صحيفة المثقف

سوزان روزنثال: هل تقودنا الرأسمالية الى الجنون؟

قصي الصافيالجواب المختصر : نعم

سوزان روزنثال Susan Rosenthal by*

ترجمة: قصي الصافي**


 الحياة في ظل النظام الرأسمالي محفوفة بالمخاطر. لا يمكننا أن نحيا بمفردنا، ولا يمكننا الاعتماد على دعم المجتمع لنا.

نعيش على الدوام في حالة من التوترّ وعدم الاستقرار: هل يمكنني دفع فواتيري؟ هل سيحدث أن أفقد بيتي أو ربما أفقد عملي؟ ماذا سيحصل لي لو مرضت أو حدث لي حادث ؟ ناهيك عن التوتر المستمر بسبب العنصرية والحرب وكوارث تغير المناخ.

هل تشعر بالأمان في هذا العالم؟ انا شخصياً لا أتمتع بمثل هذا الشعور. كل صباح، أستيقظ يخالجني شعور بالرهبة والتفكير، "يا إلهي. ما زلت هنا، والحال هو الحال "، ولست وحيدا في هذا.

اجري إستفتاء (*1 ) شمل عشرة بلدان وقد شارك فيه 10000 شاب، تتراوح أعمارهم بين 16 و25 عامًا، وكان السؤال عن رأيهم وما يشعرون به بشأن تغير المناخ. فكانت النتائج أن60% منهم يشعرون بالقلق الشديد. وأكثر من نصفهم ينتابهم الحزن والقلق والغضب والضعف والعجز والشعور بالذنب.  سبعة وسبعون في المائة منهم يرون أن المستقبل مخيف، و56 في المائة يعتقدون أن البشرية محكوم عليها بالفناء.

إنه أمر يفطر قلبي. ويظهر مدى حاجتنا الماسة إلى ثورة اجتماعية. إلا أن علماء النفس يرون الأمر بشكل مختلف، تقدم شبكة (الحزن الايجابي)*2 :

"برنامجاً فريداً من 10 خطوات لمساعدة الأفراد والمجتمعات في خلق مجالات يمكن للناس فيها توظيف مشاعرهم المؤلمة والقلق حول ما يواجهه العالم بإعادة توجيه حياتهم نحو عمل هادف. وتنصح جمعية علم النفس الأمريكية هذه بتعزيز التفاؤل، ووضع خططاً للطوارئ المنزلية، وتوسيع خدمات الصحة النفسية".

مثل هذا الترويج لإحساس زائف بالسيطرة ليس بديلاً عن السيطرة الحقيقية التي يمكن تحقيقها بانتهاء النظام الرأسمالي وكل البؤس الذي ينتجه٠

التعمية والتخدير:

يتعامل الماركسيون مع كل مشكلة من منظور أن هناك طبقتين اجتماعيتين، تنتفع إحداهما على حساب الأخرى.

لكي يراكم الرأسماليون رأس المال، عليهم أن يحرموا الناس العاديين من أي سيطرة ذات مغزى على عملهم أو حياتهم أو   قدرتهم على التأثير في توجه ومسار المجتمع. بيد إنه تحد كبير أن تحشر فئات اجتماعية مهمة في مثل هذا الترتيب الاجتماعي اللاإنساني. لذا يعمد الرأسماليون إلى منع العمال من الفعل الجماعي، والتعامل مع احتجاجاتهم على أنها إجرامية أو ذات طابع مرضي، والإصرار على أن معاناتهم ليست الا نتاجاً لتقصيرهم، ويسوّق الرأسماليون الحلول الوهمية للتعميه والتخدير، فالقوة وحدها غير كافية. عدد العمال يفوق عدد الرأسماليين بشكل كبير، وهم يتمتعون بذكاء كافٍ لايجاد الحلول، كما انهم يديرون ماكنة المجتمع، لذا يجب خداعهم بشكل منهجي لضمان اذعانهم وتكيفهم  مع النظام الرأسمالي. ولعلم النفس دور في ذلك عبر بث روح الإستسلام هذه والترويج لمفهوم، "كن قنوعاً واقبل بما هو موجود، وسنساعدك على بناء فقاعة تمنحك الطمأنينة ويمكنك العمل فيها.". بتجاهل المعلومات والأدوات والقوة الاجتماعية الكامنة لتأمين سلامتنا فعليًا، يقترح علينا علم النفس بدل ذلك بناء فقاعات خيالية تمنحنا وهم الأمان. تكرس الفقاعات التي يعيش فيها الأفراد إيماننا بأنه لا يمكننا الاعتماد إلا على أنفسنا كأفراد. أما فقاعة التفاف الأصدقاء والعائلة والجماعات حول الاهتمامات أو الأنشطة المشتركة، قد توفر إحساسًا بالتواصل والواقع المشترك، إلا أنها هشة وسهلة التمزق.

تحت ضغط الوباء، يفقد المزيد من الناس وظائفهم ومنازلهم، وتعاني أواصر العلاقات من التصدع والضعف، وتصل معدلات القتل (3* ) والوفيات المرتبطة بالمخدرات (4*) إلى مستويات قياسية.

الماركسية مقابل الطب النفسي

في حين أن الطب النفسي هو تخصص واسع متعدد الفروع، إلا أن جميع تخصصاته تشترك في قاعدة نظرية واحدة تتعارض مع الماركسية:

* الماركسية تسبر غور المجتمع من منظور الصراع الطبقي. بينما يتفحص علم النفس المجتمع من منظور فردي.

* يفترض الطب النفسي وجود عالمين منفصلين: عالم اقتصادي  تحكمه الرأسمالية وعالم نفسي خاص بالأفراد يحكمه علم النفس. في المقابل يؤكد الماركسيون على أننا نعيش في عالم واحد، عالم رأسمالي يترك بصماته على كل جانب من جوانب الحياة.

* تهدف الماركسية إلى التغيير وإغناء التجربة الإنسانية من خلال الثورة الاجتماعية. بينما يسعى علم النفس إلى تكييف الأفراد للانسجام والتناغم مع أحكام الرأسمالية كبديل للثورة الاجتماعية.

* تؤمن الماركسية بإمكانية انبثاق مجتمع اشتراكي يولي الرعاية للجميع. بينما يسعى علم النفس لتحقيق شبكة علاقات للتعاون والعمل الخيري بالصدقات كبديل عن مجتمع مسؤول عن رعاية ابناءه .

في سعي الأكاديميبن لدمج الماركسية مع علم النفس، تقف تلك التناقضات عائقاً وتجعل الامر غير ممكن.

لسنا بحاجة إلى نموذج نفسي لشرح المعاناة الجماعية في ظل الرأسمالية. فالمنهج الماركسي قادر على النفاذ لجذورها، والأهم من ذلك، انارة الطريق لانهائها.

الاستجابة للتهديد

تستجيب جميع الكائنات الحية للتهديد والمخاطر بنظام دفاع بيولوجي تلقائي. رد فعل الثدييات للتهديد يكون على شكل فرار أو دفاع قتالي أو سكون وتجمّد. ويتم تحديد نوع رد الفعل الأفضل غريزياً في جزء من الثانية  لتأمين البقاء  على قيد الحياة.

استجابة للتهديد، تفرز سلسلة من هرمونات التوتر، بما في ذلك الأدرينالين، عبر أجسامنا، وينشط جهاز المناعة لدينا، ويرتفع ضغط الدم، فيبدأ قلبنا ينبض، والتنفس يتسارع، والعضلات تتوتر، مما يجعلنا نهرب، أو نقاتل دفاعاً عن النفس، أو نجمد في المكان. تطورت الاستجابة الطارئة هذه لتكون قصيرة الاجل. فأنت تقرر فوراً تهرب من الأسد أو لا تهرب.

في ظل الرأسمالية، التهديد موجود ومستمر على الدوام، ويبدو أن لا مفر منه. أولئك الذين لايتمتعون بنفوذ أو مكانه اجتماعية قوية يواجهون التهديدات الأكبر. كما يعبّر عن ذلك تيرون مور (*5)

" كرجل أسود في أمريكا، ما فتئ يلإزمني العجز المطلق والخوف والغضب والارتباك لمجرد كوني من أنا. لا يمكن رصف الكلمات أو عرض مشهد تعبيري يجعلك تفهم ماذا يعني أن تمشي وتتنفس وتعيش في خوف دائم، لمجرد أن تكون انت كما انت على طبيعتك. عندما أقول إنني أسود وفخور، أوعندما أقول إن لحياتي أهمية، سيكون هناك من ينكر عليّ ذلك في كل مرة. ويصدر أحكامه ويسخر" .

يمكن أن يؤدي التهديد، واستذكار التهديد، أو التفكير باحتمال التعرض للتهديد إلى تنشيط هرمونات التوتر كاستجابة بايولوجيه. في الخمسينيات من القرن الماضي، اكتشف هانز سيلي أن ظروف التهديد المستمر تؤدي إلى الإرهاق، ثم فشل الأعضاء البيولوجية، ثم الموت المبكر. قد يبدو لنا أننا نتأقلم مع ما نتعرّض له من ضغوط ظاهرياً، إلا أن دواخلنا تعبّر عن الاحتجاج بصيغة الألم المزمن والأرق ومشاكل الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي ومرض السكري وأمراض القلب واضطرابات الجهاز المناعي، وهذه على سبيل المثال فقط لا الحصر.

عدم المساواة كنوع من التهديد:

لمئات الآلاف من السنين، اعتمد أسلافنا على روابط اجتماعية متينة للبقاء على قيد الحياة. عدم المساواة يقود إلى  تصدع وإضعاف العلاقات الاجتماعية، كانت مجتمعات الصيد وجمع البذور تتمتع بدرجة كبيره من المساواة (6*). لم تكن تلك المجتمعات تتهاون مع التباهي أو الغطرسة. كان خط دفاعهم الأول هو السخرية من المتغطرسين. لو تصرف شخص ما بشكل إستعلائي فإن بقية المجموعة، وخاصة كبار السن، سيبادرونه بالسخرية حتى يظهر مستوى مناسباً من التواضع . في المقابل، يحتفل الرأسماليون بعدم المساواة كدليل على نجاحهم في استجرار رأس المال. والنتيجة  تنشيط لهرمون التوتر بشكل جماعي استجابة للتهديد، فأجسادنا تشعر بموقعنا في التسلسل الهرمي في المجتمع، حتى لو لم ندرك ذلك.

يظهر الأطفال مستويات متزايدة من هرمونات التوتر مع انحدار موقعهم الطبقي. ببساطة مجرد التحدث مع شخص متعالي في موقع اجتماعي أعلى سيرفع ضغط دمك. على مدى العقود الثلاثة الماضية، ازداد عدم المساواة وتضاعف انتشار مرض ضغط الدم المرتفع (*7).

قامت إحدى الدراسات بقياس استجابة التهديد لطلاب المدارس الثانوية الذين كان أداءهم الأكاديمي جيدًا. أظهر طلاب الطبقة الغنية ارتفاعًا وجيزًا في هرمونات التوتر يعقبه انخفاض سريع الى المعدل الطبيعي، بينما أظهر طلاب الطبقة العاملة ارتفاعًا مطولًا في هرمونات التوتر يستغرق وقتًا أطول قبل ان ينخفض، يواجه هؤلاء الطلاب المزيد من  الضغوط في حياتهم اليوميه يجعلها تحافظ على تنشيط هرمونات استجابتهم للتهديدات.

وجدت دراسة أجريت عام 1998 (* 8) على 282 منطقة حضرية في الولايات المتحدة أن التفاوت الأكبر في الدخل يرتبط ارتباطًا مباشرًا بمعدلات الوفيات المرتفعة. قدر الباحثون أن الحد من عدم المساواة إلى المستوى الأدنى ( ليس القضاء على عدم المساواة، الحد منه فقط) من شأنه أن ينقذ عدداً من الأرواح بما يعادل عدد الوفيات التي تسببها أمراض القلب وسرطان الرئة والسكري وحوادث السيارات والايدز وجرائم القتل والانتحار مجتمعة. دراسة أخرى، صدرت الشهر الحالي، تدعم هذه النتائج (*9).

قبل التسعينيات، كان متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة مماثلاً لمتوسط العمر المتوقع في ألمانيا أو المملكة المتحدة أو فرنسا. منذ ذلك الحين، ارتفعت معدلات عدم المساواة في الولايات المتحدة، فانخفضت معدلات العمر الأمريكية. الآن، في كل الفئات العمرية، يموت الأمريكيون في وقت أبكر من نظرائهم الأوروبيين. حتى الأوروبيون الذين يعانون من الفقر المدقع يعيشون أطول من الأمريكيين الموسورين. هناك العديد والعديد من هذه الدراسات التي تدعم ذلك.

دراسة الطفولة السلبيه وآثارها ACE

لو نظرنا في دراسة تجارب الطفولة السلبية (ACE) (*10)، وهي أكبر تحقيق مستمر يبحث في العلاقة بين تجارب الطفولة السلبية وآثارها على الصحة في سن البلوغ، نجد انه مع ارتفاع عدد تجارب الطفولة السلبية، هناك زيادة مقابلة في المشاكل الجسدية والنفسية والاجتماعية، بما في ذلك: أمراض الرئة والقلب والكبد. داء السكري؛ البدانة؛ العنف المنزلي؛ حمل المراهقات، كسور العظام؛ السرطان؛ الألم المزمن؛ الادمان على التدخين والكحول والمخدرات، محاولات الانتحار، الموت المبكر؛ وجميع أشكال الاضطرابات النفسية .

يعاني الأشخاص الذين يتعرضون للعنصرية والتمييز على أساس الجنس والفقراء من الآثار السلبية بشكل ملحوظ في مرحلة الطفولة، ونتيجة لذلك، يصيبهم المزيد من الصعوبات الجسدية والنفسية والاجتماعية كبالغين. رغم أن هذه النتائج لم يتم دحضها أبدًا، إلا أنها لا تحظى بالاهتمام من قبل المؤسسات الطبية في ظل الرأسمالية. بغض النظر عن سبب مشاكلهم، يجب على جميع المصابين استشارة الطبيب، وبسبب سياسات التقشف وانهيار مؤسسات الرعاية، فإن العلاجات الوحيدة المعروضة هي الأدوية، وليس كل الأدوية، بل فقط تلك التي تقرر أن تنتجها الشركات الكبرى لصناعة الأدوية الطبية. لجوء الطبيب إلى الوصفة الطبية يعزز الاعتقاد الخاطئ بأن المعاناة هي مشكلة طبية فردية وليست نتيجة حتمية تفرزها المعاناه في ظل النظام الرأسمالي.

جرس انذار

الهروب أو الهجوم أو السكَون والتجمّد وسائل دفاعية غريزية إستجابة للتهديد والخطر عند الكائن اللبون, ويمكن على ضوءها أن تفسر جميع أشكال الاضطراب النفسي. فالهروب يعبّر عنه  بالإدمان والهوس وإكراه الآخر كوسائل تمكننا من الهروب مما لا يمكننا تحمله. الهجوم والقتال كاستجابة  تتمظهر بصيغة تهيج أو غضب وأذى موجه نحو الذات أو الآخرين. أما استجابةنا بالسكون والتجمد فقد يكون التعبير عنها بصيغة اكتئاب أو انفصام شخصيه أو عزلة.

تم التعرف على الانفصام (*11) لأول مرة في أواخر القرن التاسع عشر من قبل جان مارتن شاركو، وهو طبيب يعمل في ملجأ في باريس. تأثر شاركو بشدة بالتمرد الجماعي الذي بلغ ذروته في كومونة باريس. بدلاً من صرف النظر عن مرضاه على أنهم مجانين يهذون، استمع إلى قصصهم وما تعرضوا له من الصدمات وسوء المعاملة. وقد توصل تلميذ شاركو، بيير جانيت، أن بعض التجارب قاسية للغاية بحيث يتعذر معها فهم الشخص للعالم، لذا فهي منفصلة عن الإدراك الواعي. يمكن لهذه الأجزاء المنفصلة من التجربة الصادمة أن تتطفل على وعي الشخص كأفكار ومشاعر وصور مؤلمة يحاول المصابون منعها من خلال الأفكار الوسواسية والسلوك القهري. في حين أن مثل هذا السلوك قد يبدو للبعض جنونا، يصر بيير  على أن الانفصال عن الواقع يساعد الناس على التعامل مع الصدمات التي لا تطاق من خلال فصلهم نفسيا عن التجربة. يستغرق بعض أطفال اللاجئين المصابين بصدمات نفسية في حالة تشبه الغيبوبة تسمى متلازمة الاستقالة (*12)، بحيث لا يمكن إيقاظهم ويجب تغذيتهم من خلال المحلول المغذي. الانفصال عن الواقع يوفر لهؤلاء الأطفال ملاذًا يفصلهم عما لا يمكنهم مواجهته. يفسر الانفصال أو الانسلاخ عن الواقع سبب تحمل الغالبية للهمجية الرأسمالية. إذا كنت لا تستطيع تغيير أي شيء، فلماذا تحاول؟ لماذا حتى التفكير في ذلك؟ ربما تكون انت نفسك مررت بمثل هذا. أنت تتحدث مع شخص ما وعيناه تتأرجح بلامبالاة. من الناحية النفسية، لم يعد هذا الشخص موجودا، لأن ما تقوله محزن للغاية ولا يمكنه التفكير به فيغيب أو ينعزل عن الواقع دون وعي منه.

الاستجابة الغريزية للقتال تبقي الجهاز العصبي في "حالة تأهب قصوى" لأدنى إشارة من الخطر. يتم التعبير عن تلك الاستثارة المفرطة بصيغة تململ أو نشاط مفرط أو استثارة عاطفية مبالغ بها. يؤدي فرط الاستثارة حتمًا إلى الإرهاق الذي يتم التعبير عنه بالوهن أو التنميل أو الاكتئاب. يمكن للمصابين بالتناوب بين القلق المفرط  والاكتئاب المنهك. كلاهما غير مريح للغاية، مما يجبر الكثيرين على اللجوء الى التهدئة بالتدخين والكحول والمهدئات أوالمخدرات الأخرى.  قد يجد البعض الراحة باللهو في نشاطات ما بإفراط يصل حد الهوس أو بممارسة أفعال قهرية.

عندما يبلغ التوتر أو الإثارة المفرطة حداً لا يطاق، قد يبدأ إحساس الشخص بذاته بالتدهور، مما يجعل من الصعب معرفة ما هو حقيقي. في حالة كهذه من التحول يكون الامر قد وصل حداً خطيراً يكثف مستوى التوتر والاثارة الفائقه والتي بدورها تضاعف التدهور.  عندما لا يكون هناك أمل للخروج من هذه الحالة، تبرز فكرة الانتحار  كهروب نهائي.

الدماغ والجسد

ليس شائعاً ما شرحته للتو، لأن الغالبية لا يتم تعليمهم علم التشريح وعلم  وظائف الأعضاء بالمدرسة . إن إبعادنا عن معرفة أجسادنا يجعلنا نعتمد على الخبراء الذين يزودوننا بمعلومات خاطئة. إذا كان لديك فهم أساسي لجسم الإنسان، فستعرف أن ما يشيرون له باسم (العقل) مفهوم خاطئ. دماغ الإنسان يطفو داخل قفص عظمي صامت ومظلم. وتتمثل وظيفته في فهم العالم الذي نسكنه من خلال معالجة 100 مليون رسالة في الثانية، يتلقاها من كل خلية في الجسم. يؤشر الدماغ هذه المعلومات ويفسرها ويستجيب لها، ويقوم بتعديلها كلما وصلته معلومات جديدة. اذن عملية التفكير في البيئة الداخلية والخارجية هي ما يفعله الدماغ والجسد معاً. نحن نفكر بأجسادنا بأكملها، نشعر بأجسادنا بأكملها، ونختبر الرأسمالية ونستجيب لها بأجسادنا بأكملها. يمكن أن يكون الدماغ سليمًا أو مصاباً أو مريضًا لأن الدماغ عضو مادي (13*). أما ما نسميه "العقل" لا يمكن أن يكون أيًا من هذه الأشياء، لأن "العقل" ليس عضوًا بل وظيفة. العقل هو ما يفعله الدماغ والجسم. تأمل الراقصة والرقصة. الرقص ليس شيئا. إنه نشاط الراقصة، مثلما "العقل" هو نشاط الدماغ والجسد. إذا قلنا أن العقل بصحة جيدة أو مصاب أو مريض، فإننا نستخدم هذه المصطلحات لوصف حالات  مقبولة أوغير مقبولة، كأحكام قيمية وليست تقييمات طبية. الادعاء بأن "العقل" يمكن أن يكون مصاباً أو مريضًا  ينطلق من قاعدة اختزال "العقل" إلى الدماغ فقط، أي بفصل الدماغ عن الجسد وبيئته الاجتماعية. وهذا هو قصور مفاهيم الصحة العقلية والأمراض النفسية. لخدمة النظام الرأسمالي، يخرج علم النفس الفرد من المجتمع، ويفصل الدماغ عن الجسد، ويخدر الدماغ بالمهدئات من أجل تغيير العقل أو على الأقل إسكات صوت المعاناة.

موازنة المواد الكيميائية في الدماغ؟

من الشائع أن المعاناة النفسية ناتجة عن خلل في المواد الكيميائية الموجودة في الدماغ والتي يمكن تصحيحها بالأدوية النفسية. أمر يبعث على السخرية، عدا ما ينتج من ضرر جسيم (*14). تذكر أن الجهاز العصبي ينقل 100 مليون رسالة في الثانية إلى الدماغ. هذا يعني أن كيمياء الدماغ تتغير باستمرار. من المستحيل قياس تركيبة المواد الكيميائية في دماغ حي. حتى لو استطعت، فسيكون الأمر مختلفًا في الثانية التالية والثانية بعد ذلك. عندما يرفع دواء من مستوى الهرمونات، مثل السيروتونين أو الدوبامين، يستجيب الدماغ عن طريق حجب مستقبلات تلك الهرمونات. بعبارة أخرى، تخلق الأدوية النفسية خللاً كيميائيًا في الدماغ يحاول الدماغ تصحيحه. هذا هو السبب في أن تقليل هذه الأدوية أو الإقلاع عنها يجعل الشخص يعاني من نقص هرمون، مما يخلق نفس الحالة التي يراد للدواء ان يعالجها (*15). على الصعيد العالمي، صناعة الأدوية النفسية التي تبلغ 30 مليار دولار سنويًا تقوم على كذبة (*16). إن النظرية القائلة بأن الاضطراب النفسي ناتج عن عدم توازن المواد الكيميائية في الدماغ، ليست أكثر صحة من النظرية القائلة بأن المرض الجسدي ناتج عن اختلال في توازن الهرمونات بالدم. يمكننا إدراك ذلك بمعرفة أوليه في علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء. فهل يجهله الأطباء؟ يعرف الكثيرون منهم ذلك، وعدد قليل يحتج. ومع ذلك، تستخدم صناعة الأدوية نفوذها المالي والسياسي لتشويه سمعة النقاد الذين يفضحون نظرياتها الاحتيالية وأبحاثها المعيبة وممارساتها الضارة (*17).

ما الجنون؟

الشائع أن كلمة "مجنون" تعني " من يحيد عن الإحساس المشترك بالواقع"، كأن نقول "هذا جنون!" الحقيقة لا يوجد شعور مشترك بالواقع في ظل الرأسمالية. لا يمكن للرأسماليين السماح بذلك. للحفاظ على حكمهم، يجب عليهم فرض تفسيرهم ورؤيتهم للواقع على أي شخص آخر. كما لاحظ ماركس، الأفكار التي تهيمن على المجتمع هي تلك التي تخدم الطبقة المهيمنة. على سبيل المثال، لإخفاء الواقع الضار بالصحة المتمثل في الاستغلال، يجب إنكار المعاناة المعيشية للعمال أو رفض الاعتراف بها. هذا صنع مجنون. الاغتراب في العمل يصيب الناس بالمرض، ويزداد مرضهم عندما يحرمون من الإجازة من العمل للتعافي. ومع ذلك، فإن الخرافة الشائعة أن العمل صحي للفرد، مما يوحي أن العمال المرضى أو المصابين يجب أن يجبروا على العمل من أجل مصلحتهم. يقع العامل المعاق في شرك كابوس الجنون حيث يتم التقليل من شأن معاناته، ويتم الضغط عليه للعودة إلى العمل أو ترك العمل، مما يعفي أصحاب العمل وشركات التأمين من أي التزام حيال اصابته.

فرق تسد

لا يمكننا فهم العالم خارجنا مباشرة. لا يمكننا تفسيره إلا من خلال حواسنا. هذا التفسير، إحساسنا بالواقع، يتأثر كلياً  بالسياق الاجتماعي. الاغتراب يحيد بفهمنا للواقع عن فهم الآخرين. يعتقد أكثر من واحد من كل أربعة أميركيين أن انتخابات 2020 قد سُرقت من دونالد ترامب (*18)، ويعتقد 9٪ أن استخدام العنف له ما يبرره لإعادته إلى الرئاسة. يعتقد أكثر من نصف هذه المجموعة أن "مجموعة سرية من عبدة الشيطان ممن يغتصبون الاطفال هم من يتحكمون بالحكومة الأمريكية." الأيديولوجية الرأسمالية مليئة بالتناقضات التي تقود الى الجنون: قيل لنا أن عدم المساواة العنصرية تقوم على الاختلافات البيولوجية. وقيل لنا أنه يمكن لأي شخص أن يحقق ما يريد إذا حاول بجدّ. تستند "الأسواق الحرة" إلى عبودية الأجور ؛ توصف لنا الإمبريالية كتحرير للشعوب. وتدعى الحرب تدخلًا إنسانيًا. سلوك الطبقة العاملة، مثل الإضراب، يبدو جنونيًا للطبقات الوسطى والرأسمالية. في حين أن تدمير البيئة من أجل الربح أمر منطقي بالنسبة للطبقة السائدة، إلا أنه يبدو جنونيًا لأي شخص آخر. لا يشترك الرجال والنساء في نفس الإحساس بالواقع، ولا الأشخاص البيض والسود. يعتقد من تلقى اللقاح ضد فيروس كورونا أنه من الجنون رفض اللقاح، بينما يعتقد مناهضو التطعيم أنه من الجنون الوثوق باللقاح.  يتم تضليل الغالبية لمنعهم من فهم طبيعة الحياة القاسية للاجئين والمهاجرين والمشردين بلا سكن والمدمنين والمعاقين وضحايا الحرب.

إذا كان الإحساس المشترك بالواقع هو ما يجعلنا عقلاء، فإن الرأسمالية تجعلنا جميعًا مجانين:

يشترك الرأسماليون في فهم مشترك للواقع. إنهم يعرفون أن هناك طبقتين، تنتفع إحداهما على حساب الأخرى. إذا سمحوا للأغلبية باستيعاب هذا الفهم المشترك للواقع، فلن يكون لدى العمال أي مسوغ للتهاون مع الحكم الرأسمالي  بل  سيسعون لاستبداله بعالم تشاركي.

لحجب الشعور المشترك بالواقع، يستخدم الرأسماليون فئة من المهنيين والخبراء والبيروقراطيين لتشكيل وعي  وطموحات زائفة للطبقة العاملة (*19). أعلن مسؤول الصحة الإقليمي في برتش كولومبيا  مؤخرًا أن النشر العام للمعلومات حول حالات COVID في المدارس يجب أن يكون محدودًا لأن الآباء سيجدونها مثيرة جداً للقلق (*20) . بعبارة أخرى، إذا عرفت الحقيقة، ستخاف، لذلك لن نخبرك. يتم التعامل مع الجمهور مثل الأطفال الذين يجب أن تدار مخاوفهم من قبل كائنات متفوقة عليهم مع مزيد من التحكم العاطفي. تفترض جميع قصص الأبطال الخارقين والسوبرمان أنه يجب حماية الناس العاديين من الحقيقة وإلا سيصابون بالذعر ويتصرفون بشكل غير عقلاني. في الحلقة التجريبية من برنامج Marvel's Agents of SHIELD، سئل وكيل جديد عما إذا كان يفهم مهمة SHIELD. فأجاب: "نحن نحمي الناس من الأخبار التي ليسوا مستعدين لسماعها". منذ نعومة أظافرنا، تعلمنا انه من الأفضل حلّ المشكلات الاجتماعية من قبل كائنات أقوى وأكثر حكمة.

تسدل الماركسية الستار عن الخداع الرأسمالي بإعلانها أن هناك طبقتين اجتماعيتين، وأن ما يفيد إحداهما يضر بالأخرى. بمجرد أن يتم استيعاب هذا الفهم للواقع على نطاق واسع، يبقى سؤال واحد فقط: إلى أي جانب أنت؟

ماذا نفعل الآن؟

في هذه المرحلة، ربما يسأل أحدهم، "هذا جيد، ولكن ماذا سنفعل الآن؟ الناس يعانون الآن. لا يمكننا أن ننتظر الثورة لمساعدتهم ".

هناك شيئان يمكننا القيام بهما الآن. الأول هو قول الحقيقة. المعاناة النفسية ليست اعتلالاً طبيًا، بل هي صيغة احتجاج غريزية ضد الأستغلال والظلم. سيشكل الأمر فارقاً كبيراً حين تدرك أنك لست مجنونًا، وأن معاناتك هي استجابة معقولة لظروف غير معقولة. يجب الاعتراف بما نقاسيه في تجاربنا بالحياة من انعدام العدالة، ونحدّد من المسؤول عند ذلك حقاً، النظام الرأسمالي والمسؤولين عن ادارته.

ثانيًا، علينا أن نطالب بحلول ناجعة لما يعانيه الناس. قد تفيد المعالجة النفسية بشكل أفضل كحلول لمعاناة أولئك الذين تمت تلبية احتياجاتهم الأساسية. ولكنها ليست حلآ مناسباً  لمشاكل الأغلبية التي تنبع معاناتها من الحرمان والظلم.

يحتاج الأشخاص الذين يمرون بأزمة إلى بيئة آمنة حيث يتم ضمان استقلاليتهم وتلبية احتياجاتهم الضرورية. وبدلاً من تقديم هذا الدعم، تُخضع الرأسمالية من يعاني من الأزمات للوصم والاعتقال القسري والعلاجات الطبية الضارة (*21).

بناء واقع مشترك

تتطلب المشاكل الاجتماعية حلولاً اجتماعية. الدعم الشخصي الذي يمكن للأفراد تقديمه لبعضهم البعض محدود وتصعب ديمومته. الطريقة الوحيدة لإنهاء المعاناة الاجتماعية هي النضال من أجل مجتمع اشتراكي يدعم جميع أعضائه دون استثناء. مايمكن أن نكسبه من دعم اجتماعي يعتبر منجزاً وخطوة في الاتجاه الصحيح. مسار الكفاح ذاته يشكل علاجاً. بينما ينظر الرأسماليون للنشاط الجمعي باعتباره مصدرًا للخطر، وجد علماء النفس في جامعة ساسكس أن النشطاء الذين ينخرطون في الإضرابات والاحتجاجات السياسية يغمرهم شعور بالقوة والتضامن الجماعي الذي يقوض  من مشاعر الألم والقلق والاكتئاب (*22).

"إن تطوير الهوية المشتركة يحول الجمع المشتت إلى كيان جماعي صلد قادر على مواجهة من يهاجمون أفراده أو يحرمونهم من حقوقهم. "

يولد النشاط الجمعي مشاعر إيجابية تفيد الصحة. النضال الجماعي دواء فعال، والاشتراكية هي العلاج الذي نحن بأمس الحاجة له.

 

.............................

* نشر في صفحة الكاتبة  Susan Rosenthal :

** (تمت الترجمة بالاتفاق مع الكاتبة Dr.Susan Rosenthal استاذة وطبيبة متقاعدة في الطب النفسي، عملت في عدد من الجامعات الامريكية، وكان آخر منصب شغلته رئيسة قسم طب الاطفال والمراهقين في جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة)

رابط المقال:

https://susanrosenthal.com/oppression/does-capitalism-make-us-crazy/

هوامش:

1- https://papers.ssrn.com/sol3/papers.cfm?abstract_id=3918955

2-https://www.goodgriefnetwork.org/

3-https://www.nytimes.com/2021/09/27/us/fbi-murders-2020-cities.html

4-https://www.statnews.com/2021/02/16/as-pandemic-ushered-in-isolation-financial-hardship-overdose-deaths-reached-new-heights/

5 -https://www.teenvogue.com/story/what-its-like-to-be-black-in-america

6-https://www.psychologytoday.com/us/blog/freedom-learn/201105/how-hunter-gatherers-maintained-their-egalitarian-ways

7-https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/piiS0140-6736(21)01330-1/fulltext

8-https://ajph.aphapublications.org/doi/pdf/10.2105/AJPH.88.7.1074

9-https://www.nber.org/system/files/working_papers/w29203/w29203.pdf

10-https://www.cdc.gov/violenceprevention/aces/index.htm

11-https://www.guilford.com/books/Traumatic-Stress/Kolk-McFarlane-Weisaeth/9781572304574

12-https://doctorsoftheworld.org/blog/swedens-mystery-illness-resignation-syndrome/

13-https://aeon.co/essays/how-memories-persist-where-bodies-and-even-brains-do-not

14-https://www.madinamerica.com/2021/09/new-study-sheds-light-antipsychotic-use-leads-dementia/

15-https://www.madinam،|erica.com/anatomy-of-an-epidemic/

16-https://www.globaldata.com/global-sales-of-psychiatric-drugs-could-reach-more-than-40bn-by-2025-due-to-coronavirus-says-globaldata/

17-https://www.madinamerica.com/2021/09/cochrane-tapes/ , https://www.madinamerica.com/mad-america-book/

18-https://cpost.uchicago.edu/research/domestic_extremism/why_we_cannot_afford_to_ignore_the_american_insurrectionist_movement/

19-https://susanrosenthal.com/capitalism/mayonnaise-and-the-middle-class/

20-https://vancouversun.com/news/local-news/b-c-teachers-want-data-on-covid-19-in-schools-to-be-publicly-available

21-https://www.washingtonpost.com/opinions/psychiatrys-bible-the-dsm-is-doing-more-harm-than-good/2012/04/27/gIQAqy0WlT_story.html

22-https://blogs.sussex.ac.uk/crowdsidentities/2019/05/12/can-protesting-be-good-for-you

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم