صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: القرآن وبناء الإنسان (3)

مجدي ابراهيمعلى مستوى العمل والسلوك، ليس مطلوباً في الدين أن تقول ما لا ينبغي عليك أن تفعل، وأن تفعل ما لا ينبغي عليك أن تقول. إنمّا الذي يكون مطلوباً في الدين هو صلاح الظاهر يأتي من صلاح الباطن. ومن هذا المطلوب تحقيقاً بشعبة الأخلاق - كما سبقت الإشارة إليه - يكون الرّبَّانيون والشهداء والصالحون، وفي ظلال الأخلاق الحميدة يكون الأئمة والهداة والمرشدون سائرون على مشكاة الهدْي النبوي، مقتبسون منها قبسات من نور تنير لهم معالم الطريق.

وفي ظل الأخلاق الحميدة تطهر النفس الإنسانية من الحقد والحسد والنفاق والجبن والكذب والخيانة والغش وما إلى ذلك من الأخلاق السيئة التي كثيراً ما أفسدت على الناس حياتهم وتوارت في ظلمتها القائمة وسائل الخير والصلاح. إنّ صلاح الباطن أساس لكل صلاح ظاهري، ولا بقاء لإصلاح خارجي إلا إذا تركز وكان أثراً للإصلاح الباطني. هنالك يكون العمل القلبي أدعى الدواعي إلى التطبيق على ضوئه. ولن تقوم للأخلاق قائمة وهى بمعزل عن العمل القلبي؛ لأن سلطان القلب هو الرادع لكل رزيلة. ولن تستقيم تربية الخلق الكريم لإنسان وفق منهج القرآن ما لم يكن في عزيمة القلب وازع وسلطان، وليس للقلب الذي به مرض أن يمضي نافعاً في الطريق.

ولا يقام للباطن مطلقاً صلاح بغير الأخلاق الفاضلة؛ فإنّ الظاهر لا يستقيم مع عوج الباطن وانحرافه عن القصد المطلوب. وما من قصد أسمى ولا أعلى ولا أوفر عناية من شرعة القرآن. ولا شك أن في حرص القرآن على استقامة الضمائر وسلامة البواطن دلالة تؤكد غرس القيم كما تؤكد فضيلة العمل على نهج القرآن، وعلى شرعة القرآن.

ــ وإنك لعلى خلق عظيم:

حقيقةً؛ ليس من مثل أعلى للتطبيق الفعلي لمكارم الأخلاق أصدق ولا أمثل ممّا تمثل في شخصه عليه السلام، فهو قدوة المقتدين بفعله وقوله وتقريره وجماع شمائله على التحقيق، فقد كان خُلقه القرآن، وقد وصفه الحق في موضع المدح والثناء والدفاع عنه بقوله تعالى :"وإنّك لعَلَى خُلُقٍ عَظِيم"(القلم : آية 4).

كان اسم "الأمين" يمثل التكافؤ الخُلقي في شخصه صلوات الله وسلامه عليه أصدق تمثيل. فلم تكن صفة أرجح في ميزان العدالة على صفة فيه، وهو الذي بلغ تمام الصفات الفُضلى جميعاً فأتمّها واستوفاها على الكمال الذي لا مزيد عليه؛ فشجاعته كحكمته، وحكمته كعدالته، وعدالته كرباطة جأشه، ورباطة جأشه كقوته في الحق، وقوته في الحق كعطفه، وعطفه كسماحته، وسماحته كصدقه، وهكذا لا تجد صفة فيه ناقصة عن أخرى، ولا صفة عالية عن الأخرى، ولا صفة فيه أقلّ من الأخرى؛ بل تتكافأ جميع الصفات في شخصه الشريف تكافؤ العدالة لكأنما توزن بميزان مُحرّر دقيق بغير زيادة ولا نقصان.

ولم يكن وصف القرآن له "وإنّك لعلى خُلق عظيم" ببعيدٍ عن هذا التكافؤ الخُلقي؛ فالخلق العظيم يسمو فيه فيُظهر التكافؤ ويبطل ما عاداه من اقتصار صفة دون صفة أو خُلق دون خلق. قد تكون في الشخص العظيم فضيلة بارزة كفضيلة الكرم أو فضيلة الشجاعة أو فضيلة الصبر والاحتمال، فيكون مشتهراً بين الناس بواحدة منها، ضعيف العمل بغيرها، أو يكون جسوراً مقداماً غير أنه شحيح في مواضع الإقدام، لا يستوفيها من جميع أطرافها، فتظل الصفة ناقصة غير كاملة رغم اشتهاره بين الناس بها واعترافهم بفضله فيها، ناهيك عن اتصافه بتلك الصفة نفسها دون سواها من فضائل الصفات؛ فيظل العظيم عظيماً متى استوفى صفة واحدة دون غيرها واقتصر عليها، لكنه مع ذلك لا يبلغ الكمال في العظمة، ولا يُقال في حقه إنه على خُلق عظيم. أمّا أن تكون كل الفضائل الخُلقيّة مجتمعة فيه، بنسبٍ متكافئة، لا تندّ فضيلة فيه عن فضيلة؛ فهذه عناية الله، وعدالة الله، ورعاية الله، واختصاص الله، وقد أدّبه ربه ـ كما قال عليه السلام ـ فأحسن تأديبه.

إنّما الخلق العظيم له من كل صفة فاضلة ميزانٌ ومقياس. فلا يقالُ لمن يتحصّل على فضيلة الشجاعة وكفى ذا خلق عظيم؛ لأنه قد يكون شجاعاً ولا يكون سمحاً وقد يكون سمحاً ولا يكون كريماً، وقد يكون كريماً ولا يكون صادقاً. وإنما صاحب الخُلق العظيم هو من توافرت ـ على العدالة ـ جميع الفضائل فيه؛ فكان كريماً وشجاعاً وصادقاً ووفيّاً ورؤوفاً وعطوفاً ومُخلصاً وأميناً بنسب متكافئة لا تنبو فيه صفة عن صفة، ولا فضيلة عن فضيلة؛ فجميع فضائله مجبولة على الكمال. وهكذا كان، صلوات الله وسلامه عليه، على خُلق عظيم .

كانت أخلاقه تنبع كلها من فطرته بنسب متفقة متساوية؛ فصبره مثل شجاعته، وشجاعته مثل كرمه، وكرمه مثل حلمه، وحلمه مثل رحمته، ورحمته مثل مرؤته، وهكذا لا تجد له خُلقاً في موضعه من الحياة يزيد أو ينقص على خُلق آخر في موضعه منها؛ بل تساوت لديه حظوظ الملكات الباطنة وتوافقت جميعها بأنصبة عادلة على الفطرة النقية الصافية، لا يزيد فيها خُلق على خلق، ولا ينقص منها خُلق عن خلق؛ ومن هنا كان جماع أمره عن قومه "الأمين".

وإذا كان اسم "الأمين" ـ كما تقدّم ـ يمثل التكافؤ الخلقي أصدق تمثيل؛ فهذا التكافؤ الخلقي أيضاً في وجوده الواقعي في شخصية محمد عليه السلام إنما هو بالتحقيق معجزة الحياة في الإنسان؛ لأن التاريخ لم يذكر من النماذج العليا للبشرية من كان هذا التكافؤ الخُلقي خليقته العامة سوى محمد؛ وإذا ذكر التاريخ غيره من النماذج العليا ذكره عنواناً لتبريز جزئي في بعض الأخلاق والفضائل؛ فهذا مثل مضروب في الصبر، وذاك مثل في الحلم، وثالث مثل في الكرم، ورابع مثل في الشجاعة ... وهكذا تتفرّق النهايات في الأخلاق والفضائل في نماذج متعددة، ولكنها تجتمع متكافئة في شخصه الشريف صلوات الله عليه فيما أشار إلى ذلك الفاضل الأستاذ الدكتور محمد الصادق عرجون في كتابه "محمد من نبعته إلى بعثته"؛ وباجتماع الفضائل والأخلاق متساوية متكافئة في شخصه عليه السلام يظهر الإعجاز الإنساني في حياته، وهو القائل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : "أدبني ربي فأحسن تأديبي".

ولعَلّ هذا الأدب الرباني هو مصدر الإعجاز في حياته عليه السلام من حيث كان ضابطاً نفسياً يفوق صنع الإنسان بمقدار ما يفوق طاقته على الحسم والعزم؛ فمثل هذا التكافؤ الخلقي في وجوده الواقعي في شرخ شبابه مع ملازمة الظاهرة الاجتماعية الأولى لحياته إنما هو ضربٌ آخر من الإعجاز الإنساني في الحياة؛ لأن تلك الظاهرة الاجتماعية كانت قمينة أن تدفع الشباب إلى طيش الغرائز؛ فتنقلب به الفضائل إلى رذائل جامحة؛ فوجود ضابط نفسي يعصم الإنسان من الانزلاق وراء تيارات الغرائز في إبان قوتها العارمة هو الآية الكبرى على أن التكافؤ الخلقي الذي ينبع منه ذلك الضابط النفسي، ليس من صنع الإنسان، ولا في طاقته، وإنما هو من صنع التأديب الرّباني والعناية الإلهية كما قال عليه السلام.

لا شك كانت هذه الأريحية الخُلقية الفياضة هى الحلية الباطنة التي تمت بها حلية محمد عليه السلام في عيون الناس، وهى جواب محمد عليه السلام لما كان في قلوبهم من حب وإعظام، أو هى الآصرة التي تجمع بين قلبه وتلك القلوب في نطاق الأسرة الإنسانية؛ يحبونه ويحبهم، ويشعرون به ويشعر بهم، وكان نعم المسمى بالمختار؛ فقد أجمعت روايات التاريخ على أن النبي عليه السلام كان مثالاً نادراً للرجولة العربية؛ كان كشأنه في جميع شمائله مستوفياً لكمال الصفة من جميع نواحيها كما يقول الأستاذ العقاد في عبقرية مجمد.

فليس من مستغرب أن يكون جماع شمائله الشريفة هو التكافؤ الخلقي بهذا المقياس، وهو الذي لم تعرفه الحياة الواقعية لإنسان غير محمد، وهو في شبابه عليه السلام مفطور مجبول، لم يصنعه علم ولا تثقيف؛ لأن بيئة محمد عليه السلام في شبابه لم تكن بيئة علم وثقافة، ومن الطبيعي أن تكون ثمرات هذا التكافؤ الخُلقي محدودة بحدود البيئة التي عاش فيها، حتى إذا أتيح له أن يمتد ويتسع مع الرسالة العامة الخالدة أمتد وأتسع، فكان هو العنوان الذي رسم به القرآن الكريم الفضيلة العليا في حياته، فوصفه مادحاً :"وإنِّك لعَلَى خُلِقٍ عَظيم".

وخلاصة سمته وآدابه صلوات الله عليه أنها سماحة في الأنظار وسماحة في القلوب؛ فالسماحة هى الكلمة الواحدة التي تجمع خصاله الشريفة من أطرافها، والسماحة هى الصفة التي ترقت بمحمد إلى ذروة الكمال. ومَنْ يكون الرسول إنْ كان ولابدّ من تعريف وجيز لعلامات الرسالة؟ الرسول هو الذي له وازع من نفسه في الكبير والصغير مما يتعاطاه من معاملات الناس؛ لأن عمل الرسول الأول أن يقيم للناس وازعاً يأمرهم بالحسن وينهاهم عن القبيح ويقرر لهم حدودهم التي لا يتخطونها فيما بينهم، ومن كان هذا عمله الأول فينبغي أن تكون صفته الأولى بل صفته الكبرى أن يستغني عن الوازع وأن يغني الناس عن محاسبته وطلب الحق منه. وهذه هى السليقة السابقة الشاملة التي سرت في خلائق محمد صلوات الله وسلامه عليهK وامتزجت بجميع أعماله وأقواله، فلم يحاسبه أحد قط كما حاسب نفسه في رعاية حق الصغير والكبير وصيانة الحرمات للعاجز والقدير.

هذه علامة "رسالة" لا علامة أصدق منها، ولا أجدى منها بالقبول؛ لأنها علامة من داخل السريرة، وليست علامة من خارجها، قد تلازم أو تفارق من تعروه. وليس للنوع البشري مقياس صحيح يقاس به محمد عليه السلام؛ فيعطيه مرتبة دون مرتبة الحب والتبجيل؛ يعطيه هذه المرتبة من يدين بالإسلام ومن يدين بغير الإسلام ومن ليس له دين من أديان التنزيل.

فليس للنوع البشري أصلٌ من أصول الفضائل يرمي إلى مقصد أسمى وأنبل من تقديس تلك المناقب الشريفة التي كان محمد صلوات الله عليه قدوة فيها للمقتدين؛ فلا أقلّ من أن يكون؛ وسمته وسماحته على هذا النحو، قدوة منيرة لكل ذي خلق كريم.

(وللحديث بقية)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم