صحيفة المثقف

عبد الله الفيفي: عُوران الثقافة!

عبد الله الفيفيالمرأة في التراث العربي بين خطابين (9)

ناقشنا في المساق السابق موقف (علي أحمد سعيد/ أدونيس) المُمَجِّد لفِكر (أبي العلاء المعرِّي)، غير ناظرٍ إناه، المليء بمواقف متناقضة، ومنها مواقفه الجاهليَّة من المرأة.  متغنِّيًا دائمًا ببيته:9

اثنانِ أَهلُ الأَرضِ: ذو دِينٍ بِلا

عَقلٍ، وآخَرُ عاقلٌ لا دِين لَهُ

وقلنا: إنَّ غاية ما تصوِّره الأبيات، التي منها هذا الشاهد الأدونيسي، المأساة العامَّة في اختلال الموازين بين بني الإنسان، منتقِدًا الشاعرُ أَتباع الدِّيانات جميعًا.  ولكن أليس في أهل الأرض ذو دِينٍ عاقل، أو عاقلٌ دَيِّن؟  وليكن المعرِّيَّ نفسه؟!  وكأنَّ هاتين الصِّفتَين لا تجتمعان في امرئٍ واحد. ولو كان ذلك ما عناه النصُّ، لَما قَدَّمَ أبياتًا لوصف فساد أتباع الدِّيانات- عرضناها على القارئ في المساق السابق- مصوِّرًا التعارض بين ما يقولون وما يُضمِرون، وبين كلامهم عن ادِّعاء الأنوار واستحلالهم الخمور، ولَما كان معنًى لتخويفهم بالقضاء السَّماوي، ولَما وصفَ بعضهم بالهفوة، وآخَرين بعدم الاهتداء، أو بالحَيرة، أو بالضَّلال، بل لوَصفَ الأديان ذاتها بتلك المعايب، لا أهلها.  وإنَّما ظاهرُ النصِّ تعريةُ زَيغ الناس عن الجادَّة المستقيمة، الآخِذة بمعادلة العقل والدِّين.

هذا كل ما هنالك.  غير أن المطلوب إثباته- اعتسافًا- لدَى من يستشهدون ببيت المعرِّي الأخير، نقيض ذلك؛ فالمطلوب إثباته أنَّ الشاعر كان يمتدح "ذا العقل بلا دِين"، ويهجو في المقابل: "الدَّيِّن"- وهو بالضرورة دَيِّنٌ بدِينٍ محدَّدٍ مؤرِّق- ولذا لا عقل له!

وهكذا تلعب الإديولوجيَّات بالعقول، وتبعث على تدليس النصوص والمعاني، مصوِّرةً المعرِّي- كما في هذا النموذج- على أنَّه ذلك المفكِّر العقلاني المتحرِّر، نصير العقلانيَّة المطلَقة، والحُريَّة الجذريَّة من الأديان. ويا لها من عقلانيَّةٍ وحُريَّةٍ لدَى رجلٍ ظلَّ أميل إلى العقل التقليدي، والطبيعة الخرافيَّة، حتى إنَّه ليدعو صراحة- في ما يدعو إليه- إلى "دفن المرأة"؟!  أفلا يقرأ هؤلاء غير ما يُحِبُّون أو يتوهَّمون؟ أينهم عن لزوميَّته(1)، مثلًا:

وإنْ تُعْطَ الإناثَ ، فأيُّ بُؤْسٍ

تَبَيَّنَ في وُجُوْهِ مُقَسَّماتِ

يُرِدْنَ بُعولةً ويُردْنَ حَليا

ويَلقينَ الخُطوبَ مُلوَّماتِ

ولَسْنَ بدافِعاتٍ يَومَ حَربٍ

ولا في غارةٍ متَغَشِّماتِ

ودَفْنٌ والحَوادثُ فاجِعاتٌ

لإحداهنَّ إحْدَى المَكْرُماتِ

وقد يَفقدنَ أزواجًا كِرامًا

فيا للنِّسوةِ المتأيماتِ

يَلِدْنَ أعاديا ويكُنَّ عارًا

إذا أَمسينَ في المتهضَّماتِ!

فيا له من شاعرٍ فيلسوفٍ، تنويريٍّ، متحرِّرٍ حقًّا!  على أنَّه في لُزوميَّته هذه، ذات المطلع:

ترنَّمْ في نهاركَ مُستعينًا

بذِكر اللهِ في المترنِّماتِ

قد سجَّل نفسه بنفسه في المدرسة التي قال: إنَّ الإنسان فيها: "دَيِّنٌ لا عَقلَ لَهُ"!  لأنَّه إنَّما وصلَ إلى ازدراء المرأة رهبانيَّةً ابتدعَها، وتبتُّلًا متكلَّفًا، وتعاليًا عن مصاحبة النِّساء، بوصفهنَّ لديه حبائل الشيطان، ولا تأتي من ورائهن إلَّا ألوان الشُّرور.

غير أنَّ مثقَّفينا عُوْرٌ، غالبًا؛ فلا يقرؤون إلَّا ما يعشقون، ولا يرون سِوَى ما يُقيِّدون به عقولهم وضمائرهم إديولوجيًّا. ثمَّ أينهم عن بقيَّة لُزوميَّة المعرِّي(2) تلك، التي يعبِّر فيها عن أنَّه ضِدَّ تعليم المرأة، قائلًا:

فَحَمْلُ مَغازِلِ النِّسوانِ أَوْلَى

بِهِنَّ مِنَ اليَراعِ مُقَلَّماتِ

سِهامٌ إِنْ عَرَفْنَ كِتابَ لِسْنٍ

رَجَعنَ بِما يَسوءُ مُسَمَّماتِ

ويَترُكنَ الرَّشيدَ بِغَيرِ لُبٍّ

أَتَيْنَ لِهَدْيِهِ مُتَعَلِّماتِ

لِيَأخُذْنَ التِّلاوَةَ عَن عَجُوزٍ

مِنَ اللَّائي فَغَرْنَ مُهَتَّماتِ

يُسَبِّحْنَ المَليكَ بِكُلِّ جُنحٍ

ويَركَعْنَ الضُّحى مُتَأَثِّمَاتِ

فَما عَيبٌ عَلى الفَتَياتِ لَحنٌ

إِذا قُلْنَ المُرادَ مُتَرْجِماتِ

ولا يُدْنَينَ مِنْ رَجُلٍ ضَريرٍ

يُلَقِّنُهُنَّ آيا مُحكَماتِ

سِوَى مَن كانَ مُرتَعِشًا يَداهُ

ولِمَّتهُ مِنَ المُتَثَغِّماتِ!

ذاك، إذن، هو فليسوف (المَعَرَّة)، الذي شغفَ بعض أدعياء الحداثة الشِّعريَّة، بلا حداثة حضاريَّة، وعُوران الثقافة المجانيَّة، فِكرًا وعقلانيَّةً أصوليَّة! فهم إمَّا لا يقرؤون، وإمَّا يقرؤون ولا يفهمون، وإمَّا يقرؤون ويفهمون غير أنَّ دَيدنهم أن ينتقوا ما يَغُشُّون به قارئيهم حين يكتبون، مُخْفين البضاعة الرديئة تحت ما ظاهره الصَّلاح.

 

بقلم: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيـْفي

...............................

(1) المعرِّي، أبو العلاء، (1992)، شرح اللُّزوميات، تحقيق: منير المدني وزينب القوصي ووفاء الأعصر وسيِّدة حامد، بإشراف ومراجعة: حسين نصَّار، (القاهرة: الهيئة المِصْريَّة العامَّة للكتاب)، 1: 277/ 25- 30.

(2)  م.ن، 1: 279- 280/ 59- 61، 63- 67.

(*) هذا المقال جزء تاسع من ورقة بحثٍ قُدِّمت فكرتها في محاضرةٍ حِواريَّةٍ في (الصالون الثقافي بنادي جُدَّة الأدبي الثقافي)، مساء الأحد 28 فبراير 2021، بإدارة: (الشاعرة جواهر حسن القرشي). للمشاهدة على موقع "اليوتيوب":

https://www.youtube.com/watch?v=ZSZF936qzsY

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة الملك سعود)

https://twitter.com/Prof_Dr_Alfaify

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم