صحيفة المثقف

جمال العتّابي: نصوص قلقة لمواسم الأسفار.. قراءة نقدية

جمال العتابيمنذ (فضاءات شرقية)، ديوان الشاعر عادل مردان الأول، الصادر عن دار ألواح في اسبانيا عام1999، ولغاية ديوانه الأخير (مواسم لحمار الأسفار)، الصادر عن إتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين، 2021، ومردان يواصل رسالته في تصوير هذه الفوضى الكونية تصويراً غنياً بالخيال، منساقاً الى ما يفرضه عليه تداعي أحاسيسه من الداخل، ولسانه ينطقُ بالشعر، وهو في حالة حمّى وتوتر.

لا تكفي بضعة سطور لتتبع ترجمة حياة حامل الأسفار المولود في عام 1955، ولعل أهم ما يفيدنا في هذه الترجمة، ما يتصل بنشأته في البصرة، حيث يلتقي الماء بالنخل، بما يهبج الحواس، وترسو السفن في الخلجان، وتنتهي أو تبدأ رحلات السفر في محطات القطار. حياته الحقيقية هي شعره، والأمثلة كثيرة لشاعر مثله، يمتزج كيان حياته بشعره، حتى لا يمكن الفصل بينهما، بل تصبح حياته هي حياة كلمته. في نصوص قلقة( 2) يقول عادل:

إستيقظوا أيها الشعراء

من لم يكن له نبعه الخاص

فلن يجد نبعاً

من لا يوقّر لغته

لا توقره الأيام

في النص يصور عادل مفهومه للشعر، بل كأنه يحدد لنا تطور مساره الشعري، حيث يصبح الشعر هو الغاية المطلقة، هو نبعه الخاص ولغته.

قصائد عادل غنية بمشاعر الخوف، وهو لا يستطيع أن يخفي حزنه وقلقه من المصير، انه من جيل وجد المتاريس تملأ مدينته، حتى تداخلت وضاعت بينها الحدود، وإرتجّت الصورة، صورة الحقيقة أمام عيون أبناء جيله، وفي وعيهم، لم يعرفوا وطنهم إلا في ظلال الدم والرصاص، وحين توقفت النيران، وجدوا انه تحول بأيديهم إلى خرائب، وان الكثير منهم مات، أو فقد عقله، أو هاجر.

توزعت أربعة نصوص قلقة على عدة مقاطع شعرية، بعنواين مختلفة، وبعضها بلا عنوان، يصفها الفنان التشكيلي، الشاعر هاشم تايه، انها أفكار ما بعد الإبادة الكورونية:

مدينة الإعتزال وجلة

وسط خرائبها تهوم الأشباح

كائنات المشافي منذورة للهلع

حيث الجميع ينتظر

في النص إتجاه الى التبسيط، لا إلى البساطة، وإلى الإقتصاد في العناصر الشعرية، وحذف كل ما يمكن ان يدخل في باب تكثيف الصورة (العصارة)، وتقطيرها إلى أبعد حد ممكن.

في حكاية الكلمة الخضراء، ميل إلى الإختزال والتركيز والرغبة في التشكيل، في القصيدة لعبٌ حر عذب، وتعمّد ذهني جميل ومقصود، لا يخلو من إيقاع وتنغيم، يبتعد الشاعر هنا عن لغة التجريد، ليوسع مدلول الصورة الشعرية، لنتأملها في النص:

أخذت كلمة (نما) / وزرعتها قرب الحاجز/ الأسبوع يمرُّ مسرعاً/ بينما أقوم بالسقاية/ راحت الفلفلة تدفع التراب/ إرتفع الألف مخضراَ/ ثم إزدان باقي الجسد/ الميم أصبحت برعماً/ النون تشكلت ورقة/ البراعم تشتعل/ كلمة نما خضراء

تمضي القصيدة إلى نهايتها، حافلة بشعاعها، بوهج الفكرة، والنوايا الملتهبة، عادل هنا، ليس لاعب ألفاظ، ولا حاوياً، ولا مركب كلمات مجانياً، بقدر ما هو صياد يبحث عن صورة مطابقة تماماً لهواجسه الملحّة في طرائده اللغوية. وهو لايسعى إلى إلغاء دور الكلمة (نما)، وتهميش السياقات التي تنهض عبرها شعرية النص، لأن الرمز لا يتكون عبر تفكيك الكلمة، إنما من خلال الوحدة الكامنة بين الكلمات، لأن الرمز لا يتشكل لفظياً، وانما يتبلور عبر التواتر والإتفاق، الحكاية بتقديري من أجمل قصائد الديوان..

قد يكون من الإفتراء أن نقرأ (الحكاية) بمعزل عن القصائد الأخرى التي يحفل بها الديوان، وهي وإن تفاوتت، في الدلالات، والصور، والرموز، فهي بمجموعها تذهب إلى عالم مبعثر متهاوٍ كأنه بقايا حطام :

يستحيل على المرء

أن يعيش بلا محن/ يقول الحكماء:

البلوى نافعة/ فهي تجعلك ترساً / أيها الغافل الهش

يشتغل مردان على نصّه ولغته، وعوالمه الخاصة، في تركيز منه على الفكرة، فأين تكمن القيمة الحقيقية في شعره؟ وهو يبتعد عن التدفق الشعري وعفويته،

على الرغم من كوني/ فوضوياً زائغ البصر/ لكني أتدحرج على الواقع/ كغيمة لا تبالي

ان الإجابة على السؤال أعلاه، تقودنا إلى القول ان عادل يلجأ إلى الشعر كمرفأ خلاصي يحرره من الإختناق، والصمت واليأس، وعداوة العالم، وعداوة النفس، الشعر يخرج عن إرادته، فيعود إليه، وينفصل عنه، ويعزله في قلب ظمئهِ الروحي وغربته، وهو بذلك يكثف أسلوبه، ويستسلم لتداعيات وعيه ولا وعيه، تمكنه من التميز في التركيب والهندسة، والعمارة الشعرية، انه كيميائي قدير في التقنية.

أطردوا الضجر بمخدة زرقاء/ كي لايتسيد على الناس/ انه يطرق بابي/ ...... في بلاد لا تفارق المجهول/ حين تتلهف الى كلماتي/ من أنا كي أحييك لاهثاً؟

قصيدة (نقوش في الضجيج)، إشارة إلى إنهيار المنطق السوي في الحياة، يقظة إنسانية للخطر القادم:

حياة خاوية تحت الأضواء/ أو خارج سطوعها/ الزوجان الشريدان يزورهما ملاك الموت/ ويمنح الشريدة بيتاً كي تستقر

الموت لا يحمل معنى المأساة، إلا إذا صاغه عادل مردان شعراً، ليكون مادة للتأمل والتفكير، بلغة جديدة، يمكن من خلاله فهم المواقف الأنسانية، ومعانيها، أو إذا أحاله إلى رمز في إثارة الأسئلة عن معنى الحياة، انه يترك لنا المجال لتنشيط العقل، فيجد كل منا جوابهُ لهذه الأسئلة.

القصيدة واقع نفسي متفتت، ذاكرة بدت دون القدرة على إستيعاب ما هو أبعد من المشهد المرتسم أمامها. الحادثة التي يتخذها الشاعر موضوعاً لقصيدته، لا يقوم بوصفها، بل يعيد صياغتها، دون أن يكون هدفه الإثارة، ولا يقدم مغريات مثيرة للقارئ، يوفق بين الأضداد لتصبح مثلاً لكل ما يماثلها من حوادث مرت بالإنسان عبر تاريخه الطويل:

أقف بقفازات سوداء/ بينما إنليل يُحصي القرابين/ يالها من ظهيرة! / ..... طريق شائكة بين النخل/ لا أرغب في الحقائب/ هل أنا حمار الأسفار؟

إستقر ذهنه على ان العمل الشعري مغامرة من مغامرات العقل الذي يعمل، ويتأمل عمله في آن واحد، ليعبر عن إحتجاجه على العصر، وتأثره فيه بآن واحد، انه عصر المحاولة، والتجربة والمغامرة والحرية التي لا تقف عند حد.

في شعر مردان لذة حافلة بالمعاني تلك، وطراوة مرّة، خالية من النهج الخطابي، لنتأمل هذا النص من قصيدة(هواجس المنزل) :

ما أروع التوحد/ السواحل محبوسة في الحديقة/ هي ليست بعيدة عن الأعماق/ ...... العالم يترنح ثملاً/ تحت كنوز اللحظة/ يتنفس الخواء

في نص آخر : ثلاث ساعات يغردن في أوقات مختلفة، تنتهي القصيدة: حين تصمت ساعاتكم / جددوا البطاريات/ ثم إملأوا الكؤوس.

كأن الخاتمة هي النص كله، أو هو الشعر كله في لحظة يتوقف فيها الزمن، ما الخيار إذاً، لا الزمن يرجع إلى بدايته، ولا يتجاوزه الى ما هو أبعد، الشعر على تقطعه وتشظيه، يتمحور حول ذاتٍ تعاني، فيفيض عنها الشعر متماهياً حيناً معها، ويحاورها حيناً آخر، بذلك يبدو شعر عادل مردان حركة معنى، تتقدم الأشياء شريكاً في المعاناة، وتبدو في الشعر مؤشراً على غربة الشاعر في زمن (الكوفيد)، أو في ازمان الحروب، والحصارات، وقد تبدو بديلاً أليفاً، طيعاً، يستولد به الشاعر عالمه المفقود، أو يستعيد به حضوره المنفي :

بعد عقد سأنتمي للمسنين

لكنني أكره كآبتهم

............

أنظر إلى شقائنا/ وهو يستعين بالناعور

..............

لوعتي تتدحرج مأخوذة / أمام النافذة/ لوعتي تتدحرج في البيت

الكآبة هي سمة الفضاء الشعري في مواسم لحمار الأسفار، كلمات تتدثر بالكآبة والعتمة، لكن الشاعر لا يغرق فيها، فكان الشعر نوعاً من الصمت والهدوء، وعند حافة الغرق يظهر نبض من حياة، هو الذي مازال في الصباحات؛

الأيام تتساقط/ من شجرة الزمن/ غداً الجمعة/ همّة عالية/ بك رغبة في حراثة المستقبل.

 

جمال العتّابي...

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم