صحيفة المثقف

محمود محمد علي: مجمع اللغة العربية المصري.. تاريخ من الأصالة والعراقة

محمود محمد عليشهد النصف الأول من القرن الـ20، نهضة كبرى في الاهتمام باللغة العربية، وإنشاء المجامع اللغوية العلمية في العديد من الدول العربية، أقدمها هو مجمع دمشق عام 1919 ثم مجمع القاهرة 1932، تلاه مجمع بغداد 1947، ثم باقي الدول العربية، فكان لا بد من تعاون المجامع الثالث من أجل إنشاء كيان يجمع تلك المجامع اللغوية وتنظيم الاتصال وتنسيق الأعمال بينها، فتم تأسيس اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية عام 1971 برئاسة الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي.

وقد جاءت الخطوة الأولى بانعقاد مؤتمر المجامع اللغوية العلمية العربية في دمشق خلال عام 1956 بإشراف الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، وأسفرت بحوث المؤتمر ومناقشاته عن توصيات مهمة ترمي إلى تحقيق نهضة لغوية شاملة، وأُدرجت هذه التوصيات في خمسة أقسام أساسية: أولها: تأسيس اتحاد للمجامع اللغوية العلمية العربية ينظم الاتصال بينها وينسق أعمالها، ويكون المرجع الذي يوحد المصطلحات التي تضعها المجامع والمؤسسات العلمية والعلماء، الثاني: وسائل ترقية اللغة العربية، الثالث: تشجيع التأليف والترجمة، الرابع: وضع المصطلحات العلمية، الخامس: تحقيق المخطوطات ونشرها.

وفى عام 1971 تم تأسيس اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، إذ اقترح فيها تشكيل لجنة تتألف من عضوية كل مجمع لغوي في القاهرة وبغداد ودمشق، لوضع نظام هذا الاتحاد، واجتمعت اللجنة بالدكتور طه حسين، وتم وضع النظام الأساسي والداخلي للاتحاد، وانتخب الدكتور طه حسين رئيس مجمع القاهرة رئيساً للاتحاد، والدكتور إبراهيم مدكور أميناً عاماً للاتحاد، والدكتور أحمد عبدالستار الجواري عن مجمع بغداد، والدكتور عدنان الخطيب عن مجمع دمشق أمينين عامين مساعدين.

وفي مثل هذا اليوم من سنة 1933 وقع الملك فؤاد مرسوما لإنشاء مجمع اللغة العربية، ومن وقتها وجد هذا الكيان المهم، الذي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك اهتمام مصر باللغة العربية والمحافظة عليها، ويعكس جزءا من هوية مصر التي لا مجال للتشكيك فيها.

وقد تأسس مجمع اللغة العربية في القاهرة في 14 من شعبان عام  1351هـ الموافق 13 من ديسمبر سنة 1932م في عهد الملك فؤاد الأول، ، وبدأ العمل فيه سنة ١٩٣٤، ومنذ هذا التاريخ ورواده وقاماته مخلصة متوفرة على رعاية اللغة العربية، لا يحرفها عن رسالتها السامية جشع سياسي أو تناحر حزبي تعبدًا في محراب اللغة، وكان عدد الأعضاء المصريين ٢٠ عضوًا، ومن العرب والمستشرقين عشرة أعضاء، وفى عام ١٩٤٠ قام وزير المعارف الدكتور حسين هيكل بإصدار مرسوم بضم عشرة أعضاء (قامات) بالتعيين، منهم الدكتور هيكل (نفسه)، ولطفى السيد وطه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم والمازني وكبار الشخصيات الأخرى.

والمجمع يُعد أرفع مؤسسة مصرية ذات تاريخ رائد منذ كان يقودها أستاذ الجيل لطفى السيد وبعده طه حسين وإبراهيم مدكور وشوقي ضيف، كما ضم المجمع الفحول من أهل اللغة والأدب؛ للنظر في لغتهم والمحافظة عليها، ووضع البدائل للألفاظ الأجنبية التي بدأت تشيع على الألسن؛ فاجتمع نفر منهم في بيت محمد توفيق البكري سنة (1310هـ=1892م) ضم: الإمام محمد عبده، وحفني ناصف، والشيخ محمود محمد الشنقيطي، وغيرهم من أهل اللغة، واتفقوا على إنشاء هيئة أو مجمع يقوم على حماية اللغة والمحافظة عليها، ووضعوا اللائحة التي تنظم شؤونه، وانتخبوا “البكري” رئيسًا لهذا المجمع، لكن هذا المجمع لم يُكتب له الاستمرار، فتوقف بعد أشهر قلائل.

ولم تخفت فكرة إنشاء المجمع، فظلت الدعوات تتصاعد بضرورة قيام هيئة علمية تنهض بشؤون اللغة العربية، فأسس الشيخ محمد عبده سنة (1318هـ=1900م) جمعية لإحياء العلوم العربية؛ لتكون نواة لمجمع جديد، ولم يُكتب لهذه الجمعية البقاء، فلحقت بمجمع “البكري”، وتوقفت عن العمل. ثم حمل الدعوة إلى إنشاء مجمع لغوي الأديب الكبير “حفني ناصف”؛ فكوَّن في سنة (1325هـ=1907م) ناديًا لخريجي "دار العلوم" برئاسته، وعقد ندوة خاصة دامت نحو أسبوعين لمعالجة بعض قضايا اللغة، وألقيت في هذه الندوة بحوث للأساتذة: حفني ناصف، وحمزة فتح الله، ومحمد الخضري، وطنطاوي جوهري، وأحمد فتحي زغلول، ولم يكن حظ هذا المجمع بأفضل من سابقيه؛ فلم يستمر هو الآخر. ولم يكد يمضي على هذه الندوة عشر سنوات حتى أخذ أحمد لطفي السيد في سنة (1335هـ=1916م) في إنشاء ما يُسمى بمجمع "دار الكتب"، واختير الإمام سليم البشري شيخ الجامع الأزهر رئيسًا له، وقد استمر في عمله فترة قصيرة، فعقد 24 جلسة، ثم توقف عن العمل بعد اشتعال ثورة 1919م، وحاول لطفي السيد استعادة نشاطه في سنة (1344هـ=1925م) لكنه لم يفلح في ذلك.

ولما تولى "أحمد لطفي السيد" وزارة المعارف اشتد اهتمامه بمشروع إنشاء المجمع اللغوي، وجعله تحت إشراف وزارة المعارف، حتى لا يكون نصيبه بعد ذلك مثل نصيب سابقيه، وبعد مجهودات مضنية في إقناع الحكومة تحقق إنشاء المجمع، وصدر مرسوم ملكي في (14 من شعبان 1351هـ=13 من ديسمبر 1932م) بإنشاء مجمع اللغة العربية الملكي، وحدد المرسوم أغراضه بأن يحافظ على سلامة اللغة العربية، وجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون ومستحدثات الحضارة المعاصرة، ووضع معجم تاريخي للغة العربية، وتنظيم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة، وإصدار مجلة لنشر البحوث اللغوية.

وقد نصت المادة الثانية من المرسوم الملكي الخاص بإنشاء "مجمع اللغة العربية الملكي" على أن:   مجمع اللغة العربية بالقاهرة  أغراض المجمع هي: أن يحافظ على سلامة اللغة العربية، وأن يجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها، ملائمة ـ على العموم ـ لحاجات الحياة في العصر الحاضر، وذلك بأن يحدد ـ في معاجم أو تفاسير خاصة، أو بغير ذلك من الطرق ـ ما ينبغي استعماله أو تجنبه: من الألفاظ والتراكيب، وأن يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية، وأن ينشر أبحاثًا دقيقة في تاريخ بعض الكلمات، وتغير مدلولاتها، وأن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة بمصر وغيرها من البلاد العربية.

ويهدف المجمع الى الحفاظ على سلامة اللغة العربيّة وحمايتها من العواقب التي ترشحها الظروف الراهنة والمتوقّعة، الناجمة – أساسًا - عن مزاحمة اللغات الأخرى ، فاللغة العربيّة في بلادنا في صراع مفتوح مع اللغة العاميّّة من جهة واللغة العبريّة من جهة أخرى، ويسعى المجمع الى جعل اللغة العربيّة وافية بمطالب العلوم والآداب والفنون، وإلى ملاءمة مستحدثات الحضارة المعاصرة والحياة المتطوّرة. سيجتهد المجمع في النظر في أصول اللغة العربيّة وأساليبها، لاختيار ما يوسّع أقيستها ويبسّط تعليم نحوها وصرفها وييسّر طريقة إملائها . وإلى ذلك سينشط المجمع في عقد المؤتمرات والندوات العلميّة والثقافيّة ، ونشر الدراسات اللغويّة والأدبيّة والإسهام في إحياء التراث العربي. كما سيقدّم التوصيات إلى الجهات المختصّة لاتخاذ ما يكفل الانتفاع بما ينتهي اليه المجمع لخدمة سلامة العربيّة وتيسير تعميمها وانتشارها. هذه الفعاليات والنشاطات والأبحاث والتوصيات سيتمّ تعميمها من خلال إصدار المجلات والنشرات والكتب والأيام الدراسيّة. سوف ينصبّ اهتمام المجمع بشكل أساسيّ على اللغة العربية، قديمها وحديثها، ودراستها في سياقاتها المختلفة: اللغوية، الأدبية، العلمية، الاجتماعية والسياسية، وكذلك على تلبية كافة الاحتياجات اللغوية للناطقين بالضاد، وتقديم الاستشارة العلمية والبحثية في كل ما يتعلق بعلوم اللغة والحضارة . وتحقيقًا لهذه الغايات يسعى المجمع إلى استقطاب خيرة الباحثين في المواضيع ذات الصلة، بالإضافة إلى المتخصصين بالعلوم الأخرى (الإنسانية، الاجتماعية فضلاً عن العلوم الدقيقة)، وإلى تأليف لجان مختلفة تتناول اللغة من كافة جوانبها وأبعادها، وتعكف على تشخيص مشكلاتها وتقديم الاقتراحات والتوصيات. ويسعى المجمع كذلك إلى التعاون مع المراكز والمؤسسات المختلفة في أكاديمية القاسمي كالمكتبة، والإذاعة والمراكز الأخرى، ومع مراكز بحثية وأكاديمية في البلاد في كافة المجالات المتعلقة باللغة العربية وملحقاتها. كما يتطلع إلى مدّ جسور التواصل مع المجامع اللغوية في العالم العربي بغية تبادل الخبرات والتجارب.

كما يضطلع المجمع اللغوي في الوقت الحالي بما يلي: عمل المعاجم اللغوية، وبحث قضايا اللغة، وضع المصطلحات العلمية واللغوية، وتحقيق التراث العربي، والنشاط الثقافي، ويجمع أعضاء المجمع بين تخصصات مختلفة، ويربطهم جميعًا المعرفة الواسعة باللغة والتمكن من آدابها، والرغبة في خدمتها والعمل على نهضتها؛ فكان من بين أعضاء المجمع الأدباء الكبار من أمثال: العقاد، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وأحمد حسن الزيات، وتوفيق الحكيم. وضم المجمع شعراء عظاما من أمثال: علي الجارم، وعزيز أباظة، ورضا الشبيب، ولغويين أفذاذًا من أمثال: أحمد الإسكندري، وعبد القادر المغربي، وعباس حسن، وإبراهيم مصطفى، وإبراهيم أنيس، وتمام حسان. وضم أيضًا مؤرخين ثقاة من أمثال: محمد شفيق غربال، ومحمد رفعت، ومحمد عبد الله عنان، وعبد الحميد العبادي، وحسين مؤنس. وقانونيين نابغين من أمثال: عبد الرزاق السنهوري، وعبد العزيز فهمي، وعبد الحميد بدوي. وصحفيين نابهين من أمثال: عبد القادر حمزة، وتوفيق دياب، وأحمد حافظ عوض. وكان من بين أعضاء المجمع بعض علماء الطبيعة والكيمياء والأحياء من أمثال: أحمد زكي، ومصطفى نظيف، ومحمد يوسف حسن، وعبد الحليم منتصر، وشرف المجمع أن كان من أعضائه من تولى مشيخة الأزهر، وهم: محمد مصطفى المراغي، ومصطفى عبد الرازق، وإبراهيم حمروش، ومحمد الخضر حسين، وعبد الرحمن تاج، ومحمود شلتوت، ومحمد الفحام. ونلفت النظر إلى ظاهرة لطيفة في أعضاء المجمع؛ فقد كان من بينهم من نال هو وابنه عضوية المجمع مثل الدكتور “علي إبراهيم الجراح” المعروف أول رئيس لجامعة القاهرة وابنه الطبيب الشاعر "حسن علي إبراهيم"، ومن نال العضوية هو وأخوه مثل الشيخين الجليلين "مصطفى عبد الرازق" وعلي عبد الرازق”، أو هو وابن أخته مثل "زكي المهندس" وإبراهيم أنيس”، أو هو وابن خالته مثل العالمين الجليلين “عبد السلام هارون” و"محمود محمد شاكر".

وللعلم فإن مصر ذات باع كبير في كل ما يتعلق بإنشاء مؤسسات تهتم باللغة العربية، وكيفية المحافظة عليها، فبجانب الأزهر الشريف جاءت الجامعة المصرية، ودار الكتب والوثائق القومية وغيرها الكثير الذى لا يمكن حصره، وكلها مؤسسات مستمرة وأداؤها متواصل والحمد لله، والمهم أن مجمع اللغة العربية على مدى تاريخه، سواء اتفقنا أو اختلفنا على بعض الفترات لا يمكن إنكار دوره المهم على المستويين المعنوي والمادي، وها هو مؤخرا يقوده الناقد الكبير الدكتور صلاح فضل، المعروف بنشاطه وحماسه ورغبته في تقديم شيء ما، لذا أتمنى أن يستطيع المجمع في هذه الفترة أن بخرج علينا بقانونه الذي طالما تحدثنا عنه، والذي سار خطوات كثيرة في سبيل تحقيقه، ولكنه لم يصل بعد إلى المحطة النهائية  .

نتمنى من الدكتور صلاح فضل أن يجعل هذا القانون همَّه الشاغل، وهو يستحق فعلا، خاصة أن الثقافات الأخرى طغت بشكل واضح على اللغة العربية مما يتطلب وقفة مهمة وذلك حسب قول الأستاذ أحمد إبراهيم الشريف.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

...............

المراجع

1- إبراهيم بيومي مدكور - مع الخالدين ـ الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية ـ القاهرة (1401هـ= 1981م).

2- شوقي ضيف ـ مجمع اللغة العربية في خمسين عامًا - القاهرة (1404هـ- 1981م).

3- عبد المنعم الدسوقي الجميعي - مجمع اللغة العربية دراسة تاريخية ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ، 1983.

4- إبراهيم الترزي ـ التراث المجمعي في خمسين عامًا ـ مطبوعات مجمع اللغة العربية ـ القاهرة ـ بدون تاريخ.

5-هاني رياض: مجامع اللغة العربية.. تاريخ بدأ من دمشق، العين الإخبارية،

نشر بتاريخ الأحد 2018/12/16 12:32 م بتوقيت أبوظبي

6- أحمد إبراهيم الشريف: مجمع اللغة العربية، اليوم السابع المصري، نشر بتاريخ السبت، 16 أكتوبر 2021 10:12 ص

7- حمدي رزق: إخوان فى مجمع اللغة العربية!، المصري اليوم، من النسخة الورقيه العدد: 6274 جميع الاعداد.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم