صحيفة المثقف

جَبَّار مَاجِد البَهادِلي: المُستَوَيَاتُ الجَماليَّةُ لشِّعريَّةِ التَّنَاصِّ (2)

جبار ماجد البهادليتَمَثُّلَاتُ شِعرِيَّةِ الآيرُوتِيكِ الحِسِّي، وَالمُستَويَاتُ الجَماليَّةُ لشِعريَّةِ التَّناصِّ

فِي غَزَلِيَّاتِ يَحيَى السَّماوِي الجَمَالِيَّةِ (7)


 الشاعر طريدٌ من صُنعته الشعرية التي ألقت به أنْ يكون آدمها البشري الجديد، فهو مطرود من نعم جنته (الوطن) جزاء خطيئته في رفض تلك الجنة التي يتحكَّم بها الشياطينُ من البشر الذين أحالوها إلى ظلامٍ حالكٍ وَجَورٍ وظلمٍ وهلاكٍ. كلُّ هذه الرموز الدينية التاريخية كانت قناعاً كافياً يتلبَّسَ به الشاعر في مواجهة كلِّ الصعاب والتحدِّيات الإنسانية التي تربطه بالوطن من خلال هذه الفيوض العشقية التي اتَّخذ منها الشاعر بؤرةً مركزيةً ينفذ منها إلى عالمه الشعري، مُستفيداً من استثمار قصة سيدنا (آدم) تناصياً الواردة في سورة البقرة في قوله تعالى: ((وَقُلْنَا يَا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدَاً حَيْثُ شِئْتِمَا وَلَا تَقْرُبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُوْنَا مِنِ الظَّالِمِيْنَ)) (27). لكنَّ شيطان الشعر أزلَّ الشاعر عن جنته الوطن لِيحررَهَا من رَبقةِ الظالمينَ وشرورهم، وزرع في نفسه الكريمة لغة الرفض والاحتجاج سلاحا شعرياً.

وتأخذ رحلة (الإسرَّاءِ والمِعراجِ) من تفكير السَّماوي مأخذاً قدسياً جَلَلاً في الحبِّ، وقد أفاد الشاعر من الرحلة التي عرجَ فيها الرسول الأكرم (ص) من الأرض إلى السَّماء على دابةِ (البُرَاقِ)، وسيلته الإيصالية إلى سدرة المنتهى. وطبيعي أنَّ الشاعر كان مُدركاً تماماً لتفاصيل قصة (الإسراء والمعراج)؛ كونها حدثاً إلهيَّاً معجزاً وغير عاديٍّ في زمانه ومكانه؛ لذلك فإنَّ الشاعر ضمَّنها شعرياً في رحلته الفردوسية في سماء الحُّبِّ مَستفيداً في تناصِّه المتحوِّل من دلالتها التي وردت في سورة الإسراء، لقوله تعالى: ((سُبْحَانَ اَلَّذي أَسْرَى بِعَبْدِهَ لَيْلَاً مِنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى اَلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ)) (28).وكانت غاية الشاعر السَّماوي أنْ يخلق من هذا المقدَّس القرآني صوراً إنتاجيةً حاليةً معبِّرةً عن مضامينها الأساسية من أجل مقاربتها النصيَّة مع الواقع الحدثي الجمالي الموضوعي:

وَأَسْرَى بِيْ إِلَى الفِرْدَوْسِ لَثْمٌ

وَمِعْرَاجِي سَرِيْرُكِ وَالبُرَاقُ (29)

فعلى الرُّغم من النتائج المتحقِّقة من رحلة الإسراء والمعراج إلهيِّاً، فإنَّ الشاعر كان واضحاً في رسم وتحقيق غايته المُبتغاة بهذه اللًّوحة الجمالية المتباينة الأبعاد برؤاها وصورها،وهي غايةٌ حسيَّةٌ تكمن دلالاتها الموضوعية في المنال من التابو الإغوائي المُحرَّم الذي جعل فيه دلالة (الإسراءِ) طريقاً لمدلول (اللَّثمِ أو التقبيلِ).ودلالة (المِعراج) لمدلول (السَّرير) الرمز الحسي الجنسي الواضح في الشعريَّة التناصيَّة.

مرَّةً أُخرى يستثمر الشاعر السَّماوي في تضمينه الشعري التقليدي واقعة قصة يوسف (ع) مع زليخا امرأة العزيز في القضية التي شغلت الرأي لدى المُفكرين والمُفسِّرِينَ المسلمين، ((لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا)) (30)، تلك الدلالة التركيبية العميقة التي أخذت عدَّةَ تفاسيرَ ودلالاتٍ معنويةً كثيرةً لدى المُختصِّينَ من العلماء والمُفسرينَ، ومعلومٌ أنَّ معنى (الهَمِّ بالشيء) في كلام العرب هو: حديث المرء نفسه بمواقعته، ما لم يواقع، أي مسألةِ المواقعةِ من عدمهما، وفقاً لما يرونه في سورة يوسف من قوله تعالى: ((وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنُصِرِفَ عَنْهُ السُّوْءَ وَالفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلِصِيْنَ)) (31).

إذ يقول الشاعر معبِّراً عن تضمين هذه القصة تضميناً تحوِّليَّاً مع الحبيبة المعشوقة التي هامتْ بهِ هُياماً، وشغفتْ بحبِّه المضمر غوايةً واِشتهاءً، وهامَ بعفتها الباردة ظاهراً وقد أحال السَّماوي في تناصِّه الديني غواية الاشتهاء إلى استعصامٍ وتمنِّعٍ كلِّيٍ وعفةٍ وشرفٍ ووئامٍ لافتٍ للنظرِ في هذه النصَّ الظاهر:

هَامَتْ بِمَا أُخْفِي وَهِمْتُ بِمَا           جَهَرَتْ بِمَاءِ عِفَافِهَا الخَصِرِ (32)

إنَّ فهم قَصص القرآن الكريم وحوادثه الشهيرة كان لها حضور كبير في شعرية السَّماوي، وتحويل دلالاتها الدينية والتاريخية إلى مُتناصاتٍ تحوِّليَّة في بنية قصائده العشقية الَّتي استأثرت بتوظيفِ هذه القصص المأثورة، ومن بينها قصة سيدنا يوسف (ع) مع أخوته التي تمثَّلها الشاعر السَّماوي بقناعٍ ذاتيٍ مع الحبيبة، وتماهى مع صورها العشقية تماهياً روحياً ذا وقعٍ صُوفيٍ مُحبَّبٍ في جدليِّة العشق الجمالي الفنَّي، إذ يقول مُعبِّراً عن رؤيته التناصيَّة بهذا الشأن مُستفيداً من قصة الرمز الديني يوسف مع زليخا:

وَتَمُدُّ حَبْلَاً مِنْ ضَفَائِرِهَا لِـ"يُوْسُفِهَا" الَّذِي

أَلَقَى بِهَ فِي بِئْرِهَا عِشْقٌ خُرِافِيٌّ

تَمَاهَى فِيْهِ مِحْرَاثٌ وَتَنْوُّرٌ ..

وَضِلِّيْلٌ وَنَاسِكَةٌ..

وَصُبْحٌ وَالأَصِيلْ (33)

ويكشف التَّضمينُ النصِّي لهذه الدفقة الشعورية المُقَنَّعةُ أنَّ المُلْقى به في بئرِ العشقِ، هو الشاعر يحيى السَّماوي الرمز (يوسف) شاعر العشق البتوليِّ، وأنَّ المُنقِذَ من غيابةِ الجُبِّ هو الحبيبة التي رَمَزَ بضفائرها إلى حبل الدلو.وقد تماهى الشاعر فيهِ، كَتَماهي أداوات العشق (مِحراثٍ وتنوُّرٍ)، وتضاد (ضِلِّيلٍ وَنَاسكةٍ)، ومقاربةِ (الصُبحِ والأصيلِ). وهذا التحوِّل أضفى على جوِّ الدفقة الشعورية صوراً جماليةً متتابعةً للحدثِ جسَّدت ثنائية (الحياةِ والموتِ) في أجواء الحبِّ اللَّاهبة التي استمدَّ الشاعر ثيمتها الفكرية الدينية وأسقطها على شعريته الحالية بالتَّناصِّ مع قوله تعالى: ((قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمُ لَا تَقْتُلُوْا يُوْسُفَ وَأَلْقُوْهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بُعْضُ السَّيَّارِةِ إِنْ كُنْتُمُ فَاعِلِيْنَ)) (34). وكان الفاعل الرئيس المُنقذُ لمأزقه الموضوعي المكاني هو الحبيبةُ مصدر التَّناصِّ العشقي الرُّوحي الجمالي الذي تماهى مع بنيته الفكرية.

كما أفاد السَّماوي في تضمينه الشعري من قصَّة (أَهلِ سَدُومَ) الذين أفسدوا في الأرض وأهلكهم الله تعالى على سوء فعلتهم، وكما قرنَ ذلك بقصَّة (أَهلِ ثمودَ)، قومِ صالح (ع) من العرب البائدةِ الَّذين أُهْلِكُوا جَزاء بما فعلوه معه. وقد وظَّفهما الشَّاعر السَّماوي للتعبير عن تجربته الشعورية الذاتية مع المعشوقة، وكيف صار حالُ أَمسِهِ من غَدهِ في غفلةٍ من الزمن القميء:

عَتَّقَنِي فِي طَيْشِهِ أَمْسِي

وِعِتّقْتُ غَدِي فِي غَفْلَتِي

فَهَل أَنَا "ثَمُوْدٌ" أَمْ"سِدُوْمٌ"؟ (35)

والتناصُّ الحالي لهذه السطور يستنكر فيه السَّماوي على نفسه أنّْ يكون لسان حالهُ الآني كحالِ قصةِ قوم ِسَدومٍ وثمودَ في التاريخ،والمعادل الموضوعي للتناصِّ أنَّ قصته مع الحبيب ذاتية بينما سدوم جمعية.

ب- التَّناصُّ الأدبيُّ (الشِّعريُّ)

كثيراً ما يلجأ الشاعر السَّماوي في نصَّه الشعري الجمالي إلى تدوين الحسِّ الأدبي الشعري؛ وذلك لتحقيق أغراضٍ عدَّةٍ منها التواصل مع الماضي بغنائية النصِّ الحاضر. وقد يلجأ بفرض التأكيد على هيمنة الذات الشاعرية (الأنوية)،ويتمُّ ذلكَ من خلال إعادة إنتاج عناصر الأدب بمختلف عصوره التي تلائم حاضر الزمن الراهن بقناعٍ أدبيٍ شعريٍ معبِّر عن ذاته وإسقاطه على واقعة الحال المُعاشة الراهنة.

وفي قراءة تناصيَّةٍ كاشفةٍ يُفصِحُ لنا السَّماوي كاشفاً في طيَّات نصِّه الشِّعري الموسوم بعنونته (مُتطَرفٌ في العشقِ قلبي) عن العَلاقة بين النصِّ الحاضر والنصِّ الأوَّل عن عملية فكِّ الارتباطِ بين النصينِ من خلال هذه القراءة التحوِّليَّة التي تُصبح فنَّاً أدبيَّاً للكشف عما لا يكشف من النَّصِّ، وهذا ما نجده في قراءتنا لأوليات مُعطيات الشَّطر الأوَّل والثاني لما يقوله السَّماوي في مثل هذا الشاهد الشعري:

 (لَا مَرْحَبَاً بِغَدٍ وَلَا أَهْلَاً بِهِ)          لَوْ أَنَّ لَيْلِي عَنْ ضُحَاكِ تَخَلَّفَا (36)

إنَّ التناصَّ الشعري يكون فعله قويَّاً إذا كان مؤثِّراً في الحالية، والشَّطر الأول من بيت شعرٍ جاهليٍ رائعٍ للنابغة الذبياني في قصيدته الدالية المشهورة (أمِنْ آلِ ميَّة رائحٌ أو مغتذِ عَجْلَانِ ذَا زَادٍ وَغيَرِ مُزوَّد ِ) في وصف المتجردة زوج النعمان بن المنذر التي تقول وصفيته:

لَا مَرْحَبَاً بِغَدٍ وَلَا أَهْلَاً بِهِ           إِنْ كَانَ تَفْرِيْقُ الأَحِبَّةِ فِي غِدِ

فالسَّماوي لا يُرحب بِغدِ النَّابغةِ ولا يُهَلِّلُ به؛ ولا يرغب به مستقبلاً للحب؛ كونه يمثل شُؤماً عدمياً يخلفُ ليله عن نهاره ويُفرِّقهُ عن الأحبة، وهذا يعطِّل مسيرةَ التواصل الشُّعوري الذاتي بين الأحبة، ويُحطِّمُ أسوار اللِّقاء والمحبة ويكسرها بعناصر الفرقة والتباعد الذي يُعيق مسيرَ لقائه العشقي الإنساني الجميل.

ويتَّضح الفعل القرائي في قصيدته (مِيلادُ) التي يتغنَّى فيها السَّماوي ضمنياً في تناصِّه الشعري بـ (المها والجسر)، ليُضفي عليها شيئاً من روحه المائرة الجيَّاشة في قصته الحكائية مع الحبيبة حين يلتقي بها منشداً لها أجمل أشعار الغزل الروحي الرقيق التي فاضت بها روحه المُستهامة التَّواقة:

حَامِلَاً قَلْبِي عَلَى شَفَتِي

أُغَنِّي لِلْمَهَا وَالجِسرِ

يَتْبَعُنِي السَّفَرْجَلُ وَالقُرَنْفُلُ

وَالمَلَائِكةُ الصُّغَارْ (37)

وعبارة (المَها والجِسرِ) الشعريَّة من بيت رائع مُتفرِّدٍ لِعَلي بِنِ الجَهمِ الشَّاعرِ العباسيِّ الشهيرِ الذي يقول مُنشداً لتلك الجميلة التي شغلته بِسِهَامِ عُيونها وسلبت لُباب عقله ورُوحه العاشقة بلحاظها الموجعة:

عُيُونُ المَهَا بَيْنَ الرُّصَافَةِ وَالجِسْرِ     جَلَبنَ الهَوَى مِنْ حَيْثُ أَدْرِي وَلَا أَدْرِي (38)

وما غناء السَّماوي بالمها والجسر إلَّا شعور تحوِّلي منه بالحراك النفسي، وانتقالٌ من حال إلى حالٍ جديدةٍ أخرى. ويبدو أنَّ هذه الحال المتحرِّكة كثيرة التوالد والتجدُّد، وهي التي تدفعه باستمرار إلى التمثُّل أو التَّقنُّع برموز شعرية وأدبية كبيرة في زمانها ومكانها ومضمونها الفكري والوجودي الذي كانت عليه. وهذا ما نتلمّسهُ في تناصِّه الرمزي التَّاريخي (لِلملكِ الضِّلِّيل) الشَّاعر امرئ القيس بنِ حِجْرِ بِنِ الحَارثِ الذي عُرِفَ بهذا اللَّقب وبالقول الشهير ((اليومُ خمرٌ وغداً أمرٌ))؛ لكثرةِ تِرحاله وتنقُّلهِ بين القبائل العربية.

والضلِّيل في اللُّغة، هي صيغة مبالغة من الفعل ضَلَّ، وهو صاحب الغوايات والبطولات الكثيرة. وامرؤ القيس معروف بسيرته الحياتية، وقصصه ومغامراته الليلية وتنقُّلهِ بين السعادة والشقاء، والنصر والهزيمة لما مرَّ به. يبدو أنَّ السَّماوي كان شديدَ التأثُّر بهذه الشخصية الشِّعرية المُبدعةِ التي تجمع بين صفة المُلكِ والشِّعرِ، وكانت كافيةً لأنْ يتقنَّع بها ويتناصُّ مع أحداث قصتها الشهيرة في الأدب العربي مازجاً بينها وبين تجربته الشعورية مع الحبيبة شَهرزاد السومرية رمزِ عشقه الأثير، فوصف حكايتها:

وتَقَصُّ بِالقُبُلَاتِ لِيْ

قَصَصَاً

عَنِ الضِّلِّيْلِ صَارَ مُؤَذِّنَاً

وَمُبَشِّرَاً بِالعُشْبِ بَادِيَةَ السَّمَاوَةِ

وَالرُّبَى بِالاِخْضِرَارْ (39)

وكأنَّ لسان حال الشاعر السَّماوي الآني يقول ويعترف ويقرُّ لمتلقِّيه بذاته الشعرية أَنا (الضلِّيلُ)، أَنا امرؤ القيس المهاجر الجديد في مدن الأرض والمنافي والتغرُّب الذي يحمل رسالةً سماويَّةً إنسانيةً مُقدَّسةً لأهله وناسه وموطنه بادية السَّماوة في العراق، وهي رسالة تبشِّرُ بصفات الخير والأمل والحياة الرغيدة الآمنة؛ لِتُعيدَ إليها نَسغَ روحها وإنسانيتها المفقودة في عهود الظلام والتَّردِّي والانغلاق عن آفاق الوطن.

ويعتمد يحيى السَّماوي في تناصِّه الأدبي الديني والتاريخي وغيره على أسلوب الامتصاص مع النصوص السابقة، وهو ما سمح به الكثير من النقَّاد وأيدوه حديثاً. وهذا المؤثِّر كان حافزاً كبيراً للسَّماوي في أنْ يتَّخذ من تقنيَة (الكُولاج) الفنِّي أسلوباً شعرياً في توظيف تناصِّاته الشعريَّة وتضمينها بالاقتباسات التحوِّليَّة المقبُولة في تكنيكها الفنَّي الذي يقوم على تجميع أشكالٍ ومجالاتٍ شعريَّةٍ وفنيَّةٍ مختلفةٍ؛ لتكوين عمل جديدٍ ذي تأثيرٍ فنِّيٍ أوسع في بنية الخطاب الشعري والثقافي.مثل هذا التشكيل التَّناصِّي الفنِّي الرائع نجده ماثلاً بين طيَّات قصيدته (ثالثةُ الأثافي) التي جسَّدها بصورةٍ كليَّةٍ بَلاغيةٍ حَلَّقَ فيها بعيداً في مخياله الشعري؛ يصله إلى عالمه الشعوري الذاتي مع من تُحدِّث روحهُ بروحها مُحلقةً بهوى العشق ونداه البهية:

نَحْنُ الوِئَامُ

سَرِيْرُنَا اِفْتَرَشَ الغُيُومَ

أَنَا المُحَلِّقُ فِي هَوَاكِ

وَأَنْتِ مِنْ صَدْرِي القَوَادِمُ

والخَوَافِي (40)

إنَّ قراءتنا التناصيَّة لهذه الدفقة الشعورية التي تناصَّ فيها السَّماوي تضمينياً مع بيت مشهور من قصيدة المتنبِّي الشهيرة (عَلَى قَدرِ أَهْلِ العَزْمِ تَأْتِي العَزَائِمُ...) التي صور فيها براعة وقوَّة جيشِ سيف الدولة الحمداني الذي يتكوَّنُ تركيبه التشكيلي الخُطَطِي من جناحين (الميمنةِ والميسرةِ، ومقدٍّمةٍ ومؤخِّرةٍ، وقلبٍ) في نسقية معناه البَعيدِ. أمَّا معناه القريب، فهو الصورة الكليَّة الرائعة التي رسمها لأجزاء الطير.

وها هو السَّماوي يستفيد من هذه الفكرة الفنيَّة وَيُوظّفها في تشكيلٍ جماليٍ فنِّي يتجاوز فيه الحدود البلاغية المألوفة في الشعر؛ ليرسم لنا صورةً حَاليةً مكانيةً مع الآخر الذي شكَّل حضوراً مائزاً في تكوين هذه اللَّقطة التصويرية العابرة لتخوم الفضاء السَّمائي الذي حَلَّقَ فيه الشاعر طائراً مُغرِّداً مع الحبيبة:

ضَمَمْتَ جَنَاحِيْهُم عَنِ القَلْبِ ضَمَّةً     تَمُوْتُ الخَوَافِي تَحْتَهَا وَالقَوَادِمُ (41)

يحتل شعراء الغزل العُذري العرب المشهورونَ في العصر الأُموي حُضوراً مائزاً، وتَلقى معشوقاتهم مكاناً مُهمَّاً وواضحاً في إشارات الشَّاعر يحيى السَّماوي إلى الموروث الشِّعري الأدبي؛ كونهم جُزءاً مُهمَّاً من منظومة تكوين تاريخه العريق. وغالباً ما تكون مضامينُ هذه الإشارات ذِكراً لأسمائهم الشعرية الشهيرة مقرونةً بذكر أسماء حبيباتهم اللائي خَلدَهُنَّ الشِعرُ العربي تَدويناً وتوثيقاً على مرِّ العصور. وقد أفاد يحيى السَّماوي من تضمين قصص هذه الأسماء مدوَّنات في تناصَّاته الشعرية؛ لتكونَ شاهداً رمزياً على تجربته الشعرية، وأُنموذجاً تراثياً ساطعاً يُضربُ به المثل الأدبي على مواقفه الذاتية المترعة مع المعشوقة:

مَا السُّنْدَبَادُ بِغَيْرِ أَخْطَارِ البِحَارِ ؟

وَمَنْ "بُثَيْنَةُ" فِي قَوَامِيْسِ الصَّبَابَةِ وَالهَوَى

لوَلْاَ جَمِيْلْ؟ (42)

والتناصُّ الذي وظَّفه السَّماوي يشي بذكر (بثينة) معشوقة جميل بن عبد الله بن مَعمِرِ بنِ العُذري القُضاعي الشَّاعر الأُموي الذي يُنسبُ لِقبيلة عُذرة الأمويَّة، فلا وجود لذكر بثينة بنتِ حَيانِ بنِ ثعلبة العُذرية في قواميس العشق وأبجدياته الوالهة، لولا وجود المعشوق الشرطي المثير (جميلٌ). وقد استثمرَ الشاعر قضية جميل بثينة؛ ليفيدَ بأنَّ العِلَّة في الهوى ترتبط بمعلولها الغائي، مثل ما هو السندباد البحري لا كونٌ وجوديٌّ لهُ، لولا البِحار. ومعنى ذلك أنَّ الأسباب مرهونة بالمسببات الَّتي هي أساس العلَّة والمعلول بالنسبة للشاعر في إحالاته الأدبية والشعرية القصصية لهذه الرموز التراثية الشعرية الكبيرة.

ومن المظاهر الأدبية التناصِّية التي أحياها الشاعر العاشق الثائر المجاهد يحيى السَّماوي وابتكرها رمزاً تناصيَّاً شعرياً في بنيات قصائده العشقية ذات الروح الصوفية والجوِّ العرفاني شخصبة (عِشقِائيلُ) النحتية، مرسال العشق الروحي وَمِهْبَطُ وحي الهوى بينهُ وبين معشوقته الحقيقية مُستفيداً من دالة التَّأفُّف:

قَالَ "عِشْقَائِيْلُ" لِيْ

يِا سِادِنَ العِشْقِ وَنَاطَورَ بَنَيْهْ

 

لَا تَقُلْ أُفٍّ

إَذَا أَوْلَغَ فِي نَهْرِكَ ضَبْعٌ

أَوْ دَنَا مِنْهُ سَفَيْهْ (43)

وكأنَّ شاعرنا يخبرنا بأنَّه يأخذ أوامرَ مخياله العشقي من معلِّمهِ (عِشقائيلَ)، ذلك النحتُ الرمزي الذي صَيرَّه إبداعه الإنتاجي مِرسالاً للحبٍّ ورسولاً طيِّعاً للهوى، فلا يُعصي له أمراً ما في تباريح الهوى طالما قطوفه في العشق دانية أُكُلُها، وحلاوتها العشقية تُغري قلوب القاطفينَ من جنائنه العشقية دونَ مَعصيةٍ تمنعه من تذوق ذلك الرحيق العسلي لشهد محبوبته السومرية الأرضية المُثلى بهذا النموذج الفذِّ التَّناصِّي.

ج- التَّنَاصُّ الأُسطُوريُّ (المَلحَمِيُّ)

لاشكَّ أنَّ التَّناصَّ الأُسطوريَّ يأخذ شكله الطبيعي، ويستمدُّ قوته الفكرية والجمالية في البنى الشعرية من الأسطورة في التراث الأدبي، والتي تمثِّل كما يقول أنس داوود:"أجزءَ الناطقِ من الشعائر البدائية، الذي نَمَّهُ الخيال الإنساني، واستخدمته الآدابُ العالميةُ... فهو يعني تلك المادة التراثية التي صِيغتْ في عصور الإنسانية الأولى، وعبَّر بها الإنسان في تلك الظروف الخاصَّة عن فكره ومشاعره تُجاه الوجود فاختلط فيها الواقع بالخيال وامتزجت معطيات الحواس والفكر واللَّاشعور واتَّخذ فيها الزمان كما اتَّخذ فيها المكان" (44). وقد أفاد الشاعر من ذلك من خلال إسقاط الواقع الأسطوري على معطيات واقعه الحدثي.

ولعلَّ هذه المُعطيات التي انصفت الأسطورة، والمخرجات التي ظهرت عليها في التراث كانت ميداناً خِصْبَاً، وعالماً أرحب من عوالم اجتذاب الشاعر الحديث؛ لتكون محطَّ أنظاره واهتمامه الخيالي، وكانت مُتَّكَأً فكريَّاً طافحَاً بالشاعرية والخيال الإنساني للسَّماوي في توظيف واستحضار رموزه الأسطورية، والإفادة من قصصها الخيالية؛ لتكون نصوصاً تناصيَّة إنتاجيةً أوليَّةً سابقةً لمتفاعلاته النصيَّة الحديثة في إعادة بناء وإنتاجِ نصوصٍ حاليةٍ تَسعُ عوالمه وآفاقه الشعرية والشعورية الذاتية؛ وذلك كون البنية السَّردية الأسطورية "تسعف الشاعر على الربط بين أحلام العقل الباطن ونشاط العقل الظاهر، والربط بين الماضي والحاضر، والتوحيد بين التجربة الذاتية والتجربة الجماعية، وتنقذ القصيدة من الغنائية المَحَضِ، وتفتحُ آفاقها لقبول ألوانٍ عميقةٍ من القوى المتصارعة والتنويع في أشكال التركيب والبناء" (45).

فضلاً عما تختزنه الأسطورة في المثيولوجيا من طاقةٍ إيحائيةٍ رمزيةٍ تمنح الشاعر قوةً تعبيريةً إيجابيةً في الإفصاح عن مشاعره وأفكاره وفلسفة رؤاه المنهجية بطريقةٍ فنيَّةٍ عميقةٍ تبعده عن المباشرة والتقريرية والتسطيح الرتيب المملول الذي لا يغني أثراً ولا يُسمن بطناً من جُوع. والأسطورة تغني الشاعرية بنصِّها.

إنَّ اهتمام السَّماوي بالتَّناصِّ الأُسطوري الملحمي لا يقتصر على مضامين الأسطورية العربية القديمة والأساطير العالمية كالأغريقية والرومانية التي وجدت لها مكاناً تفاعلياً نسقياً في خطاب الشاعر مُستفيداً من شخصياتها ورموزها وحكاياتها الموازية للأساطير العراقية البابلية والسومرية القديمة. واللَّافت على نصوصه الشعرية المُتناصَّة استخدامة للشخصيات الأسطورية أكثر من فنتازيا الأسطورة، أو من قصتها المعروفة، وذلك من خلال الرمز لها أو الإيحاء بالإشارة إلى بطلها الرمزي، ولا سيَّما أسماء الرموز أو أسماء المدن القديمة والأقوام البائدة كـ (عادٍ وثمود وسدوم)، وغيرها من قصص الخرافة وشياطين عبقر الشعرية التي ألهمت الشعراء شعريةً وشعوراً مخيالياً عميقاً ميَّز أسلوبية معجمه الشعري الثَّرِّ بجمالياته.

ولنقف في هذا على المقطع الأخير من قصيدة الشَّاعر السَّماوي (مَا الَّذي تَعنينَ لِي؟) لنرى كيف تمكَّن السَّماوي من توظيف شعرية الحسِّ الأسطوري للرمز السُّومري (إينانا)، آلهة الحبِّ والحربِ والجنس والخِصب والجمال والحياة، كي تصل الذات الشاعرية إلى أقصى قدراتها الكونية، ولتصلَ الذات الأنوية إلى ذروتها وهيمنتها العليا في هذا التصوير الرمزي لمعطيات الآلهة إينانا في تحكمها بالعالم السفلي:

إِنَّ إِيْنَانَا إِذَا جِزْتَ مَدَاهَا

تُمْسِكُ المَاءَ عَنِ الحَقْلِ

وَتُظْمِي جَدْوَلَكْ (46)

وكأنَّ السَّماوي يبوح بإشاراته المثيولوجية للآلهة السُّومرية بأنَّه هو (إينانا) في الحبِّ، بل هو ديموزي مصدر خصب هذا العشق الروحي، ونماؤه الممطر الهاطل في هذا الحبِّ الذي لولاه لِما حصلت به الحياة مع الحبيب الذي لا يمكن أنْ يتجاوزك مداه الروحي. وإنَّ تناصَّ يحيى السَّماوي مع الأسطوري (إينانا) له أبعاده الفنيَّة المؤثِّرة، وأثره على تفاعله الحالي في ميدان الذات الشاعرية.ومعلوم أنَّ (إينانا) السومريَّة مع (ديموزي)، يقابلها في الأساطير البابلية مع تموز (عشتار)، آلهة الحبِّ والحرب والجمال والمطر، ويقابلها (عشتاروت) عند الفينيقيين، و (أفروديت)، أو الزهرة عند اليونانيينَ، و (فينوس) عندَ الرومانيينَ. فالآلهة واحدة في مضمون تجلِّياتها، وإنْ تعدَّدت مسمياتها الحضارية العربية أو الإغريقية أو الرومانية أو غيرها من الحضارات الإنسانية الآخرى في العالم التي عرفت بسمات حضاراتها الإنسانية.

وفي إشارةٍ أسطوريةٍ واضحةٍ يتمنَّى السَّماوي في قصيدته (شجنٌ منْ حجرٍ) أنْ يكون (سيزيفَ جَديداً) رمزاً للعذاب الأبدي في تناصِّه مع قصة الرمز الحقيقي الأسطوري (سِيزيف)إحدى الشخصيات الأسطورية الأكثر مَكراً وخداعاً في المثيولوجيا الأغريقية، والَّتي تَمكَّنت حتَّى من خداعِ إلهِ الموت (ثاناتوس).الأمر الذي أغضب كبير الآلهة (زيوس)، فعاقبه بحمل الصخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، ويظلُّ يراوح هكذا، حتَّى صار رّمزاً أبديَّاً للعذاب الجسدي والنفسي الإنساني الكبير. فيقول السَّماوي مُجسِّداً خاصية هذا الرمز للتعبير عن تأصيل تجربته الذاتية الشعورية العشقية في قداسة الحبِّ الروحي الأرضي الحقيقي:

لَا بُدَّ لِيْ مِنْ صَخْرَةٍ

لِأَكُوْنَ

"سِيْزِيْفَ" الجَدِيْدَ..

وَلَيْسَ مِنْ بَحْرٍ وَأَشْرِعَةٍ

فَأَبْتَدِئ الرَّحِيلْ (47)

إنَّ السَّماوي حينما تماهى في تناصِّه مع قصة الرمز الأسطوري الأغريقي أراد أنْ يوصل رسالةً لمتلقيه القارئ بأنَّ يكون رمزاً متجدِّداً للتحدِّي والصمود والعزيمة والرفض والبطولة والإصرار والاحتجاج، مهما كانت تجلِّيات هذا العذاب، لا بدَّ من سيزيف جديدٍ يُبحرُ به سُفناً مشرعةً في بحر الثورة لتحقيق ما يمكن تحقيقه، وإنْ كان البعدُ جداراً قويَّاً حائلاً بينه وبين ذلك الحلم الفريد الذي يمكن التوحُّد معه رمزاً.

ونلمح في إحدى قصائد يحيى السَّماوي (ومضةً) فنيَّةً أو إشارةً تناصيَّةً واضحةً مع قصيدة (الأرضُ اليَّبابُ) للشاعر الإنكليزي (ت.س إليوت)، والتي تضمَّنت شخصياتٍ أسطوريةً عرفانيةً توحي بالتنبُّؤِ، والتي تشكلِّ دعامةً القصيدة الأساسيَّة في نظرة إليوت إلى العالم الأحادي بعد الحرب العالمية الأولى. وتشكِّل هذه النظرة خيبةَ أملِ جيلٍ من ذلك العالم الأحادي، وتصوِّرهم ثقلاً بالمخاوف والذعر والشهوات العميقة، وفيها إشاراتٌ كثيرةٌ تؤْذِنُ بالخلاص من خلال هذه الشخصيات الأُسطورية التي أسقطها على شخصيةٍ حديثةٍ في عصره؛ لأنَّها تمتلك قوةً روحانيةً تستشرف مستقبل العصر الحديث وتتنبَّأ كاتبه. وقد وظَّف لهذه القصيدة شخصيةَ عَارفٍ فَقَدَ البصرَ؛ ولكنَّه لم يفقد بَصيرةَ العَقلِ، ودلالةَ القلبِ كي ينظر إلى العالم الذي من حوله نظرةً فرديَّةً؛ كونه فاقداً للشيء، ولا يمكن أنْ يعطيه ما يشعر به من أمل وخلاصٍ:

قَالَ لِيْ اَلأَعْمَى

أَنَا

أَرْضٌ يَبَابْ

 

لَيْسَ يَعْنِيْنِي إِذَا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ

أَوْ البَدْرُ عَنِ الشُّرْفَةِ

غَابْ (48)

والحقيقة أنَّ ومضة تَقنُّعِ الشاعر السَّماوي سَيَّانٌ بقناع رمزية الأعمى في فرض رؤيته الشعرية عن عالمه الذي يتوحَّد معه ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في الإفادة من موضوعية (الأرضِ اليبابِ)؛ لِيُعيدَ إلى عالمه الأرضي جزءاً من خصوبة الحياة ونمائها المفقود، بدلاً من تلك النظرة التشاؤمية المُتَخَوِّفةِ من فقدان الأمل، والشعور بالخيبة والخذلان. وإذا كان إليوت قد وظَّف شخصيتي العرافة الأسطورية (سيبيل ليبيكا وتايريزياس) وأسقطهما على شخصياته الحديثة؛ كونهما يمتلكان قوىً روحانيةً تنبُّؤيَّةً،فإنَّ السَّماوي استثمر شخصية (الأعمى) الضرير؛ لِيُماهي بها تناصيَّاً شخصيات إليوت من أجل أنْ يسقطها على فضاء عالمه الوجودي الحاضر؛لتكون مُنقذاً مُخلِّصاً من الهمِّ الكبير الذي يعتري أفكاره وتجدُّد إبداع رؤاه.

ولم يهمل يحيى السَّماوي في شعره الإشارة أو الإيحاء إلى أسماء الممالك والمدن الأسطورية القديمة التي دخلت عالم المثيولوجيا الأسطورية؛ لأهميتها التاريخية الحضارية زمانياً ومكانياً. فلنقرأ السَّماوي وهو يُشير في إحدى تناصاته التضمينية إلى مدينة (أُور) التاريخية مِهْبَطِ سيدنا إبراهيم، وعاصمة الدولة السومرية التي اشتهرت بمبنى الزقورة التي فيها معبد الآله (إينانا) آلهة الحبِّ والقمر كما وردت في الأساطير (المثيولوجية) السومرية. فضلاً عن أنَّ مدينة (أور) تاريخياً هي موطن النبي إبراهيم الخليل (ع) أبي الأنبياء قبل نحوَ ألفي سنةٍ قبل الميلاد. وقد أشار السَّماوي إلى هذه المدينة مقرونةً بذكر (المَشحوفِ) الزَّورق السَّومريِّ الذي يعود تاريخ وجوده إلى الحضارة السومرية التي بزغت قبل نحو خمس آلاف سنةٍ في العراق؛ ليصلَ ماضيه الأصيل وتاريخ جذوره العريقة بحاضره الراهن ومستقبله الحالي،إذ يؤرخن ذلك:

وَفِيْهِ مِنْ (أُوْرَ) مَشْحُوْفٌ يَسِيْرُ بِهِ    نحوَ الهِلَالِ بِضَوْءِ الأَنْجُمِ الزُّهُرِ (49)

إنَّ اجتذاب يحيى السَّماوي لمدينة أور واستخدامها في شعره ليس تقليداً على هدى الشعراء الغربيين الآخرين أو غيرهم واتباع أساليبهم الأسطورية، وإنما كان ذلك رغبةً منه؛ كونه شاعراً سومريَّاً جنوبياً وابن مدينة السَّماوة التي تمتدُّ جذورها التاريخية إلى أرض سومر. فضلاً عن أنَّ المعشوق الحقيقي الذي تغنَّى به على أرض الواقع أصله سومري، فمن حقِّه أنْ يزهو بالمعشوق الذي صيَّرَ زورقه الصغير،وكأنّه هلالٌ يشقُّ بضوئه الزاهر من الأنجم الوضاءة، وهو يسير في آفاق الحبَّ الُمتهادية ويشقُّها نحوَ عنانِ السَّماءِ.

ونلمح في جديد الشاعر الثائر الصبور يحيى السَّماوي إبداعه الشعري في استكمال مشروعه الشعري الثقافي الجمالي الحداثوي الذي بدأه برحلته المعراجية لـ (مدينةِ الشِّعر الَفاضلةِ). والذي إنكبَّ فيه على توظيف وأسطرة الرمز الأسطوري السومري العراقي في خطابه الشعري التفعيلي، والَّذي أيضاً مازج وحدته الموضوعية الكبرى بجماليات العشق الحسِّي الرَّوحي الذي اتَّخذه نافذةً لبوابته الشعرية الواسعة التي أطلَّ منها على عالم المسكوت عنه في فضاءات الوطن الكبير (العراق) المنطفئة التي وُئِدَت قتلاً، والتي يحاول الشاعر فيها ومن خلالها أنْ يُبعث حياً من حطام رمادها الَّناري في هذه الصرخة الشعورية المدويَّة الآفاق في صحراء قصيدته المترامية الأطراف برمالها الموضوعية المتحركة، وكثبانها الضوئية الناطقة بجمال حقِّ الواقع اليومي الراهن المعاش الذي جرَّده من جمبع حقوقه الذاتية:

هَا أَنَا أُفرِغُ مِنْ يَومِيَ أَمْسَيَ

نَافِضَاً عَنِّي رَمَاداً

كَانَ يُوْمَاً شَجَرَاً مُخْضَوضِرَ الأَفْيَاءِ

يُشْجِي بحَفِيْفٍ وَهَدِيْلٍ سَامِعِيهْ (50)

فهذا المدُّ الشعوري المتصاعد غضباً وجيشاناً، والمُلتهب احتراقاً وتوجُّعاً وألماً، والمائر حزناً وانتكاساً واستغراباً وتساؤلاً ومفارقةً واندهاشاً، فقد نطقت به صارخةً عتبة النصِّ العنوانية (الامتلاءُ فراغاً) المتضادة في سيمياء مفارقتها الشعرية التي ضمَّتِ النقيضين معاً. فهذه القصيدة الهائية السكونية المُقيَّدة المملوءة بهاءات السَّكت في روي تقفيتها، والمسبوقة بروي ياء المدِّ، والمموسقة تنغيماً وَقَعِيَاً مُتساوقاً في وحداتها التفعيلية السريعة لبحر الرمل الراقص السريع الذي حولَّه الشاعر بوعي حكمته الموسيقية الواعية إلى دراما موضوعيةٍ تتناسب مع سياقات الحدث الموضوعي التاريخي.

وقد صدَّرها الشاعر قَصدياً بمفردةٍ لُغويةٍ سَاخنةٍ (مُستغِيثاً) الدالة على اسمها المُشتق من الفاعلية على وجع الصرخة التي تضمَّنها تركيبه اللُّغوي النَّحوي الشعري الجُمَلِي الدَّالُ على واقع الحال (المَا حَوْلِي)، كونها حالاً مفردةً دالةً وَمُبيِّنَةً على مجيء صاحب الحال (الشاعرِ) السَّماوي الذي يَستفهم فيه من آلهة الحكمة بعد أن تقَطَّعت به كلُّ أسباب الرجاء والأمل عن الذي لا يعرفه أو يعيه واقعاً مُبهماً مجهولاً غامضاً لا يُدرَك فحواه، ولَا تُفهَمُ صورتهُ البصرية المرئية مستقبلاً وغداً للشاهد العَيانِ لعصره:

مُسْتَغِيثَاً جِئْتُ أَسْتَفْهِمُ مِنْ آلِهَةِ الحِكْمَةِ

عَمَّا لَا أَعِيهْ ( 51)

نافياً عن نفسه في الوقت ذاته صفةَ الكُفر، وتُهمةَ الإلحاد، ومُعَلّلِاً أيضاً أسباب تلك الاستغاثة بكثرة امتياحِ أصحاب السوابق والأرباب في (أوروكَ الجديدةِ)، (عِراقُ اليومِ)، عراق الحاضر القاهر، كلٌّ له في سورة (الكرسي) رأيٌ وتفسير وتحليل وتعليل ومآرب عديدة شتَّى، وله فيها مالٌ وجندٌ يحرسونَ ما ظهر من التخريب، وما بطن من الفساد، الأمر الذي اختلط عليه فيه (حَابلهُ بِنَابِلِهِ)، نتيجةَ احتدام الفوضى العارمة، فباتَ لا يَعرف أيَّ ربٍّ منهم يَتَّقِيه. فالوجوه الكالحة المعبودة زيفًا ورياءً تعدَّدت صورها وأشكالها اللّونية،واختلط فيها الغثُّ من السمين،ولكنَّ عباءة الفضيلة والإيمان واحدةٌ لم تتغيَّر مظلتها الغطائية أبداً:

لَسْتُ بِالكَافِرِ

لكنْ كَثُرَ الأَرْبَابُ فِي أُورُوكَ ..

كُلٌ ولَهُ فِي سُوْرَةِ "الكُرْسِي" تَفْسِيْرٌ وَزَعْمٌ

وَلَهُ مَالٌ وَجُنْدٌ..

لَسْتُ أَدْرِي أَيُّ رَبٍّ أَتْقِيهْ (52)

هل يُعقلُ هذا الذي يَحدث في بلد الحضارات؟ أَيُعقَلُ هذا الذي يَحدث في (أوروكَ) الجديدة أنْ تأكلَ الثورةُ أبناءَها الحقيقيينَ؟ وَتُدَنِّسُ تاريخ حضارتها الضاربه جذورها في عروق الأرض؟ فهل يُعقل حاضر مُتهالكٌ يَغتصبُ ماضياً زاهراً خالداً خَيِّراً باهراً ؟ ما الذي يَحدث في أرض السواد؟ أينَ أنتَ ماضٍ يا عَراَق التاريخِ والأمجادِ والسؤددِ والحضارةِ؟ يَا له من واقعٍ قَميءٍ مُدَّمِرٍ وقحِ آسرِ. والأنكى من ذلك كلِّه أسفي على حاضرٍ لا يُشَرِّفُ بأبجدياته الحاضرة ماضيَ ذلك التاريخ المائز الزاخر. يالها من معادلةٍ متماهيةٍ مقلوبةٍ صعبةِ الحاضرِ، فكانت أوروكُ في نظره هي الجنة التي يُقيم فيها حدَّ العدلِ والأمانِ:

كَاَنتِ الجّنَّةَ أُورُوْكُ

وَكُلُّ النَّاسِ:

أَنْكِيدُو وَ"شَامَاتٍ" وَ"سَيْدُورِي"

فَمَنْ صَيَّرَها النَّارَ؟

وَمَنْ صَيَّرَ خَمْبَابَا إِلهَاً

يَقْتَدِيهْ (53)

***

" يتبع "

د. جَبَّار مَاجِد البَهادِلي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم