى درجة أنَّه تمَّ استبدال الواقع السياسي بنشرات إخبارية وتقارير إحداثية وأصوات واستغاثات متلفزة ليس إلاَّ. وعلى أغلب الأصعدة اتسعت شاشة العرض بمساحة الحدود المصرية والتونسية والليبية والسورية. وهي الدول الرئيسة للمسرح الإعلامي لقناتي الجزيرة والعربية وللقنوات الدولية. كانت هناك كواليس وكوابيس، وكانت هناك شخوص وسيناريوهات مرسومة (لنتذكر الحديث الهامس بين المذيع على الظفيري وعزمي بشاره أثناء الفاصل مع التعليق على الأحداث[3]). أيضاً كانت هناك تأويلات الدين لصالح غنائم الثوار المؤدلجين وغيرهم وسبي مرتزقة الأنظمة السابقة. بدءاً من المسؤولين والرؤساء وانتهاءً برجال الأمن والعسكريين مروراً بالمقرات والقصور والمؤسسات الرسمية في كل دولة. ثم عرفنا ما معنى الأذرع السياسية لتنظيمات الإسلام السياسي. كحال حزب الحرية والعدالة لجماعة الإخوان المسلمين بمصر وحركة النهضة بتونس وبعض الكتل الدينية في ليبيا والجيش الحر بسوريا.

إزاء ذلك ربما لم ينتبه أحدٌ لأثر اللغة المتداولة، لأثر الرموز الدينية، لأثر التعليقات الدينية في تأجيج الواقع صراعاً وتوافقاً. بات منطق الخطاب الديني-هو الآخر- سيناريو حركياً على الأرض وفي الدماغ. انتقلت نبرة الخطابة كما هي مشهورة أيام (الجُمع والأعياد) لتلامس لاوعي الأفراد والحشود في الشوارع. كأنَّ الكلمات – مع تحريك الريموت- ثعابين وحيات تسعى. ثعابين تلقف ما يقابلها حتى استهدفت كيان الدول ومؤسساتها كل على حدة. بمعنى انتقل الخطاب الديني من مرحلة الدعوة إلى الإعلان عن الأغراض مباشرةً. وبنظرة مقارنةٍ سنعرف أوجه التشابه بين اعلانات التاك أواي (الهامبرجر والهوت دوج وديوك الكنتاكي والبيتزا) وبين العبارات الأيديولوجية للإسلاميين. هناك البهارات اللاذعة والحراقة نفسها التي تجذب الأنوف، هناك الألوان الباهرة نفسها لخطف الأنظار، ومحاولة تسليع العقل والتعامل مع الغرائز السائلة[4].

بدا أنَّ السبب هو النتيجة: إذ أنه مع عدم تطور الفكر السياسي لتلك الحركات الدينية، فقد أفرز أفكاراً ورموزاً (شخوصاً) أربكت المشهد العام للأحداث. في مصر أفرخ هذا الفكر أدمغة صماء - أعضاء الإخوان والسلفيين- تكاد تصل إلى درجة التكلُس. توقفت فيزياء الحركة والأفعال المرنة مع حرفية النصوص والبيانات لدى حكومة أخوان محمد مرسي وحزبه الخفي. ولأول وهلة بعد هذا الشوط ستصبح بلاغة الكذب مادة دسمة في الخطابات السياسية للربيع لعربي. سواء في تطبيق مقولة: جهنم محفوفة بالنوايا الحسنة أو بصدد مبرر لمقولة: نحن أولى بميراث الدولة العربية السابقة (جحا أولى بلحم ثوره). هاتان المقولتان طُبقتا من قبل الإسلاميين تطبيقاً خادعاً لتحقيق المكاسب.

أسهمت المقولة الأولى (جهنم محفوفة بالنوايا الحسنة) بإشعال أتون الصراع بين أطياف المجتمع خلال الحالة المصرية وعدم استقرار المناخ السياسي في التجربة التونسية. وكل ذلك تحت شعارات اصلاح الحال وإنقاذ العباد من سوء الأحوال والمآل. مع أن الفتاوى كانت تركز على عدم الخروج على الحاكم المستبد مخافة الفتنة وإراقة الدماء. المقولة ذاتها كانت وقوداً لبعض الفئات المسلحة في الوضع الليبي للسيطرة على المجال العام. أما المقولة الأخرى (جحا أولى بلحم ثوره)، فقد كانت مبرراً لخلع عبارات كاذبة على الوقائع، وإلباسها ثوب التهييج والتأجيج والتأويل المتعسف. وإنزال دلالات النصوص الدينية لدي أقدام الثوار على الجبهات. لا يختلف في هذا مشهد مصري عن آخر تونسي وعن غيرهما الليبي ولا سوري وإن تباين الشكل.

وتباعاً سأحاول عرض الفكرة السابقة في إطار اللقطات الأولى للمسألة الليبية بوصفها الأوضح (دينياً وسياسياً) في هذا الشأن. وليست الفكرة دفاعاً عن أي نظام كائناً ما كان، فقد طفحت الأحداث وأغرقت الجميع (الخاسر والكاسب)، وغدت في خبر كان وبقيت النتائج للمستقبل شئنا أم أبينا. ثم هناك ضرورة ملحة لتوضيح ماذا جرى بالضبط كحق أصيل يمكن للفلسفة أن تراه وتطرحه باستمرار من جملة (حقوق العقل). وذلك أيضاً أنَّ بدايات الأحداث السياسية كانت مؤشراً في جميع تجارب الربيع العربي، شرارة اشعال فتيل النار في الهشيم بعد ميراث الاستبداد والاستعباد للإنسان العربي باسماء مختلفة. بل أبرزت البدايات: كيف تعاطت الأطراف الفاعلة مع تحولات هذه الأحداث. وإلى أي مدى اتسقت مع نفسها وكيف فُهم خطابُها على الأرض؟! وبأي صيغة نزل الخطاب الديني كسلاح بين أيدي الحشود المتظاهرة؟!

فجر أوديسا

أطلقت أمريكا على عملياتها العسكرية آنذاك بخصوص ليبيا "فجر أوديسا". في إشارة إلى إمكانية خلق جديد لعالم قديم، ولأجل تجديد الملاحم البطولية للرجل الغربي الأبيض، والعودة إلى الأصول التاريخية لمركزية الشمال على الجنوب، إنها جذور عالم التوراة والإنجيل الغربيين. وهو فجر التاريخ المعبر عن بدء الخلق من قِبّل الرب ذاته. حيث يعطيه الرب الأمريكي الجديد فرصة لمعاودة خلقه في شمال أفريقيا وبمقولات دينية سياسية محببة.

لكن هذه المرة سيتم الخلق في عالم افتراضي قابل للتكوين (نتذكر أنَّ أول أسفار العهد القديم هو سِفر التكوين). وبالمناسبة كانت تجربة الأمريكيين مع القارة الجديدة التي استوطنوها هي سفر التكوين الحديث. وتكررت تلك الاستراتيجية اللاهوتية مع هيمنتهم على العولمة وعلى الاقتصاد، وعلى السياسة الدولية. وستظل هي الاستراتيجية التي تهيمن على فكر القادة الأمريكيين ولن يسمحوا لغيرهم بالتواجد على المسرح العالمي دون التهامه. لن يسمحوا له –كحال صدام حسين- بالتلاعب بمناطق نفوذهم. وليس بوش الأب والابن ببعيدين عن القضية وهما أبرز كتبة اسفار التكوين في مسلسل الوحي الأمريكي للعالم[5].

لذلك أثارت الأحداث الليبيةُ قضايا معقدةَ الخيوطِ إزاء الحقيقة على المستوى السياسي. فلم يكن هذا المستوى خالصاً كما يبدو ظاهراً، بل تداخلت في عمقه أطراف خارجية وداخلية. على الأقل كان تواجدها توجيهاً للقُوى الثورية وإعادة تشكيل الواقع. وبقى مطروحاً للفحص: ما إذا كان الوضع الصراعي على الأرض فعلاً بين طرفين. أحدهما النظام الليبي الحاكم الذي يمارس القتل المجاني كما خرجت الأخبار، بينما يقف الطرف الآخر (الشعب برمته) ضحيةً بريئةً تحت الذبح. وبناءً عليه: كيف اُرسلت الدعوة تلو الأخرى لاستصدار قرار من مجلس الأمن لحماية المدنيين في ليبيا.

هذا تقريباً ما قيل في حينه ونقلته معظم الفضائيات العربية والعالمية. ترتب على ذلك ما إذا كانت الصورُ المتلفزةُ واضحةَ الأبعادِ بنفسها أم أنَّ هناك أيدي خفيةً شاركت في صياغتها. وحرصت كل الحرص على إخراجها بذلك"السيناريو التحريضي"من جهة التحليل الاستراتيجي والمبررات الدينية والتعليق السياسي معاً. وازدادت هذه القضايا تعقيداً مع وجود الإسلاميين كأداة براجماتية. وبخاصة إذا أخذنا بالاعتبار أن الوضعَ الجيوسياسي ظل- طوال التغطية الإعلامية- منظوراً إليه عبر وسيطٍ خطابي، أدنى وصف له كالتالي: عدم الحيادية في عرض الأوجه الغائبة للوقائع التي شكلت متن الأحداث.

وهو أمر يدعُو المُتابِع لأنْ يتساءل حول مصداقية الصياغة الإعلامية. لا ليري الواقعَ عن قربٍ فحسب، بل أيضاً لمعرفة كيف يشكل الوسيطُ الإعلاميُ ما ينقله عن كثب، وبأي منطق يحشد مصادره المتاحة لتلوين الصور بألوان معينة. إذن المهمة كانت تحتاج ايضاحاً لظروف الموضوع عن طريق قراءة التحولات المتداخلة. نتيجة أنَّ هناك "تواطؤاً" دلالياً لاح في الأفق بين الخطابات الدينية والسياسية والأيديولوجية خلال ذلك الوسيط.

بدليل تكتل الأطراف في لحظاتٍ خاطفةٍ لإنجاز (الهدف التحريضي المبكر) إزاء القوات الليبية الرسمية بغض النظر عن النظام القائم. ربما أن هناك تاريخاً قريباً لأحداث مماثلة (كالتدخل في العراق وأفغانستان) اثبت تشابك الخيوط وفق مآرب الدول الكبرى وأثبت وجود أطياف اللاهوت السياسي في المسألة. وهذه القوى أدارت المشهدَ بالطبع في ضوء مصالح أصحابها على الأرض، حتى وإن غامت معالمهُ. وكان ذلك مُفسِراً لما سيحدث خلال مناسبات مشابهة. في المقابل يجب على القارئ أخذ الحيطة مع تبعات هذا الرأي. فلا يعني ذلك أن كافةَ الأطرافِ تقف عن كثب لتطبق نظرية المؤامرة على دولة ما. فتلك النظرية البلهاء قد تحل جميع المشكلات ببساطةٍ مفرطة إنْ آمنا بها دون عناء التحليل. كما ينبغي على القارئ ذاته ألَّا يغفل جرائم النظام الليبي وسياساته القمعية في السابق واللاحق. وهو نظام لم يُدْخِل ليبيا عصر الحرية ولا الحداثة ولا سياق التطور الإنساني. بدليل ظهور المعارضين له بهذا الشكل الدموي. فأي نظام سياسي تظهر آثار تطوره وتخلفه عن ركب الإنسانية ليس من جانب ممثليه، بل من تشكيل صورة منافسيه. لأنَّ هؤلاء هم رواسبه وشكله الموازي (مكونات الحياة السياسية) لا النقيض. أو كما يقال : (قل لي من تعادي أو من هم خصومك أقل لك من أنت!!) ولو كان هناك تطور اجتماعي وسياسي في الحياة الليبية، ولو كانت هناك مؤسسات، ولو كان هناك تعليم متقدم ما كنا لنرى المناوئين هكذا بهذا الشكل الدموي!!

بالتالي لا يعني الأمر إلقاء اتهامات هنا وهناك، لكن الأهم ماذا جرى. فالذاكرة الحية تحاول الفهم لا المحاسبة. وماذا تملك غير المعرفة. فأن تعرف يماثل أن تتذكر وفق ابجديات القوى المؤثرة. وفي الحقيقة، كانت هي القوى التي لن تنتظر عيون المتابع كي تتحرك. فهناك خريطة للأحداث الدموية جمعت بعض الدول شرقاً وغرباً في سماء ليبيا. واللهجة الدراجة تتعجب إزاء اجتماع أطياف متنافرة كهذه في بعض المواقف: "ما الذي لّم الشامي على المغربي". العربي الخليجي مع الأمريكي والفرنسي والأوروبي إجمالاً. والتفسير البسيط: أنّ وحدة الهدف تلم الأطراف المتصارعة على شيء مشترك. فالطيور والثعالب والذئاب والديدان والحشرات تجتمع على التهام فريسة واحدة. رغم أنَّ منها كائنات زاحفة وأخرى طائرة وغيرها لا تقوى على هذا ولا ذاك.

تقنيات الكذب

في سياق الأحداث الليبية، ليس المقصودُ بالكذب حالةً لقولٍ سياسي يخالف واقعاً فقط، فهذا شيء بسيط مما جرى. لكن كانت له- ضمن الخطاب الإعلامي، ولا سيما تغطية قناتي الجزيرة والعربية - عدة أنماط تقنية. أقول تقنية تصل لحد الجرائم والانتهاكات، لأنَّ هذا الوصف كان القميص الذي ارتداه المعلقون الدينيون والسياسيون فعلاً. حيث كانت تعززهم صورٌ عالية الإخراج وباهرة الفنيات بالتوازي مع الكلام المطروح. فكان الكلام يُلقى فنياً، كأنه يشبه الصور في دلالتها وايحائها. وتمَّ ذلك لمحاولة التخفيف من شحنة العبارات المثقلة بالانحياز. وبإمكاني الإشارة إلى وجود الأسلوب والمعنى كقضيتين مؤولتين لصالح طرف ما، ألا وهم الثوار المؤدلجين وغير المؤدلجين بما فيهم الإسلاميين. لأن الهدف كان احداث فوضى والاستيلاء على السلطة في ليبيا وجر الغنائم البيترولية والطبيعية إلى قائمة المائدة الربيعية العامرة.

وكل النقاط التي سترد حالاً تم رسمها بتؤدة وتحكم في الخطاب الاعلامي المسيَّس والمؤدلج لاهوتياً في قناتي الجزيرة والعربية. وهو ما ظهر في حالات سوريا واليمن وفي حالات التجييش الخطابي لتغطية أحداث أخرى حتى وإن كانت أحداثاً عادية وسياسية، وهذه سمة عامة حين يحاول أصحاب الخطاب التدخل وصناعة الواقع ودلالاته:

أولاً: التزييف:

وهو عملية خطابية تقديم صورة مغايرة لسير الأمور بخلاف ما تجري عليه الأحداث وتخليطها بغير الحقيقة. وهو ما يشير إلى افتعال القضايا التي لا مضمون لها سوى الاتساق مع الهدف غير المعلن (اسقاط النظام السياسي) والإنفراد بالواقع. ودما التزييف يحط من قبل صانعيهعلى الأحداث منتزعاً الشكل والأسلوب ويملي كيف يتصرف الفاعلون إزاءه بالداخل والخارج.

ثانياً: التحريف:

وهو التلاعب في المعطيات وموارد الأحداث كنزع الكلمات والعبارات من سياق يعطيها معنى إلى سياق آخر. لكي يغدو لها معنى بديل يدفع بها في اتجاهٍ بعينه. فلو كانت ثمة خطابات سياسية لرأس النظام الليبي كانت شاشتا الجزيرة والعربية تفسرانه على أنها اعلانات حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية!!

ثالثاً: التضخيم:

تصوير الأفعال والأحداث في الدرجة الأكبر للأثر الذي تحدثه طلباً لنتائجها العاجلة. وطبعاً لا يمشي هذا الأثر خالصاً، إنما يتم الحرص على تشكيله طوال الوقت، والعمل على تأكيده هنا أو هناك، من خلال تغليف الأحداث بالإثارة والتهييج السياسي والحركي. فعندما كانت توجد بعض الأحداث الجزئية الخاصة بالاشتباكات كانت تعتبرها تغطية الجزيرة المعركة الكبرى، والأحداث الدموية القاتلة دون رجعة.

رابعاً: التوظيف:

وهو تحميل الأمور دلالة حركية في إطار التلقي الخطابي. إذ يأخذها نحو خدمة أغراض الخطاب الذي يُراد إيصاله. فقد كانت جميع التغطيات الإعلامية للجزيرة بمثابة منشورات سياسية لا تخلو من تحريض وتدبير ورسم الخطط ضد النظام الحاكم.

خامساً: الحشد الدلالي:

تكثيف الوقائع و التقارير في اتجاه مقصود خلف غبار الأفعال والمظاهر. لإيهام المتلقي بأن هذه الصورة هي الصورة الحقيقية دون سواها. ويحدث الايهام ضمنياً، حيث لا تقول أخبار الجزيرة و لا أخبار العربية أن الصورة صادقة، بل تتركك أنت تقول ذلك. هي عملية استنطاق وملاحقة وعيك بكم مهول من الأخبار المجزأة في الإتجاه نفسه حتى تنهار يقظتك وتخبو روح النقد والرؤية الواضحة. فهي صورة تلاحقك مع المعنى الكامن وراء الألفاظ. وهو المعنى الذي يُرشق في وعي المتلقي كحد السكين من تكرار شحذه الخطابي.

سادساً: المناورة والتمرير:

وهما الفعلان الخاصان بإفهام أطراف معينةٍ (الجماعات الدينية) أثناء المواقف كيف يتصرفون، وكيف يمارسون استراتيجية بديلةً على حساب الموقف المقابل. وهذا كذب لأنَّه ترجيح لقدرات هذه الأطراف المعنية لسرقة نتائج لا يستحقونها. ولعلَّه نوع من اللعب الخفي بجانب طرف دون غيره.

سابعاً: إسقاط الصور:

حيث يسقط الإعلام صوراً من حالات مماثلة سابقة على حالة أخرى مستهدفة؟ كما تم معالجة الحالة الليبية كأنها هي الحالة المصرية أو الأخرى التونسية. ويؤدي الخلط والتبرير بطريقة المماثلة إلى إيجاد قناعة لدى المشاهد أنها حالات متشابهة وأن النتائج ستكون واحدة في النهاية. وبالتالي يجب أن يجري المتابعون وراء النتائج التي حصلت في الحالتين الأوليتين داخل الحالة الأخيرة. والإسقاط نوع من الضغط على الأنظمة السياسية لدفعها لردود أفعال متهورة حتى تسقط سريعاً أو تسلك الطريق نفسه المؤدي إلى الهدف.

ثامناً: استباق النتائج:

وهو عبارة عن رمي المعنى إلى أبعد نقطة بإمكان الخطاب بلوغها. ذلك كي يتم تحصيل الأغراض الأدنى عملياً، والتي لا يتسنى تحصيلها الآن. ولعله- أي الاستباق- في الإعلام عبارة عن مبارزة الطرف الموجّه له الخطاب بما هو مطلوب أن يفعله، ووضعه في زاوية ضيقة. المثال الواضح تلك العبارة المكررة التي جاءت بتصريحات المسؤولين الأجانب عندما تكثر الحشود وتتأجج الأحداث: (على الرئيس أن يرحل فوراً). حيث تتلقفها الفضائيات لتؤكدها- بمنطق القرار- عبر موادها الإخبارية طوال اليوم والليلة.

تاسعاً: التبرير:

لعله محاولة لإقرار شيء من باب الدفاع عن شيء آخر. كما فعل الإفتاء الديني بصدد مشروعية الاستعانة بغير المسلمين. فقد أشار يوسف القرضاوي إلى شرعية (بل وجوب) هذا المطلب الخاص بالاستعانة بالقوات الأجنبية، بحجة أننا الذين طلبنا منهم التدخل في شؤوننا. وأن التدخل الأجنبي لم يأت ليعتدي علينا إنما جاء لإنقاذنا من شر مستطير. وكان القصد من وراء ذلك أن الغاية تبرر الوسيلة ولو كانت مخالفة للدين أو القيم.

عاشراً: التمويه:

عندما يتم الإشارة إلى عمل ما بأنه حقيقي لأجل التأكيد على أنَّ غيره غير صحيح. مثلما نوهب الجزيرة ذات مرةٍ إلى موقف إسرائيل الناقد لها كقناة معادية ابتغاء دفع التهمة القائلة بأن الجزيرة تخدم مصالح صهيونية في المنطقة العربية. وطبعاً ذُكر الخبر وسط أحداث أهم كانت أولى بالتعليق غير أنَّ أهمية الخبر لصاحبه (الجزيرة وقطر) أكبر من المشاهد.

حادي عشر: إساءة الاستخدام:

وهي حالات التحدث بخطابٍ عام له مبرراته وأدواته وبنيته، ثم يتم تطبيقه انتقائياً على حالة جزئية لبلوغ حكم عام. كما جري مع الفتاوى التي تتحدث بأدلة خطابية دينية لاستصدار حكم إزاء موقف أو فعل. وقد لا ينطبق هذا الخطاب على تلك الحالة. بل في الأغلب يحرف حقيقتها، أو يعجل بالحكم عليها ويؤدي إلى نتائج وخيمة.

فضمن المشاهد المبدئية بحسب سير الأمور، كان للخطاب الديني حضوره بتأكيد مشروعية الأكاذيب وإهدار الدم وبالأدعية الديجيتال في مواجهة النظام الليبي. وأبعد من هذا، لقد أصبح الكذب حقاً مفعولاً لأية جماعة دينية ترى في مصالحها إمكانية التحقق على خريطة ليبيا آنذاك، ألم يكن النظام الليبي– من وجهة نظرها- خارجاً عن (الملة السياسية) لهذا الخطاب؟!

 

د. سامي عبد العال

.............................

[1]- هذا المفهوم (الظاهرة التليفزيونية) مهم لتصوير الأحداث تحت ضغط اللغة المتداولة. فإذا كانت اللغة بالمعنى الخطابي تاريخية كما يقول تزفتيان تودوروف، فقد تجسدت هذه اللغة حراكاً عبر الخطاب الافتراضي للإعلام. ولاسيما مع تغطية قناتي الجزيرة والعربية الخليجيتين. وهو الأمر الذي مكنهما من انتهاك حدود الحقيقة. وكما سنوضح بالمتن مثلَّ انحيازهما حيلة استراتيجية استغلت الموارد الخطابية (الدينية) في تعميم نمط الحالة الثورية على تجارب مصر وتونس وليبيا. فاللغة كانت تحريضاً للفاعلين في الواقع لا كشفاً له، أي كانت إسهاماً في أنشطته الثورية. إذ جري انتقاء الكلمات المستنفرَّة، وتم استعمال اللغة بالإيحاء النفسي، وتم مواكبة التعبير بالتصوير فكان ثمة إحلال وتبديل بين الكلمة والمشهد. وأصبح هذا المنطق فاعلاً، لأنَّ الخطاب الديني مشحون أصلاً بالرصيد التعبوي والخيالي. لهذا امتلأت لغة الأخبار بكل مواصفات الحس والغرائز الأولية في حياة الإنسان. العدوانية والعنف والتدمير داخل حشود متحفزة أو متقاتلة باختلاف الأحداث. إذن الشيء المشترك بين الإعلام و طرح الدين هو لغة الخطاب، فجأة مع تواتر الأخبار تماهى الاثنان وعقدا صلةَ زواج لُغوي على طاولة الهتاف والاشتباك. 

[2]- " الحس التلفزيوني" هو آثار تتركها مشاهدة الشاشة الفضية على وعي الجمهور وإحساسهم. فقد خضع المتابعون لساعات بث طويلة خلال أحداث الربيع العربي. مما أفقدهم رؤية الواقع حقيقةً، بل أفقدهم تمييزاً بين أمور كثيرة دونما التخلص من الانحيازات الأيديولوجية المبثوثة. وشكل الحس بهذا المعنى حساً بديلاً عن الحقيقة، بل خيالاً بديلاً يختفي أمامه الواقع. لم يكن المتابع ليتسأل ولا لينتقد ولا ليذهب بمنأى عن أسر الصورة المؤدلجة. حتى غدا جزءاً من عتاد الاعلام في التأثير على مجرى الأحداث. هذا الحس أيضاً ترجم اللغة إلى أداء جمعي. امست اللغة فعلاً سابق الإنجاز ومنتهي النفاذ. وهي خطاب يقع تحت معنى القابلية للافتراض. كأنه يؤكد على دلالة الأخذ بالاتجاه المطروح والذي تعبر عنه القناة بأسلوبها المكثف والتلويني. 

[3]- كان كلام الطرفين المشار إليهما هامساً أثناء الفاصل. حيث أوصي الظفيري لدرجة الأمر لعزمي بشارة بعدم الاقتراب من المملكة الأردنية الهاشمية وتكثيف التعليق المتوغل في التفاصيل والتحريض والإثارة على ليبيا ومصر. وعلى الرغم من كونه كلاماً عابراً بين الفاصل، إلاَّ أنه قد كشف إلى مدى كانت تغطية خطاب الجزيرة للربيع العربي تغطية غير بريئة. على أدنى تقدير أوضح أن التعليقات والأحاديث جرت وفقاً لبرنامج مدروس وتبعاً لخريطة مرسومة كما نوهنا بالمتن. وليس التنويه اعتباطاً إنما أكده همس الظفيري وبشارة مع طريقة الحوار. واللقطة بمجملها كاشفة لأداء العمل الإعلامي في التكثيف والتأثير. وربما المشهد يبرز على الصعيد السياسي كيف يعبد الإعلام طريقاً للخطط والأفكار والبيانات (بيانات وزراء خارجية أمريكا وانجلترا وفرنسا وقطر). 

[4]- من تلك الزاوية يمكن النظر إلى الإنسان بوصفه حيواناً تلفزيونياً. فلم نر حماراً ولا غزالاً يجلس أمام التليفزيون لساعات طويلة، ولم نر ظرافةً تتلقى صوراً وتقارير بغرائز العدوانية والاستنفار!! فالمتابع العربي لا يشاهد التلفزيون فقط إنما يتبادل الأدوار مع الصور. ففي الصور بخاصيتي" التمثيل والتخييل" يخرج طاقته الداخلية ويدمج رصيده الغريزي عبر تصوراته ورؤيته للعالم والأحداث. حتى أنه يسمح بتشكل تكوينه الذهني مع تحولات غرائزه. الصورة عندئذ هي محل الاندماج اللاواعي بالحالة الافتراضية. حيث تتسرب إلى أعماق تلقيه. فنظراً لكونه - هو الآخر- منحازاً أيديولوجياً (وبخاصة الأيديولوجيين الإسلاميين)، تصبح الصورة و اللغة مثيراً شهوياً. ويتحول الواقع إلى كتلة حسية، كأن الإنسان يستقبل الأشياء والأفكار والأفعال كجزء من أحاسيسه. حتى أننا قد نظن ذوبان الأحداث في شكل أفعال مثيرة كالإثارة الجسدية. لقد حرص هذ الخطاب الاعلامي على طرح التغطية من خلال التمثيل الجسدي، سواء بطرائق الكلام أو بالاشتباك بجميع أصنافه. 

[5]- لاهوت أمريكا السياسي يبدو واضحاً في وقوفها الخفي والسري والمقدس في آن معاً ضمن الأحداث. وهي في غير مناسبة تعلن ربوبيتها لمنظمات دولية تحركها عن بعد وتمارس طقوس السيادة من خلالها. كما لم يعد خافياً هذا الأثر الأمريكي في مناطق التحول والصراع السياسيين على امتداد العالم العربي. وحتى على الرغم من عدم معرفتنا بحجم هذا الوقوف إلا أننا نتوقع أنه سر، وأنَّه فُعلَّ بعيداً عن أعيننا. كما أن لاهوت أمريكا، بمعني المرجعية السياسية الدينية، يتشابك مع لاهوت الربيع العربي. لأن الأول سيوظف الثاني ويعيد إليه وزنه النوعي من أجل الإفادة منه في الواقع. حقاً طُرح سؤال أساسي: هل تؤيد أمريكا جماعات الإسلام السياسي؟ طرح السؤال نظراً لوقوفها بأساليب مختلفة بجوار الإسلاميين وإن كان الادعاء العام أنها تناصر الشعوب الحرة من أجل الحصول على الحرية. هكذا مثل لاهوت أمريكا جغرافيا الثقافة والأرض. وقد نرى مصطلح "فجر أوديسا" في هذا المناخ البرجماتي. فلا مانع من استعمال كلمات تطرق الذهن بجذورها الممتدة مع التاريخ، وتبدو في نفس الوقت لامعة. وفوق ذلك تحمل معاني إنسانية تجاه تشكيل صورة العالم الجديد. وقد حرصت على استعمال" لاهوت" ، لأنه لا يفهم كيفية توظيف جماعات ذات خلفية دينية إلا رجال دين لكنهم يمثلون أباطرة السياسة ويخفون خناجرهم تحت جلباب الحرية والربيع القادم.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم