صحيفة المثقف

محمود محمد علي: الجنون.. ظاهرة فلسفية (ميشل فوكو أنموذجا) (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن موقف فوكو من ظاهرة الجنون، والسؤال الآن: كيف يكون للجنون خطابا فلسفيا،إذا كان الجنون هو نقيض العقل، أو هو كما يقول ميشيل فوكو بحق-غياب الإبداع . إن الجنون، في حقيقة الأمر، وإن كان يبدو خرافياً لكل نظام وخروج عن كل مألوف، لا بد أن يخضع لنظام، لنظام يحدده، في الواقع، العقل السوى، أي العقل الذي يخضع من الناحية العلاجية والإجرائية لسلطة الطبيب والمشرع، وإن كان حقيقته انعكاساً لقيم جمعية عامة تحدد المبادئ والمعايير التي تحكم هذه السلطة (10)

ومن ثم كان للجنون، بمعناه الواسع الذي سنراه، وليس في حدود المرض العقلي الذي ينتهي في غياهبه كل خلق وإبداع، سمات إيجابية كبري يناط بالأدب الرفيع والفكر الفذ استغلالها واستثمارها في إنتاج ضروب من المعارف والحقائق الباهرة، التي لا تدركها،أو تفطن إليها العقول الأليفة والسوية . وليس من شك في أن أهم هذه السمات و إبراز الجانب النسبي في كل مفهوم للنظام، وإلقاء الضوء علي الميكانيزمات الاجتماعية، والثقافية، والتاريخية التي تحكم هذا النظام، وتربطه، داخل شبكة علاقات القوى التي تنعقد حولها بنية النظام الاجتماعي – بالنسق المعرفي والعلمي (11).

ثمة من يقول إن الفيلسوفين ميشل فوكو (1926 – 1984) ولويس ألتوسير كانا مهددين بالجنون في شبابهما الأول، لكن فوكو نجا من الخطر بعدما استطاع تأليف كتابه عن «تاريخ الجنون»، في حين أن التوسير غطس تماماً. الأمر اللافت هو أن التوسير يذكر دائماً فوكو عندما يتحدث عن مرضه العقلي أو جنونه. الواقع أنه تعرف الى فوكو منذ بداية شبابه الاول، وكان يعرف أنه يقف، مثله، على حافة الجنون ويعاني أزمة داخلية مرعبة. لكن تكمن عظمة فوكو في قدرته على الإفلات منها في اللحظة الأخيرة بعدما أوشك مراراً ان يسقط في الهاوية (12).

ولذلك ليس من الغريب إذن أن يكون هناك - كما ذهب فوكو – للجنون تاريخ، ولهذا وجدنا  الخطاب الطبي – الباثولوجي يحتل علي وجه خاص مكانة في أعمال فوكو، حيث اهتم فوكو بدراسة كتاب (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي ).

ويعد تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي لميشيل فوكو أول عمل نظري متكامل،بل يمكن اعتباره الانطلاقة الفعلية لمشروع نظري ضخم امتدعلي ما يقارب ربع قرن كانت مادته الأساسية " الخبرة الإنسانية" في لحظات إبداعها لأشكال العسف المتنوعة للحد من اندفاع الجسد والروح، وتخطيها لحدود " المعقول" و" العقلاني" و" المستقيم" و" الرزين" للانتشاء بالذات داخل عوالم اللاعقل التي لا تعترف بأية "حدود إضافية " غير تلك التي تاتي من أشياء الطبيعة وطبيعة الأشياء.

والكتاب زاخر بمعرفة علمية تخص الجنون والعقل واللاعقل والاختلال النفسي وكل السلوكيات " الغربية" و" الشاذة"، وكذا الاندفاع نحو حدود لا تتوقف عن التوغل في المجهول . لذلك فهو يتحدث عن " الطب العقلي " و" السيكولوجيا" و" التحليل النفسي "، وكل الأشكال العلاجية التي أعقبت العصر الكلاسيكي معلنة عن ميلاد "المجنون المريض" الذي سيخلف المجنون " الدرويش" و" والوحش" و" الشاذ"، تماماً كما سيخلف المارستان والعيادة دور الحجز والمستشفي العام.

ولكنه يتحدث أيضا عن معلومات السحر والشعوذة والطقوس الاستثناسية ويتحدث، وهذا هو الأساس، عن العوامل الرمزية وكل الصور المخيالية التي أنتجتها المخيلة الإنسانية من أجل رسم حدود وعالم غريب هو عالم الجنون والمجنون المليء بالصور والاستيهامات، والمليء أيضاً بأشكال النبذ والإقصاء (سفينة الحمقي)، فكل شئ يتحدد ضمن هذه العوامل، من خلال التقابل الذي بين " حقيقة الجنون الموضوعية"، التي يتعرف طريقها عاجلاً أو آجلاً إلي مستشفي الأمراض العقلية وبين العوالم الثقافية التي تستثيرها شخصية المجنون .

وكتاب " تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي " صدر عام 1961 حيث كتبه ميشيل فوكو، عندما كان في السويد. وفيه يفحص الأفكار والممارسات والمؤسسات والفنون والآداب المتعلقة بالجنون في التاريخ الغربي.

يبدأ الكتاب في العصور الوسطى، ليشير إلى العزل الفيزيائي والاجتماعي الذي أحاط بالمجذومين. يقول فوكو بأنه ومع الانحسار التدريجي للمجذومين في المجتمع، تم ملء الشاغر من خلال المجانين، فالعزل ظل موجوداً لكن موضوع العزل تغير. أمثولة سفينة المجانين التي ظهرت في القرن 15 هي تعبير حرفي عن هذا الاستبعاد، إذ تم إرسال المجانين بعيداً على متن سفن تجوب الأنهار الأوربية من دون قبطان (13)

وقد وقعت حركة خلال القرن السابع عشر في أوروبا ويتميز فوكو بوصفه لها بأنها الإرهاص العظيم، الأشخاص غير العاقلين من الناس كانوا يحتجزون بعيداً من خلال مؤسسات. في القرن الثامن عشر بدأ اعتبار الجنون نظيراً للعقل، وأخيراً في القرن التاسع عشر بدأ مصطلح "المرض العقلي" يأخذ مكاناً له. ويجادل فوكو بأن الجنون فقد قدرته على الدلالة على أهمية حدود النظام الاجتماعي وبالتالي توضيح الحقيقة وتم إسكاته من خلال العقل. يتفحص فوكو ظهور المعالجات العلمية والإنسانية للمختلين، التي ظهرت على يد فيليب بينيل وصموئيل توك. ويزعم فوكو بأن هذه المعالجات لم تكن في واقع الأمر أقل "سلطوية" من تلك السابقة لها. فقد اعتمد توك في سعيه لعلاج المجنون على معاقبته حتى يتعلم السلوك "العاقل". كذلك الأمر بالنسبة لفيليب الذي اعتمد معالجات منها الحمام البارد. من وجهة نظر فوكو، يتصاعد هذا العلاج حتى يستدخل المريض هذا النمط من العقوبة.

يتكون الكتاب من ثلاثة أجزاء كبيرة يتكون كل منها من خمسة فصول، إلا الجزء الثاني فيتكون من أربعة فصول فقط. يستهل مترجم الكتاب سعيد بنكراد الكتاب بمقدمة قيمة عن الكتاب بوصفه الانطلاقة الفعلية لمشروع نظري ضخم امتد ما يقارب ربع قرن كانت مادته الأساسية «الخبرة الإنسانية» في لحظات إبداعها لأشكال العسف المتنوعة للحد من اندفاع الجسد والروح، وتخطيهما لحدود «المعقول» و«العقلاني» و«المستقيم» و«الرزين» للانتشاء بالذات داخل عوالم اللاعقل التي لا تعترف بأية «حدود إضافية» غير تلك التي تأتي من أشياء الطبيعة وطبيعة الأشياء. يضع فوكو كل المفاهيم السابقة بين مزدوجتين لأنه يرى فيها وجها آخر فباسمها مارس التنوير إقصاء لكثير من جوانب الذات الإنسانية بحجة أنها غير عقلانية أو منحرفة .. الخ.

والسؤال الآن: كيف نقرأ أطروحة ميشيل فوكو؟ بدءًا من مقدمة كتاب الجنون والخلل العقلي"، يُصدَم القارئ بمدى صعوبة فهم ما يقصده المؤلِّف؛ حيث يفاجئنا دومًا على نحو غير متوقع بأسلوبه الشائق والرائع، وفكره الذي لا يقل عنه روعةً، وجدليته المُقنِعة، حسبنا فقط أن ندعي قراءة هذا العمل من منظور النقد التاريخي. يطرح فوكو بعض البديهيات، التي ما إن نسلم بها، حتى تقودنا طيلة قراءة ذلك الكتاب، كما لو كنا تقريبًا بصدد قبول قواعد لعبة سباق. بيد أن النرد مغشوش، منذ السطور الأولى. ماذا يعني فعليًّا ذلك القول المقتبس عن باسكال: «إن الرجال بالضرورة مجانين لدرجة أن عدم الجنون سيكون ضربًا آخر من ضروب الجنون»؟ وما المقصود بذلك القول الذي تلا الاقتباس السابق مباشرة، والذي جاء على لسان دوستويفسكي حين قال: «إن حبس جارك ليس هو السبيل لتتيقن من رجاحة عقلك»؟ ماذا تعني هذه العبارات الواردة بهذا الشكل، إن لم يكن المقصود منها أولًا تفنيد مفهوم الجنون نفسه، أو بالأحرى عدم التمييز بين ما يتبع الجنون المَرَضي وما يتبع الجنون بمعناه الفلسفي والأخلاقي؟ انطلاقًا من وجهة النظر هذه، قد يجمع الجنون بين كلا الاتجاهين. وفقًا لفوكو، ربما يكون الجنون إذنْ «واحديًّا»، بيد أننا سبق أن رأينا الجنون في العصور القديمة وهو يختلف تمام الاختلاف عن مثيله في العصور الوسطى (14).

ولكن ليست هذه هي المشكلة، فها نحن أمام هذه المُسَلَّمة المتعلقة ﺑ «غير المجنون»، ذلك المجنون الآخر «الذي يستخدم لغة تخلو من الرحمة»، والذي بَدَر منه يومًا ما سلوكٌ يتسم بالجنون. يتعلق الأمر ﺑ "إيجاد لحظة التآمر تلك". ومن ثم، إيجاد "نقطة انطلاق في تاريخ الجنون" - وبعيدًا عن كونها قديمة قِدم تاريخ البشرية نفسها - إلا أنها قد تكون جاءت بعده بوقت طويل، فقد ظهرت في «لحظة» ليست كغيرها: وهي لحظة "المؤامرة". لا مجال بالنسبة إلى فوكو للرجوع إلى العصور القديمة في هذا الصدد، على الرغم من أنه قد سبقت الإشارة إلى مدى أهمية هذه المرحلة فيما يتعلق بالأمراض العقلية. إن إشاراته النادرة إلى تلك الفترة جعلت منها حقبة زائلة، حتى لا نقول غير موجودة. هذه الجدلية قادت فوكو إلى الاستشهاد بنيتشه (الذي أعطى أيضًا الأفضلية للعقل على الحق) ليعلن، بأسلوب غليظ وقاسٍ، رفضه ونبذه للغرب وعقلانيته اللذين وضعهما، للبرهنة على صحة كلامه، في مقابلة مع الشرق المؤيد ضمنيًّا لمذهب اللذة والمتعة. فها هو ذا الإنسان الغربي يقف متهمًا: "إن الإدراك الحسي لدى الإنسان الغربي للزمان والمكان المحيطين به يكشف عن هيكلية للرفض، تتم من خلالها إدانة قول باعتباره لا يمثل لغةً، أو إيماءة باعتبارها ليست عملًا، أو شخصية ما كما لو كان لا يحق لها أن تأخذ مكانها في التاريخ.» ما يثير اهتمام فوكو، وما يودُّ رؤيته، هو القرار (وتوقيت ذلك القرار) الذي يربط ويفصل بين العقل والجنون (15).... وللحديث بقية.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

........................

هوامش المقال

10- محمد علي الكردي : الجنون في الأدب الفرنسي : العقل و اللاعقل أو خطاب الجنون عند ديدرو، عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مج 18 ,ع 1، 1987، ص 19.

11-ميشيل فوكو:  ا تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2006، ص 11.

12- المصدر نفسه، ص 133.

13- المصدر نفسه، ص 206.

14- المصدر نفسه، ص 209.

15- المصدر نفسه، ص 255.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم