صحيفة المثقف

علي محمد اليوسف: الفلسفة البنيوية وما بعد الحداثة

علي محمد اليوسفحين نتكلم عن فلسفة ما بعد الحداثة من حيث المنشأ امريكيا تحديدا، تكون معنا حقيقة ملازمة لها ولغيرها من فلسفات غربية معاصرة، ان المجتمعات العربية من ضمن مجتمعات ما يسمى العالم الثالث خارج دائرة المعني بما تعنيه ما بعد الحداثة وحتى خارج دائرة الفلسفة الغربية المعاصرة عموما منها تيار الحداثة. فمجتمعاتنا العربية لم تمر كما في الدول الغربية في مرحلة (الحداثة) كي نعتبرها ولجت عتبات فلسفة ما بعد الحداثة.

تفكيرنا الفلسفي العربي لا زال معتاشا على كتابة هوامش فلسفية غربية بلغة عربية ترجمة حرفية مملوءة بالاخطاء المطبعية التي لا يعرف مصدر الخطأ بها. وليس كتابة هوامش تفكير فلسفي عربي يحمل معه بصمة تحليلية استقلالية لا في العرض ولا في نقد النص الفلسفي الاجنبي الاصل والمترجم.

الحداثة modernism تعني لدينا اننا نمارسها كاقطار الوطن العربي واقعا استهلاكيا ولا نمارسها تصنيعا ذاتيا لا على صعيد المنتج المساهم ولا على صعيد التطبيق المستقل، بمعنى واضح جدا أن مجتمعاتنا العربية هي مجتمعات الاستهلاك التمديني لمنتجات الحضارة المعاصرة الغربية بكل مناحيها الثقافية والحياتية والفلسفية والعلمية.

امام هذه المعضلة وجدت بعض الاقطار العربية نفسها امام مواجهة حقيقة مفروضة عليها أن تبني لها شكلا من الاستهلاك الحداثي الثقافي مرتكزه البنية العمرانية التحتية المصّدرة لها أجنبيا في كل ما يخص تحديث البنى المادية ما عدا الاهتمام ببنية الانسان الثقافية المعرفية السلوكية في ممارسة تمدينه العمراني الاستهلاكي. لتجد ان هذه الاقطار واقصد دول الخليج العربي وضعت نفسها في ازدواجية تقدم هياكل البنى المادية في الاعماروتحديث مناحي الحياة في منأى التكامل مع تخليق انسان تكوينه الفكري الثقافي والسلوكي الفكري يماشي هذه الحداثة التمدينية التي تقاطع النمط الاستهلاكي المادي المتوفر بالحياة اليومية.

وامثلة تلك الازدواجية المتقاطعة عديدة منها ذكورية المجتمعات العربية التي تؤمن للرجل الترف المبتذل حد الاشباع، في إزدواجية تطال هجينية التماسك الاسري الذي ينخره مقاطعة الخفي مع المعلن، وفقدان ملامح الهوية العربية أبرزها تراجع أهمية الحفاظ على اللغة العربية التي وصلت المرتبة الرابعة في بعض دول الخليج العربي امام منافسة اللغات واللهجات الاجنبية التي يتكلمونها غير العرب المستوطنين تلك البلدان العربية كشغيلة وافدة تعيش بينهم، ومن مظاهر الازدواجية التحديثية العربية ايضا عدم ردم هوة التباعد الطبقي والتفاوت بين معيشة نخبة سلطوية حاكمة باذخة الثراء وحرمان اكثرية تعيش حياة الاستهلاك على فضلات ما يتركه البذخ الاستهلاكي للطبقات الميسورة التي لا ينتج راسمالها استثمارات منتجة فاعلة داخل بلدانها واقطار الوطن العربي بالقياس لحجم إستثماراتها في دول العالم الاجنبية التي تزيد من ارصدتها المالية وهي مطمئنة الخ.

ربما يذهب البعض أن هذا النوع من التمدين الاستهلاكي الحضاري هو في كل الاحوال رغم مساوئه افضل من لا شيء، حينما يكون العجز في مجاراة دول الحداثة الغربية تصنيعها الحداثة المادية في كل مناحي الحياة مع نمط انساني سلوكي مجتمعي يساير هذا التحديث المادي يكاد يكون معدوما في الغرب ايضا.

ثمة إعتراض تبريري مقبول نوعا ما أن التقدم الحضاري الغربي المتسارع خلق نوعا من تصنيع تكنولوجي ايضا جرف معه النواحي الانسانية في ترد نازل كبير مثل انتشار تعاطي المخدرات ، تفكك النظام الاسري، خلو الجانب السلوكي الروحي عند الانسان الغربي، نشر الاباحية الجنسية، الدعارة باسم حقوق الانسان، تزايد الهجرات وتنوعها الطفيلي في بلدان المهجر، تنامي احياء إلتزام التعامل بالعنصرية على اساس لون البشرة والعرق القائمة على مصادرة حق الشعوب في تساوي الحقوق الانسانية وغير ذلك.

بمعنى اصبحنا امام حقيقة لا فرق جوهري بين من يستهلك الحضارة المدنية وبين من ينتجها ويصدرها لنا من حيث إزدواجية تقدم ركائز البنى التحتية والعلوم على حساب فقدان حضور الانسان الذي يكون جزءا تكوينيا في ايجادها وصنعها والاضطلاع بمسؤولية الدفاع عنها ضمن الافق التمديني الثقافي المجتمعي عربيا والانساني عموما. ربما هذا الاستطراد التمهيدي ابعدنا عن اصل الموضوع  فلسفة ما بعد الحداثة الاوربية والغربية عموما وحتى العالمية في اقطار هي ليست بلدان تقارب جغرافي وسياسي قريب من مجتمعات الغرب لكنها استطاعت خلق ثقافة تمدينية تقتفي اثار الحداثة الاوربية الامريكية وربما تجاوزتها في بعض النواحي. مثل الصين، واليابان ، وكوريا الجنوبية ، وسنغافورة، وماليزيا، واندنوسيا ودول الخليج العربي ودول عديدة اخرى.

ازمة الانسان في فلسفة ما بعد الحداثة

ما بعد الحداثة ثورة راديكالية ممنهجة إنبثقت أمريكيا حصرا مستفادة من موروث سابق فلسفي اوربي فرنسي على وجه التحديد، تقوم ما بعد الحداثة على الهدم والتقويض في استبعاد العجز عن تقديم البديل، بهذا المعنى تكون فلسفة مابعد الحداثة نزعة تناولت كل شيء بالادانة والتقويض ولم تقدم أي شيء بديل على مسارتصحيح بعضا من تاريخ الفلسفة.

ليوتار أحد ابرز فلاسفة ما بعد الحداثة إعتبر الماركسية رواية عظيمة والسبب المبرر بذلك أنها أضحت سردية كبرى شائخة الحضورالمعاصر استهلكت نفسها في توقف معطياتها على صعيدي التنظير الفلسفي وتطبيق الايديولوجيا المرتبطة بها المتعايشة معها في تفكك الاتحاد السوفييتي القديم.، ولم يعد للماركسية ذلك التاثير الحداثي الذي يماشي متغيرات العصر.

المفارقة غير المتزنة لدى ليوتار وفلاسفة ما بعد الحداثة من الذين اسقطوا فلسفيا وليس تاريخيا ما اصطلح عليه السرديات الكبرى التي تشمل بعض أو غالبية مدونات التاريخ والديانات والسياسة والعقائد الاخرى. أنها عاجزة ليس عن إعطاء البديل وحسب بل العاجزة عن تبيان حقيقة وهم دفن هذه السرديات بمجرد ادانتها فلسفيا رغم حقيقة حضورها الذي لم يمت بصورة مباشرة وغير مباشرة على ارض الواقع لعل ابرزها سردية الاديان.

لا نقول لا زالت الماركسية تحتفظ ببريقها الفلسفي الايديولوجي في مناحي تنظيرية تنبؤية كانت خاطئة لكنها على الاقل لم تسحب معها فقدان حضورها المؤثر في المعاصرة وتقاطعها في الكثير مما طرحته معاصرة ما بعد الحداثة فالماركسية  لم تسحب لحد الآن تابوت دفنها معها في منحى الاشتراكية مثلا.

وهذا ينطبق على عديد من سرديات اسقطتها الفلسفة البنيوية اعتسافيا من تشكيلة التاريخ الانساني الحضاري التي سادت عقودا طويلة. فمثلا عندما نحكم على مراسيم الانتهاء من دفن موت الماركسية نجد انفسنا مع غيرنا من حفاري القبور فلاسفة ما بعد الحداثة يصطدمون بجدار التجربة الصينية بكل عنفوانها الشاخص امام انظار الجميع المدافع عن قيم اسقاط السرديات الكبرى في احياء معاصرة زائفة تلوي حقائق حياة الارض في تسويق فلسفتها العدمية باسم مصادرة الحداثة نفسها.

لو نحن جربنا وفعلت ما بعد الحداثة الخروج من قوالب التفكير النظري الفلسفي الى وقائع الحياة والتاريخ لوجدنا أن حاضر ومستقبل البشرية يحتاج انماطا اشتراكية اليوم وفي المستقبل اكثرمن اوضاعه المتردية في القرن العشرين الفائت وسط تسارع تضخم الفقر والامراض اليوم بمتواليات هندسية لا يمكن السيطرة عليها ولا يمكن ايضا التنبؤ بنتائجها الكارثية. ومثلها تفشي الفقر والحاجة الى المياه العذبة وامتدادات التصحر المرافق له إرتفاع درجة حرارة الارض والتغيرات المناخية التي تنذر بمستقبل كارثي منظور وبيل، كما يأتي في آخر قائمة إنحطاط عصر ما بعد الحداثة وقوفها المتفرج العاجز امام انعدام القيم الانسانية والاخلاقية عالميا.

صحيح جدا واقعي لا يمكن نكرانه أو التنكر له أن العالم الغربي يعيش بافضل العوالم الممكنة على حد تعبير لايبنتيز، لكن هذا لا يعني أن المركب الذي يستقلونه سوف لن يغرق بعوامل بناء سعادة بعض شعوب الارض نفسها على بؤس وشقاء الاخرين.أجد رغم أفول نجم الماركسية في بعض تجارب تطبيق فاشلة لا يمكن أن تكون مانعا في حاضر ومستقبل البشرية حاجتها الضرورية الى نظم اشتراكية تؤمن موارد الغذاء للشعوب الفقيرة مع إطراد التكاثر السكاني غير المسيطر عليه هو الاخر في بلدان العالم الثالث قاطبة.

الميراث الفلسفي التاريخي لما بعد الحداثة

بعض فلاسفة الفراغ الفلسفي المتحذلقين الذين يستهويهم الغرق في معاكسة الحقائق السيسيولوجية الانسانية يرجعون  ميراث ما بعد الحداثة الى بيكون ، ديكارت، سورين كيركجورد، وليس انتهاءا بنيتشة وهيدجر. رغم كل الجهود الفلسفية والفكرية التي يبذلها يورغن هابرماس لحد الآن بأن العالم الغربي لا يزال يعيش عصر الحداثة وليس هناك من سند غير إعتباطي التبشير بالدخول في مرحلة ما بعد الحداثة وما بعد بعدها ايضا ودول الحداثة تراوح في مكانها الذي لا تبارحه في عدم حصول تجديدات فلسفية تحسب لها تاريخيا..

بضوء طرح هابرماس المتزن فلسفيا الذي يرغب مسار التاريخ الانساني بمجمله يتخذ مجراه الطبيعي دونما الدخول المتقاطع إعتسافيا عليه  بقطوعات فلسفية طارئة وطاردة لما يمكن أن يكون تاريخا انسانيا تعيشه البشرية وليس قطوعات اعتباطية تتباهى بتطرفها البائس الفارغ من المحتوى. الذي يقود الى العدمية والتشاؤمية في وجوب اسقاط مركزية الانسان والذات، اسقاط هيمنة العقل في التفكير واحتقار العلم خاصة في مجال التكنولوجيا، كما هو الحجر غير المبرر على أن العلم ذاته قاد البشرية الى حروب متطاحنة في القرن العشرين بفضل إختراعاته نتيجة تفاقم الهوس الصناعي التكنولوجي. كما ومن مباديء ما بشرت به ما بعد الحداثة : "موت الفن، موت الحركة الانسانية، العدمية، الغائية التاريخية، تجاوز الميتافيزيقا" 1

تطرف البنيوية بالنيابة عن ما بعد الحداثة

في تداخل مباشر مع تيار ما بعد الحداثة نجد الفلسفة البنيوية إختلقت تطرفا فلسفيا يماشي نزعة تطرف ما بعد الحداثة أنها أي البنيوية أسقطت وصادرت جميع المفاهيم التي شكلت تاريخ الفلسفة الخاطيء بمجمله بحسب إدعاءاتها، بعدما صادرت أن تكون فلسفة المعرفة التي نادى بها ديكارت هي فلسفة العقل الاولى لتحل فلسفة اللغة محلها، ثم اتهمت اللغة أنها خانت تاريخ الفلسفة وسهلت اغتياله بالخواء التعبيري المغلوط في تداول قضايا لامعنى فلسفي لها. كما فتحت البنيوية باب فلسفة اللغة والتحول اللغوي لكي تاتي البنيوية بجديد ينهي تاريخ الفلسفة الخاطيء في غالبية مباحثه التقليدية الخاطئة القارة،.

حاولت البنيوية إعادة انثروبولوجيا الانسان الى وضعه الصحيح حين إعتمد شتراوس أهمية اللاتاريخ اثنولوجيا الاقوام البدائية في بحثه عن جينالوجيا الوجود اللغوي الانساني التاريخي في تحري كيف توصل الانسان اختراع لغة الصوت التي تعتبر اللبنة الاولى التي مكنّت الانسان أن يعمل تفكيره بنظام يقوم على اركيولوجيا التاريخ في تصنيع حضارته وفهمه تاريخ انثروبولوجيا الانسان بشكله الطبيعي، كما هاجمت البنيوية العقل والمعرفة والعلم وإعتبرتها مرتكزات زائفة إستحوذت على تاريخ الانسان وادخلته مساره العلمي الصناعي التدميري الخاطيء، توجه كل من التوسير وشتراوس وفوكو مهاجمة الماركسية السردية الكبرى التي ضللت البشرية واوقعتها في تناقض ايديولوجي وتنافس سياسي أذكى مصادرة مسار التاريخ الصحيح في إعتماد اقتصاد متكامل وسياسة لا تمجد التصنيع النووي والتلويح المستمر بشن الحروب، هاجمت البنيوية مندفعة بتاثير ما بعد الحداثة علم النفس الفرويدي في فلسفة جان لاكان، وأجهزت على أن تكون اللغة مبتدأ المعرفة في إعادة كل شيء الى مساره الطبيعي وهذا لا يتم ما لم يتوفرعلى نظام جديد آخر يعيد مفهوم اللغة الحقيقي ليتسنى مراجعة وتصحيح مسارات الخطأ في مناحي عديدة كان تضليل اللغة وراءها حسب زعمهم الفلسفي في التاويلية والتفكيكية والعدمية..

نجد في الوقت الذي أجهزت البنيوية على الماركسية لم تنس جرفها الوجودية معها لتفتح البنيوية طرائق تفكيرفلسفي للامعنى مثل انبثاق تيارات فلسفية منها التاويلية، والتفكيكية، والعدمية. والوضعية المنطقية التجريبية، الوضعية المنطقية التحليلية الانجليزية وهكذا غدت الفلسفة تتداخل مع نزعات لا تؤمن بها مثل محاولة تكاملها مع العلوم الطبيعية، الاقتراب من لغة الحياة العادية التي كانت تعتبرها العدو اللدود للفلسفة وهكذا ادخلت البنيوية بتأثير ما بعد الحداثة عالم الانسان في نفق الى اين؟ وكيف الخلاص؟ ومتى النجاة؟.

ركائز فلسفة ما بعد الحداثة

ايهاب حسن أحد مفكري ما بعد الحداثة يحاول تلخيص افكار ما بعد الحداثة بحيادية منصفة لها يسطرها بعدة ثوابت فلسفية تنظيرية :

1- يعتمد تيار ما بعد الحداثة  تجاوز الطبيعة الانسانية للحياة الارضية بصورة عنيفة، حيث تتجاذب قوى الرعب والمذاهب الشمولية، التفتت، التوحد، الفقر، والسلطة.2

رغم هذه الادعاءات الشعارية لما بعد الحداثة لم تحقق كما ولم تبشرما بعد الحداثة بواقعية ماهي البدائل لتعدد هذه الادانات.؟ في التمرد على الواقع الانساني المدان بالعنف الذي تتجاذبه قوى الرعب والمذاهب الشمولية التي استفحل فيها الفقر والتفتت والتطرف بأكثر الاساليب قسوة وحشية. اطروحات تيار ما بعد الحداثة ايقظ بشكل غير مسبوق نظريات فلسفية ادخلت الانسان فعلا في متاهات الضياع والتوحد والعدمية التي ادانتها. في الانكماش نحو المركزية الذاتية لها في خلق عوالم فلسفية من الاجترار القائم على تشعبات فلسفة اللغة بانغلاق انفصامي عن الحياة.

2-  ينسب لتيار ما بعد الحداثة مرتكزا اورده ايهاب حسن " ينبع تيار ما بعد الحداثة من الاتساع الهائل للوعي من خلال منجزات التكنولوجيا التي اصبحت حجر الاساس في المعرفة الروحية في القرن العشرين، ونتيجة ذلك اصبح ينظر للوعي على انه معلومات، والتاريخ على انه حدوث وتلك رؤية تتعارض ظاهريا" 3.

لو نحن أمعنا النظر بهذه المقومات الارتكازية لما بعد الحداثة لوجدناها في ماض فلسفي استهلك نفسه في القرن العشرين وأشبع إدانة وتحليل فما الجديد اذن؟ فمثلا تغييب الوعي الروحي في استلاب التعاظم التكنولوجي وحضارة الاستهلاك السريع اكتشفها تيار ما بعد الحداثة للمرة الاولى؟ هذه الاشكالية كانت فاعلة شغالة منذ بدايات القرن العشرين . وتوجد الان معالجات لها خارج اطار فلسفة ما بعد الحداثة وخاصة عند فيلسوف الحداثة هابرماس، في معالجته خلق توليفات تعيد للروح استلابها واغترابها من هيمنة التكنولوجي ، وكذلك خلق توليفة تواصلية تجمع تنوع السردية الدينية مع الفكر الفلسفي والعلمي. وقد بدأت هذه المسارت في روما حصريا وبمعونة وتشجيع كنيسة الفاتيكان.

3- "يتدبر تيار ما بعد الحداثة في نفس الوقت انتشار اللغة كمقوم انساني وفي علمية الخطاب والعقل"4، رغم التناقض البادي على العبارة مع سابقتها أعلاه نقصر تعقيبنا النقدي لها بالتالي المقتضب:

– الفلسفة البنيوية في اول ظهور لها حول فلسفة اللغة والتحول اللغوي كانت على يد شتراوس 1905، البنيوية الابن الشرعي لتيار ما بعد الحداثة فتح ابواب فلسفة اللغة ونظرية فائض المعنى اللغوي لتدخل جميع الفلسفات التي اعقبتها نفق اللامعنى واللاجدوى والعدمية والتمركز حل الذات اللغوية بتطرف مدان يوازي الحياة والواقع وعلى راس هذه التيارات الفلسفية التاويلية لدى بول ريكور  والتفكيكية عند جاك دريدا وما تبعها من تيارات عدمية تشاؤمية "جياني فاتيميو" استلبت الوعي الانساني تحت مسمى تصحيح اخطاء تاريخ الفلسفة من البدء بتصحيح اخطاء اللغة اولا.

- ادعاء تيار ما بعد الحداثة السعي الوصول الى لغة انسانية وعلمية الخطاب فهي عبارات إنشائية تضليلية تناقض صميم توجهات ما بعد الحداثة في إنكارها العقل والعلم والذات والانسان والسرديات كمرجعيات إهتمام لديها. والمناداة بانتشار اللغة كمقوم انساني كما تدعي ما بعد الحداثة انجبت لنا تيارات فلسفية راديكالية عمدت وضع النسق اللغوي الخاص باللغة في موازاة انفصالية عن المجتمع وهموم ومشاكل الانسان الذي يعانيها.

4- في المقوم الرابع لما بعد الحداثة كما ورد على لسان ايهاب حسن " يمكن التمييز بين ما بعد الحداثة في الاداب وما سبقها من حركات طبيعية كالتكعيبية، والمستقبلية، والدادئية، والسريالية، اذن يوحي ما بعد الحداثي كنمط جديد من التقاء الفنان بالمجتمع" 5 أجد في إحياء مثل هذه المدارس الفنية المهووسة بالتجريد والفنطازيا واللامعقول والخروج على السائد المالوف اشبعت ادانة في تغاضيها عن قضايا الانسان والاشتغال على اشكال من التغريب الفوضوي للوعي الانساني في تذوقه الفني الاستهلاكي للفن والجمال في الحياة.

ثم كيف يتحقق طموح ما بعد الحداثة في التقاء الفن بالمجتمع على حد تعبيرها؟ العبارات الانشائية الفارغة من المعنى الحقيقي لا تفسر تاريخ الفن بالتنظير، بعدما اصبحت الفنون التشكيلية خارج اهتمامات المتلقي وبقيت صالونات المزايدة النخبوية المالية الكاذبة تتاجر في تسليع الفن هي الرائجة وليس بمقدور الدعوة لاصلاح مسار الفن الفوضوي الا بمسارات فنية تتصدى للتقاطع مع مثل هذا التوجه العدمي العبثي. لذا لا تكفي الادانة الفلسفية في وضع اشكاليات الفن في نصابها السليم الصحيح ولا معنى لها وتفتقد الرصيد الواقعي غير المتحقق في الطموح الافتعالي.

5- النقطة الخامسة الاخيرة في مرتكزات ما بعد الحداثة حسب ايهاب حسن " يتطلع تيار ما بعد الحداثة الى الاشكال المفتوحة، المرحة، الطموحة ، الانفصالية غير المحددة لتكوين خطاب مؤلف من شظايا، او تكوين عقيدة التصدع والتفكيك " 6. لا أعتقد كما غيري لا يعتقد ايضا أن في نكران الانسان والعقل والعلم والتفكير المتزن في معالجة اشكاليات التراكم الثقافي والفني الذي يدعو له تيار ما بعد الحداثة ينسجم ويتطابق مع طموح طوباوي غير جاد في إستحضاره اشكالا مفتوحة على المرح غير المحدود المكوّن من تشظيات عقائد التفكيك والتصدع لتجاوز المحدودية. هل مثل هذه الطروحات يمكن تحقيق النزراليسير الضئيل منها وهي تعيش التناقض الذي يعتمل بداخلها في تغييبها الوعي الناضج. ما معنى تجميع افكار فلسفية من شظايا؟ ما معنى اللجوء الى تكوين عقيدة من التصدع والتفكيك؟ ويوجد حتما ما إستساغ هضم مثل هذه الترهات الفلسفية فأنتج لنا تيارات فلسفية تقوم على مرتكز تقويض وتصدع وتفكيك لا محدود ولا نهاية له إبتغاء الوصول الى تجميع خطاب من شظايا...؟

 

علي محمد اليوسف /الموصل

..............................

الهوامش:

1 – 6: الصفحتان 27، 28/ الحداثة وما بعد الحداثة /د. طلعت عبد الحميد، د. عصام الدين هلال، د. محسن خضر.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم