صحيفة المثقف

كاظم الموسوي: رائحة الدم والموت في مذكرات محسن الشيخ راضي

كاظم الموسوي

يحتاج تاريخ العراق السياسي المعاصر الى أكثر من بحث ودراسة ومذكرات، فرائحة الدم والموت كانت ومازالت هي الغالبة عليه، كما سماها عضو القيادتين القومية والقطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، محسن الشيخ راضي، في مذكراته التي صدر الجزء الاول منها تحت عنوان، كنت بعثيا، من ذروة النضال الى دنو القطيعة، حرره وعلق عليه وقدمه الدكتور طارق مجيد تقي العقيلي، في طبعته الاولى من دار الكتب العلمية ببغداد عام 2021. ويجمع كثير من الباحثين العراقيين وغيرهم ان تاريخ العراق المعاصر خصوصا يمكن اختصاره بصراعات سياسية دموية ومجازر وحشية صارخة.. ولهذا يبقى سجلا يحتاج باستمرار إلى عيون فاحصة وضمير انساني مجرب يسلط الأضواء ويكشف الحقائق دون لف ودوران، لا سيما وشواهده لما تزل ماثلة بأشكال مختلفة واثاره لا تمحى بكتاب أو خطاب، رغم عبور كثير منها بمساومات السياسة وضغوط داخلية وخارجية، لعبت دورها في صناعة المسار أو في دموية الأحداث والعنف الوحشي المناقض لطبيعة الإنسان. وصفحات التاريخ المكتوب منذ تأسيس الدولة العراقية وإلى يومنا الحاضر، وفي فترات مختلفة منه، تقدم انطباعات مؤلمة وصورا قاسية وفضاعات مرعبة في حدها الادنى، ومدانة في كل الأحوال.

 اثار صدور الكتاب شجونا في قراءة شؤون التاريخ والسياسة في العراق، وتناولته كتابات وقراءات، فيها ما يثير أسئلة عنها اكثر من ما ورد في الكتاب. كون صاحب المذكرات والفترة الزمنية التي شارك فيها وما وضعته في صفحات التاريخ من أحداث دموية، تشير إلى ضرورة البحث الأوسع والاستقراء الأشمل والمساهمة في الإضاءة التاريخية، حيث أنها جزء من تاريخ سياسي معاصر، وإشكالية مستمرة، لا يكفي ما قيل وما كتب عنها إلى الآن. وتدفع في الوقت نفسه إلى الدروس والعبر من كل ما حصل، في الأسباب والنتائج، في الوقائع والمرويات، في الخبر والتجارب، في تحكيم العقل وتحشيد الإرادة، في إطار تغيير الواقع للمستقبل الافضل.

ابدى محرر المذكرات الدكتور طارق العقيلي في مقدمته آراء عن الكتاب والتحرير والدور والتاريخ. وكباحث فيه يدرك أن علم التاريخ يتطلب التوثيق والموضوعية والشهادات الحية والمقارنات بين ما هو مسجل ومروي وسرديات المشاركين في صفحاته وتحليل زوايا النظر والمصداقية والشفافية والجرأة في طرح الوقائع والحقائق وتحمل المسؤولية عنها بتجرد ونزاهة وأمانة للتاريخ وميزانه وحكمه ومكره ايضا. وهذا عمل جدي يحاصر من يدخله أو يجعله متوجسا من الارتباك بتفاصيله أو جزيئاته.

اما عن المذكرات عموما، فبالتاكيد  لها أهميتها كونها سجل الواقع ومحكمة المشاركين في صناعة الحدث التاريخي وشرف الضمير الفردي والشخصي وعواقبه التي تضع معايير الكتابة والنشر بأمانة ومصداقية وتسام انساني. ومع هذا فهناك الكثير من الملاحظات على ما نشر من مذكرات سياسيين في العراق خصوصا وفي اللغة العربية عموما. ابرز الملاحظات محاولات تبرئة الذات وانكار الحقائق، المجمع عليها من أكثر من مصدر أو من دلائل يصعب إغفالها والتهرب منها. وكذلك الابتعاد عن أحداث سياسية موثقة بالارقام والاسماء ومثيرة للاهتمام أو لصفحات التاريخ. وتجنب كتابة رأي ودور واسهام كاتب المذكرات في الأحداث ونشر ما يقال ولا يعرف فقط، اي انه لا يضيف جديداً لما هو منشور ومطبوع ومسجل في كتب أو مذكرات اخرين، وهناك طبعا روح المبالغة وخداع الذات، قبل غيرها، في إعطاء صورة لصاحب المذكرات المنشورة أو المتحدث عن ذكريات، في وسائل الإعلام المختلفة، غير ما هي عليه في الواقع والعرف والشهادات المعروفة لآخرين ساهموا في صناعتها أو وضعها دون بهرجة مزخرفة  وبتواضع خجول. وبالتأكيد هناك ملاحظات اخرى ليس المجال لها. وفي مقدمة المحرر لمذكرات محسن الشيخ راضي، ملاحظاته هو الاخر، وآراء ووجهات نظر ، كما يمكن القول عنها، تحتاج إلى مناقشة هي الاخرى، لاسيما ما ظهر كاحكام مسبقة دون بحث وقراءة لها من مختلف الجوانب والاحوال. وبلاشك يسجل للمحرر جهده وجلده ومبادرته في تسجيل المذكرات والالتفات الى موضوعها وشخصيتها ودورها في صفحات التاريخ السياسي في العراق خصوصا. كما يشار إلى صاحبها للجراة والكشف والاعتراف، وقول ما يريد قوله في قضايا لما تزل مثار جدل وصراع واختلاف في الرؤية والمسؤولية وحتى في تجاوزها زمنيا والبناء على الاستفادة من الدروس والعبر منها، والوعي النقدي لها والتمكن من عدم تكرارها أو تدويرها أو إعادتها بأسماء أو صيغ اخرى.

ومؤلف الكتاب كما يسميه محرره قيادي بعثي، في العراق، وقام حزبه، البعث، منذ تأسيسه في العراق وعقد مؤتمره التأسيسي أواسط الخمسينات من القرن الماضي بادوار مختلفة، من نشاطات وفعاليات قومية الشعارات والأهداف وتحالفات سياسية مع أحزاب الحركة الوطتية، خاصة مع الحزب الشيوعي العراقي، (الذي درب كادره على الطباعة في دار طباعته السري، بتوجيه امينه العام سلام عادل، واهداه آلة طابعة كان الحصول عليها صعبا جدا) الى الانقلاب واستلام السلطة مرتين، وبروز ظاهرة الانتقام والمجازر الدموية في سياسته ضد الحلفاء، وألابرز مع الشيوعيين.

قدم المحرر، الإشارة إلى الجهات السياسية الخارجية التي دفعت الحزب إلى ما قام به، في الانقلاب أو المجازر، مستعينا بالوثائق والدراسات وبعض الاعترافات من قيادات الحزب ومساهمين في أحداث العراق التاريخية. وتلك قضية مهمة وأساسية في تناول الحديث عنها في صفحات المذكرات، وأهمية شهادة المؤلف فيها، ووضعها في سياقها وتداعياتها الكارثية ومسار الأحداث في تاريخ العراق الوطني. حيث وصمت مجريات الأحداث هذه تاريخ العمل السياسي والوطني برائحة الدم والموت، والخيانة والغدر السياسي والاستعانة بالعدو الخارجي (الامبرياليتين الأمريكية والبريطانية) على المصالح الوطنية والقومية. وهو ما اسهب المحرر فيه وصولا إلى نصيحة تاريخية ايضا لكل من يهمه التاريخ والحاضر والمستقبل للشعب والوطن، " لذلك، لا يحق لهذه القوى السياسية وقيادتها التذرع بمزاعم النوايا الحسنة والاكتفاء بها كمبرر لبرائتهم التاريخية، فقد حان الوقت على جميع هؤلاء التكفير عن تاريخهم، وان يبدأوا بمراجعة ذاتية وموضوعية لنقد تجاربهم وإدانتها، والاعتراف أمام الشعب بأخطائهم الجسيمة تجاه العراق، ويعلنوا اعتذارهم للوطن وللشعب العراقي"(ص 11).

ختم مقدمته برأيه في عمله التحريري ومحتوى المذكرات، مؤكدا، "في هذه السيرة سيلتفت القاريء إلى أمر جدير بالاهتمام والنقد الموضوعي، بأن صاحبها من البعثيين القلائل الذين اعترفوا بجسامة الممارسات الدموية التي ارتكبها حزبه خلال مسيرته لاَ سيما أثناء سيطرته على السلطة في8  شباط/ فبراير1963  تجاه الشيوعيين وضد كل القوى السياسية والشعب العراقي عموما، فقد قال له وماعليه بكل أمانة وتجرد عن الانحياز.. (ص (12 .

(2)

اما المنهج الذي اتبعه المحرر في تحرير السيرة، التي أخذت منه وقتا طويلا نسبيا في التعرف على مؤلفها وإقناعه بسردها له، مع تاسفه عن الإهمال في الحفاظ على الوثائق التاريخية، ومشروع كتابة مذكرات له، هو في تدوينها وفق ما يمليه عليه مؤلفها شفويا ثم كتابتها ومراجعتها. ونقلها كما سماها دون تلاعب حتى بالمصطلحات الحزبية التي تتكرر في أدبيات الحزب الذي شرح المؤلف له بدايات انتمائه له والصراعات التي خاضها داخله، واختياره العناوين لفصولها وحسب تسلسلها كما رآها بأمانة تاريخية لباحث في تاريخ العراق المعاصر. فجاء تسلسل فصولها تقليديا، في التعريف بالبدايات الاولى، الولادة والعائلة ومن ثم الانتماء الحزبي والنشاطات الاولى، والخوض بعدها في السيرة والمسيرة الحزبية والسياسية، في التسلسل الزمني، وما احتوت عليه من صراعات القيادات والاحزاب وتداعياتها وما جرته على تاريخ العراق السياسي المعاصر من أحداث وارتباطات ورهانات تركت بصماتها عليه حتى يومنا الحاضر.

أكد ما سبق صاحب المذكرات، في مقدمته هو أيضا. "لقد تعرفت على د. طارق مجيد تقي، بعد أن قرأت كتابه الموسوم (بريطانيا ولعبة السلطة في العراق، التيار القومي والطائفية)، والذي شمل مرحلة سياسية عشت ومارست أحداثها وقد أعجبت كثيراً بما تضمن من معلومات وتحليل، جلها معتمد على ما جاء في الوثائق الربيطانية، بالرغم مما لدي من ملاحظات. ولهذا قد جرت بيننا حوارات سياسية لتلك المرحلة والتي كانت قاسية علينا وعلى الشعب العراقي والمنطقة استمرت آثارها المؤلمة حتى يومنا هذا."و قد تطلب منه هذا العمل الشاق مدة تزيد على ثلاث سنوات، سجل فيها كل ما أمليته عليه من أحداث سياسية واجتماعية شملت الفترة منذ ولادتي1932  (؟) وحتى ما بعد الاحتلال عام 2003 ". وبتواضع سجل أن ما املاه فيه معلومات "وإن كانت بسيطة ولكنها قد تكون مفيدة لمن تابع المسيرة السياسية منذ الخمسينيات وحتى الاحتلال الاخير". والواقع أن هذه المعلومات الواردة لها أهميتها في صفحات التاريخ لما فيها من إقرار لوقائع واعتراف بخطاياها وشجاعة الاعتراف والإعتذار منها، للتاريخ الشخصي والوطني. ولا سيما خاتمة مذكراته. وفي سياق التفاصيل، حملت الفصول تاريخا شخصيا مرتبطا بالتاريخ السياسي في العراق، وقد تكون مع ما سبقها من مذكرات لشخصيات حزبية،  ومنها بعثية، تكشف رائحة الدم والموت التي غطت سماء الوطن عقودا طويلة، ولم تتمكن الأحزاب والشخصيات والقوى الوطنية من التخلص من آثارها وتداعياتها وجراحها، رغم مداهنات السياسة وتقلبات أوضاعها في عراق لم تنته فصول المأساة فيه، من احتلال إلى آخر، بأشكال متعددة، طغت عليها لعنة الدم والعنف والدمار والاحتراب والحقد والانتقام والكراهية والفتنة ومترادفاتها اللغوية والمؤلمة فعليا.

الكتاب يقرا من عنوانه، كما يقال، كنت بعثيا،  يعطي صورته الاولى من استخدام فعل كان، الماضي الناقص، الموحي برفض مبطن لماض لا يسر، رغم تغنيه بايامه وحماسه الحزبي وانتمائه العقائدي، وهذه مقدمة، اما في المتن، فاسم المؤلف، محسن الشيخ راضي، اسم إشكالي مرتبط بفضائع وطنية أساسا، تطلبت منه نشر دفاعه الشخصي عن دوره وفعله وموقعه ومن ثم المكاشفة السياسية التي ينبغي أن تتم بلا تردد أو إغفال أو تجاوز أو إقصاء أو تهرب، بعنوان المراجعة التاريخية لكل الشخصيات والأحزاب والقوى السياسية في العراق، وهو أمر يكاد أن يكون متفقا عليه وبحاجة إلى روح تسام عالية وشرارة انطلاق جماعية وموضوعية وباشراف مؤسسات قضائية وأكاديمية مستقلة وحريصة على الشعب والوطن، ومستقبل الأجيال المتطلعة إلى حياة كريمة وعدالة اجتماعية ونظام ديمقراطي ومؤسسات وطنية تقدمية.

استبق المؤلف وهو يسرد بدايات قناعاته وانتماءاته الحزبية بالحديث عن تغيير قناعات المرء وتحولاته الفكرية. )ص 36) "في كل مرحلة من عمر الإنسان وتاريخه، له من القناعات والآراء والمعتقدات ما يؤمن بها ويناضل من اجلها لارضاء ذاته وتحقيق طموحاته العقائدية في محيطه وبيئته. ومع تقدم العمر، ربما تتغير قناعات الشباب وتتبدل مع تطور ثقافته وطول تحاربه التي تضعه عىل محك مراجعة ذاتية، وواقع موضوعي  جديد يمر به. وربما يبقى متمسكا بتلك القناعات حتى مماته تبعا لبقاء ذاته التي تأبى ان تتطور حسب اعتقادي وفهمي المتواضع في هذا الاتجاه. " .. وواصل،  "سيجد القاريء الكريم في ثنايا هذه المذكرات، ان محسن الشيخ راضي في عام 1955َ حتى عام 1963 ليس كما هو في عام 1965 وما بعدها، وكذلك ليس هو في عام 1970 وماتلاها. وبذلك، لا يمكن لاي مقاربة منصفة عن فترات تحول القناعات عند المرء أو توجيه النقد له إلاّ بالتركيز على خصوصية كل حالة وظروفها التاريخية." ومن خلال هذه العبارات كما يبدو تمكن المحرر من الحصول على ما نشره، ومن المؤلف ما دفعه إلى "البوح" بما سماه كتاب مذكرات.

من ما يمكن تسميته بالسائد في بلداننا العربية، وتاريخها السياسي، أن يواجه المناضل الحزبي، المتحمس والمقتنع بأفكار حزبه وسياساته، قمع السلطات، وان يعرف المواجهات العنيفة، وصولا الى قناعة أن السلطات الحاكمة لا تنفذ ما تعلن عن نفسها، وتمارس خلافه مع المعارضة السياسية لها، حتى ولو بالكلام. وفيها محطات ومشاهد، اخطاء وخطايا، "لكن اريد ان اقول واكرر ان اخطاء النظام الملكي في السياسة الداخلية والخارجية، وممارسته للعنف تجاه الحركة الوطنية لا يوازي ما ارتكبناه نحن عندما استلمنا السلطة. (ص 41) وهذا الحكم تعبير عن تحول في القناعات والافكار، واكده عنده ما حصل من تصادم بين أعضاء التيارات السياسية العراقية حتى خارج العراق، كما حصل، بين تيار القوى القومية، والبعث منها، والشيوعيين العراقيين، الموجودين في دمشق. "هذه كانت البداية الخطيرة التي جرتنا جميعا دون وعي وادراك بمصلحة العراق، إلى هاوية الانقسام والتناحر والتقاتل، وشدتنا إلى الاختلاء بأوكارنا نمعن بتخطيط المؤامرات والتآمر بعضنا ضد البعض الآخر"(ص61). وتطور فهمه لكتابات مؤسس الحزب وقياداته، من الإيمانية شبه الدينية الى النقد الجارح، و"الكفر" بعباراته الإنشائية العاطفية الخالية من العمق الفلسفي العلمي (ص(64  وما تلاها من صراعات داخلية حول الوحدة، شعار الحزب الاول، وحل الحزب امامها، سواء داخل العراق أو خارجه، وما سبب ذلك من صراع داخل الحزب نفسه، وانقسام تنظيمي وفكري وسياسي، وداخل التيار القومي، (الناصريين والبعث)، وانعكاساته على المشهد السياسي ومجريات العمل السياسي عموما. وصارت أول تجربة للوحدة العربية بين القاهرة ودمشق محكا كافيا لاختبار الحزبيين البعثيين خصوصا لقناعاتهم بالشعارات التي رددوها. وترك ما حصل بعد قيام الوحدة والانفصال وموقف قيادات في الحزب فيها ومنها أثره على المؤتمرات الحزبية للبعث وعلى المؤلف فيها.

 (3)

سرد المؤلف في الفصول اللاحقة ما يمكن تسميته بالحياة الداخلية للحزب، وتطورات مواقفه العملية، والابرز  فيها العداء المستفحل بين حزبه والشيوعيين، الذين تقدموا الصفوف السياسية بعد ثورة تموز/ يوليو 1958  في العراق. كما اشار إلى الصراعات داخل قيادات الحزب نفسه، بين خطين أصبحا في ظروفهما تلك متوازيين، بين خط مدني وخط عسكري، والتنافس بينهما من جانب، وداخل الخط المدني لتسنم أمانة سر الحزب من جانب اخر، وتطور الصراعات فيما بعد إلى انقسام أو انشطار حزبي، بين يمين ويسار، لكل خطابه وبرنامجه ومسمياته. مما يعكس طبيعة "عربية" في إدارة الصراعات والأحزاب والسياسة والحركة الوطنية عموما في العراق وأغلب البلدان العربية. تتسم بحدة الصراع وتناسي المصير المشترك والتحديات الحاسمة، وتجاوز الأهداف والعقيدة السياسية والانتماء الحزبي، بل تصل إلى حدود التآمر والانقلاب والتصفيات الجسدية والنفسية. ولعله من موقعه كشف الغطاء عن "أسرار" حزبية داخلية، بين الأمين القطري ومؤسس الحزب، امين القيادة القومية، وبين الأمين القطري الذي قاد الحزب والسابق له، أو بين أعضاء القيادة أنفسهم، والوصول إلى "مصالح شخصية ولعلها انتقامية سرعان ما اجتاحت وتسللت إلى القيادة القطرية" (ص 128). وذكر مع تساؤل، "هكذا لا يخلو رفاق الحزب والعقيدة الواحدة من صراع وانتقام فيما بينهم وهم على ابواب النضال، ولكن ما بالك حينما يوجه الرفاق صراعهم نحو خصم يخالفهم في السياسة والعقيدة؟!"(ص129). هذه اللقطات عن الحياة الحزبية والمشهد السياسي في العراق في ظروف صراعات دولية محيطة به، قدمت للقوى الاستعمارية مدخلا الى الاختراق والتدخل ورسم مخططات تخدم مصالحها على حساب مصالح الشعب والأمة.

وهو ما حصل فعلا بعد 8 شباط/ فبراير 1963 والمجازر الوحشية التي ارتكبت في البلاد. وأشار المحرر الى مصادر عديدة تدل عليها، ومنها استنطق المؤلف عنها، والتي كانت ومازالت وصمة ليس من السهل نسيانها، مهما كانت احابيل السياسة ومتغيراتها.حيث أن ما حصل كان "عهداً مأساويا آخر سيغرق العراق فيه بحمام من الدم، ويختلط فيه الحابل بالنابل" (ص148). واختصر الوضع الجديد بما اصطلح عليه بدور القطار الأمريكي والسفارة البريطانية، وببيان رقم 13 لإبادة الشيوعيين العراقيين. وهو ما حصل من مجازر وقصص تعذيب تفضح سادية ووحشية لا مثيل لها عند البشر الطبيعيين. "ويبدو ان موافقة البعثيين المدنيين على بيان ( 13) لم تكن في الوقت المناسب، وكانت على جانب كبير من الخطأ السياسي القاتل، اذ لم تقدر عواقبه الوخيمة على الحزب وعلى المجتمع العراقي، كلنا نتحمل نتائجه، أو لم يكن يتوقعون ما سيحصل من مجازر بحق الشيوعيين العراقيين (ص153). وشهادة المؤلف هنا واستمراره في الاعتراف والإعتذار عما ارتكب وشاهده بنفسه، والاقرار بتحمل المسؤولية عنه مع قيادة الحزب، شهادة اثبات ودليل صريح، على ما حدث وحصل وما وصم الحزب والفترة الزمنية وما أدى إلى النتائج التي خلطت الحابل بالنابل، حسب وصفه.

والمهم في سياق ما حملته الفصول التالية هو دفاعه الفردي وتوضيحه لدوره وموقعه من المجازر والجرائم التاريخية التي لا يتنكر لها، ولعله هنا أو في دوره يعرض شهادته للتاريخ ويرد على وجود اسمه فيها وربما وضع من أطراف داخلية عملت معه قبل أطراف الضحايا، من الشيوعيين وكتابهم كما يحاول ذلك في تعقيباته وسرده. وكالعادة ايضا يحاول كسارد لذكريات طرح اراء متناقضة مع واقعها، أو تسريب معلومات غير متطابقة مع وقائع الأحداث المأساوية التي مرت على الشعب العراقي. والمهم هو اعترافه بها، وليس بالضرورة الموافقة معه حولها، حيث تبقى شهادة له وعليه.

وتدل قضية الشهيد سلام عادل، (حسين احمد الرضي الموسوي، سكرتير عام الحزب الشيوعي العراقي)، وإعدامه بالطريقة التي عرفها العالم، تعذيبا وتقطيعا، على نهج القيادة أو المتنفذين فيها، وما حدث في العراق من وراء حكمها، وهو ما أدانه المؤلف بعد أن وضح موقعه المتهم به في القضية، ورد على "الاتهامات" و"الروايات الخيالية" التي سماها عنه. ولكنه كتب، ما يفضح أمورا خطيرة، لها دلالاتها السياسية، محملة بوقائع دامغة، وهو القيادي في الحزب والسلطة، و"شهادتي للتاريخ اقول، اني رأيت سلام عادل مرة واحدة في المعتقل ولمدة لا تزيد على خمس دقائق في ليلة 23 شباط، ولم تكن حالته تسمح بإجراء حديث معه، ولم اره غير هذه الدقائق المعدودة. لقد رأيته وهو جالس على كرسي في أحد ممرات قصر النهاية للقاء حازم جواد ليحقق معه، ولا انكر انه كان في حالة يرثى لها نتيجة التعذيب القاسي الذي لقيه، وانه تحمل بشجاعة فائقة شتى انواع التعذيب، وفيما بعد سمعت انه تمت تصفيته تحت التعذيب مساء يوم 23 شباط، ولم يعدم (ص157 ). فهل هذه الصور التي عرضها روايات خيالية؟!. رغم أنه في الاخير يقر بمسؤوليته وغيره من أعضاء القيادة بما حل في حكم العراق. "على اية حال، أنا عن نفسي ادين وبشدة مرحلة 8 شباط 1963، واعترف ان طيش الشباب ذهب بالبعثيين إلى أقصى حد من التهور وانتهاك الحرمات وسلب الناس حرياتهم وارواحهم ليس لشيء سوى أنهم عارضوا الحكم وسلطة البعث. واعترف أننا البعثيون لم نقدم للعراق الخير والتقدم المنشود لبناء وطن مزدهر وحياة كريمة لأهله" (ص166 ). ولعل المؤلف فيما اعترف به من مجازر وارتكابات لا إنسانية يبين فيها صحة الوقائع والحقائق التي وسمت تلك الفترة، بحيث بدأت حتى المفردات غبر كافية عنده. "واكرر، مهما قلت من مفردات النقد والإدانة فإنها لا تكفي عما في داخلي. مع ذلك وبكل ثقة وقناعة أقول بأني ادين بقوة كل السلوكيات الوحشية التي الزمت احداث 1963، واستنكر بشدة العنف الذي رافقها، والدماء التي سالت، وأريقت تحت عنوانات واهية لا قيمة لها إزاء حياة الإنسان وكرامته التي اعزه الله بها (ص181).

بالتأكيد تسجل هذه الاعترافات والإدانات لتلك الفترة الصعبة في تاريخ العراق لشخصية المؤلف، يسجلها باسمه ويعلنها بكتاب، وهو يخطو في عقده التاسع من العمر، ويثبت فيها رايا جريئا وموقفا خبرته التجربة ومسارات الحياة، ويقدم في الوقت نفسه دعوة لرفاقه (من بقي حيا او من يسجل عنهم ما لم ينشر بعد) في تلك الفترة وما تلاها أن يشهدوا للتاريخ والأجيال، للشعب والوطن، بضمير حي ومسؤولية انسانية، قبل فوات الاوان.

(4)

توسع المؤلف، محسن الشيخ راضي، في سرده في تجربة الحزب في الحكم، وفشلها في الاستمرار  وطرح اراءه في طبيعتها واسباب ما آلت اليه، كاشفا، ربما أكثر من غيره، أو من البعثيين القلائل، كما وصفه المحرر، الأسباب والنتائج. فرأى بان فشل التجربة في سياق ظروفها التاريخية، تعود الى العمر الزمني للحزبيين، " فقد كنا شباباً نفتقر إلى ركائز فكرية عميقة في شؤون الحكم والادارة، فوضعنا جهدنا في مسك السلطة على قوانا الجسدية وتمتين تنظيماتنا الحزبية الخاوية من افكار بناء الدولة، ولم نعتمد على ملكاتنا العقلية" (ص188). وإضافة إلى نهج مدان في القمع والتعذيب والتنكيل والتصفيات الجسدية، اتسعت رقعة الخلافات الداخلية، وسط القيادة الحزبية، المدنية والعسكرية، كما سماه، الصراع البعثي - البعثي، وفي أجوائه فتحت "جبهة صراع أخرى من أَجل البقاء وإثبات وجودنا عندما استدرنا بقوة باتجاه الحلفاء القوميين الناصريين ومع عبد الناصر نفسه، ومع الاكراد حلفاء الامس. وهكذا تراكمت العلاقات السلبية مع بقية القوى الاخرى، وتفاقمت الأوضاع حتى صار الحزب يمر في وسط رياح عاتية مزقته شر ممزق، مما عكس حالة من الفوضى لم يشهد لها مثيل في تاريخ العراق السياسي(ص ص188-189) ووضع تقييمه الذي اثاره داخل القيادة لتلك المرحلة مشيرا فيه إلى ضعف مستوى القيادة في مواجهة التحديات السياسية، وزاد الأمر تحول نصف قيادة الحزب إلى رجال سلطة وهم غير مؤهلين لقيادة وإدارة الحكم، وإضاف  نقطتين مهمتين، وفق تقديره، حذر منهما الحزب، الاولى خطورة التحالف مع العسكريين، والثانية كنت اعتقد ان الحزب بحجم اعضائه الشباب من طلاب الثانويات والكليات غير قادر على تحمل اعباء حكم الدولة ومؤسساتها. (ص ص193-192) مع الاقتناع بتصور أن "هناك دعما ما، وظرفا دوليا وقف وراء صعود البعث وعجل باستلامه للسلطة. ففي ليلة وضحاها تحول البعث بقيادة مجموعة من الشباب، وبإمكانيات عسكرية تسليحية محدودة، من حزب سري مطارد إلى تجاوز عدد المنتمين إليه، بتقدير احصائي متحيز، عشرة آلاف عضو أو اكثر مع مؤيديه واصدقائه، إلى حزب علني يحكم دولة حديثة مضى على تأسيسها الحديث اثنانَ وأربعون عاما حتى يوم قيام حركة شباط. (ص193).وهذا اعتراف داخلي بكل ما كان عليه الحزب، من ضعف وصراعات وارتباطات مشبوهة، أدت كلها لفترة صعبة وقاسية على الشعب وفي التاريخ السياسي. وظلت طيلة الأشهر السبعة تمارس الحكم بوحشية لم يجد نفسه الان أمامها إلا أن يدينها ويريد ان يبين للتاريخ مواقف لرفاقه في تلك الفترة، كعلي صالح السعدي أو هاني الفكيكي أو ابو طالب الهاشمي..و"شهادتي للتاريخ اقول، لا اريد ان أدين الحزب وقيادته، فحسب، بوصفها تتحمل مسؤولية الجرائم المرتكبة بحق الشيوعيين وغير الشيوعيين، انما أدين نفسي لأني كنت جزء من قيادة الحزب والنظام، ولم استطع وقف حمامات الدم، رغم اني وبعض القادة المدنيين في الحزب لم نكن قادرين على كبح جماح الثأر والانتقام التي مارسها المتحزبون في البعث والجناح العسكري المسيطر على الاجهزة الأمنية واللجان التحقيقية." (ص(203 وبعد كل ما ذكره، "ينتقد" "اهتمامات كيدية وحقدا موجها ضده"، من ضحايا ما اعترف به وادانه (ص 208). وهو ومجموعته، المحسوبة على، علي صالح السعدي، كانوا يعيشون تحت ضغوط داخلية، تدخلت فيها القيادة القومية وامينها ميشيل عفلق، الذي اصطف مع البعثيين العسكر بالضد منهم، وطرح أو ترقب انقلاب العسكر عليهم، حزبا وسلطة، "حتى أيلول 1963 وصلت الخلافات الشخصية بين اعضاء القيادة القطرية مرحلة لم يعد البعث فيها حزبا متماسكا. ومثلما اشرت في مكان سابق، بوصفنا انا والمرحوم هاني الفكيكي متفرغين للعمل الحزبي، لكن لم تعد جهودنا واتصالاتنا الفردية بين بعض تنظيمات الحزب، قادرة على انتشال الحزب من حالة التفكك والتشتت التي بدأت معطياتها مع الوضع السياسي العام تدق نواقيس الخطر" (ص250). وفي غمرة هذه الاحداث وما صاحبها من مشاعر خيبة واخفاق عقد المؤتمر القطري الخامس ليخرج بنتائج "ومسارات انحراف خطيرة ستظهر لاحقا في تاريخ مسيرة الحزب، إذ بدت فيه الانعطافة الكبرى نحو الهاوية وتمزيق الحزب وصعود اشخاص إلى قيادة الحزب لا يملكون تاريخا نضاليا مشرفا، فكانت لهم الصولة بدعم من عفلق وزمرته بذبح الحزب، وسرقت تاريخه في المؤتمر الاستثنائي" (ص ص257-256). ولحق ذلك الاعلان عن مؤامرة لحركة القوميين العرب، وتأييدها من دول وقوى إقليمية ومحلية، وخطاب الرئيس جمال عبد الناصر الهجومي على حزب البعث وعلى علي صالح السعدي شخصيا. و"في تلك الظروف والاجواء السياسية الدقيقة المعقدة والمتشابكة، جاء انعقاد المؤتمر القومي السادس لحزب البعث في دمشق بتاريخ 23 – 25 تشرين الأول 1963 وكان الامل يحدونا بتجديد فكر البعث، وانتشاله من صنمية عفلق وركود فكره بعد ان استنفد جميع طروحاته التي بقيت تراوح في مكانها، على ماهي عليه منذ تأسيس الحزب، واصبحت لا تلائم عقد الستينيات من القرن العشرين، والمد الثوري الذي رافق حركات التحرر في العالم ومنه العالم العربي، والمناداة بتطبيق الاشتراكية الثورية الملائمة للواقع العربي، إذ أصاب الحزب الجمود والانكسارات السياسية وفشل تجربتيه وهو في أعلى سلطة حكم يقود بلدين عربيين"(ص 262).

بعد هذا الإنجاز حضر المؤلف مؤتمرا قطريا استثنائيا في بغداد جرى فيه الانقلاب على مجموعة السعدي، وهو أحدهم، "لقد ختم الانقلابيون مسرحيتهم بنفينا إلى مدريد، وكان من ابطال هذه المسرحية، احمد حسن البكر، حازم جواد، طالب شبيب، عبد الستار عبد اللطيف، صالح مهدي عماش، محمد حسين المهداوي، علي عريم، فقد نفذ هؤلاء إرادة عفلق تحت حراب بنادقهم، ولم يتحقق لهم ذلك إلاّ بفضل من قوى خارجية غربية قدمت لهم الخبرة الامنية والاستخبارية، ومن قوى إقليمية يتقدمها جمال عبد الناصر وانصاره في العراق. فقد اختطفوا الحزب منذ ذلك التاريخ، وسيتحول البعث على أيديهم إلى حزب العشيرة والقرية"(ص 285). وكما يبدو لم ينته الصراع الداخلي، لا بتسفيرهم ولا بعودتهم وتجربتهم في العودة والتخطيط للانقلاب من جديد، وباسم حزب البعث اليساري، لا العفلقي، كما كتب.

وفي الخلاصة حاول محسن الشيخ راضي في مذكراته "التطهر" مما ارتكبه حزبه الذي انتمى اليه، وتحمل المسؤولية بحكم موقعه الحزبي وما حل في الشعب والبلاد، وما حصل في تاريخ الحزب والعراق ايضا. ليصل في ختام الجزء الاول بما يفيده شخصيا من اعتراف واعتذار، يتضمن سؤالا مفتوحا لكل القوى والشخصيات العراقية خصوصا. " وبعد هذه السلسلة من الأحداث اعترف بأني قد أسأت بحق العراق والشعب العراقي الكريم، ولعل نوايانا الحسنة لا تنفع ولا ينفع معها الاعتذار لاننا أدخلنا العراق في دوامات من الفوضى والضياع، وأهدرنا مستقبل اجيال من شبابه. وبصدر رحب اتقبل كل نقد أو إدانة توجه لي، فأنا أدين نفسي قبل ان أدان، وأطلب العفو من كل مواطن عراقي يعتقد بأنني كنت وراء اضطهاده أو سجنه أو حتى إساءة صدرت مني بحقه، والله على ما اقول شهيد"(ص 310). تبقى مذكرات محسن الشيخ راضي، والمعلومات التي نشرها، أُتفق أو أُختلف معها، شهادة تاريخية تقرأ في إطار صفحات تاريخ العراق السياسي المعاصر.

 

كاظم الموسوي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم