صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: قراءة في رواية: العراق سينما لأحمد إبراهيم السعد

حيدر عبدالرضاسردنة الذاكرة ومعالجات السيرذاتية الروائية

توطئة: أن وصلات ووشائج العلاقة الروائية القائمة ما بين الواقعي والمتخيل، هي مجموعة توافقات وتفاعلات ومحتملات تجتهد بموجبها القابلية الروائية المتاحة ضمن دائرة كيفية مبأرة من خاصية الفاعل المنفذ في مسار وآليات تحكمها إجرائية عاملية، تتبنى لذاتها جملة إحالات ومكونات أسلوبية خاصة في تشييد علامة موجهات النص الروائي. من هنا يمكننا قراءة دلالات رواية (العراق سينما) للروائي أحمد إبراهيم السعد، نظرا إلى خضوع آلياتها نحو إجرائية مقترحة من ثلاثية (سردنة الذاكرة ـ السير ذاتي ـ المعالجة الميلودرامية) وبهذه الحدود وجدنا مركزية الفاعل المنفذ في النص، ينتج بذاته مزيدا من التأمل والتوصيف والحكي وإلتقاط اللقطات، وصولا إلى فواعل شخوصية أكثر تأثيرا في تمظهراتها وكياناتها الحركية عبر أمكنة وأزمنة من الأفعال والأسماء والصفات من المحكي: (أغلقت كراسة الرسم، وتأهبت لصعود السطح. كنت قد سمعت هدير أصوات المروحيات وهي تنقل المصابين وموتى الحرب من الجبهة العراقية الإيرانية إلى المستشفى العسكري القريب من بيتنا في حي نواب الضباط . / ص5 الرواية) تبعا لهذه العتبة المتنية من أولى نواة الرواية، تستدرجنا حالات وهواجس الزمن الحكائي المفخخ بزمن (سردنة الذاكرة) من خلال قيمة متناظرة وكاشفة عن وساطات السارد المشارك، الذي لا ينفك يطالعنا بأدق جزئيات الحكي (السيرذاتي) القادم من صوت الفاعل المنفذ، توكيدا نحو الخلوص بنقل وقائع أكثر إيغالا في توظيف استراتيجية القطع والتوصي والتنقل عبر وحدات السرد في شكلها العام والخاص.

ـ تحولات المسرود الروائي من واقع المحكي إلى دليل التخييل .

تنبثق من منظومة الدوال السردية المتحولة من مساحة الوصف إلى مساحة المسرود قيمة حوارية متعلقة بشواغل السارد المشارك الذي يتبدى من خلاله السرد بمحمولاته الموجهة ضمن تمظهرات إفرادية خاصة، والذي منه يصح لنا التشخيص بوادر الإمساك بزمام المسند من ذاكرة التحيين المصور من لدن مخيالية زمن الحكاية، ومن هذا الشكل الإدماجي ـ مكانا وزمنا ولغة ـ تصادفنا استثمارية السارد الشخصية في مجال فن الرسم الذي أذهل فيه أغلب أقرانه وأستاذه في مادة الإنشاء المدرسي،إذ إنه في واقع الحكي كان يستهدف أفكارا مجردة داخل زمن ذات الواقع المعيشة من زمن السرد ذاته: (دائما وأنا أرتقي السطح تتشكل في رأسي تلك المساحة الدائرية المعبدة بالقير، أتخيلها وردة سوداء والطائرات دبابير نحل .. رسمتها مرة في كراسة الرسم المدرسية، وحين شاهدها المعلم سألني وعلى وجهه تعابير كالمشمئز من جيفة: هذا شنو؟ . / ص5 الرواية) إذن المحكي هنا في لعبة التشكيل وموقع التشكل، أنه السار المشارك الذي راح يبدع من روح الأشكال المهمشة، أحوالا ذا لبوسات ثانية من لغة المعنى، وعلى هذا النحو نعاين ضميره النحوي صار معتمدا (الرؤية من خلف) وق لا يكون متواريا وراء ضمير الغائب، إلا في حدود فاصلية القطع الزمني، وبهذا فهو يحيا داخل منظومتين زمنيتين: في المنظومة الزمنية للشخصيات، وفي الآن ذاته يعيش بتقدم زمني كبير في حاضره كسارد وشخصية، ومن هذا المنظور يطل الكون الروائي برمته مشدودا نحو أفعال وهواجس (الماضوي) وبالشكل الذي صار يبئر الحكاية الروائية ما دام القارىء ينسى وجود ذلك السارد ضمنا في مادة السرد كشخصية حقيقية.

1ـ المحكي كفاعل براني في منظومة زمن الخطاب:

قد نلاحظ مؤثرات الحكي في مساحة الفعل الخطابي للسرد، بالحديث المحكي كفاعلية خارجية من خصائص التحيين الزمني للأحداث والمواقف، وق يستقل السارد المشارك ـ ضميرا متكلما ـ عوض عن فضاءات ممسرحة من خلال أداة التصوير الخارجي لها، إذ نعاين أن الروائي السعد، راح يعتمد في العديد من مشاهد وأفعال الحكي بمادة اللقطة المشخصة بالقطع والبتر الحدثي، اعتمادا منه على أسلوب المنظور السينمائي في التصوير والتقطيع وفرز جملة محددات الظروف المكانية والزمنية بدقة مفترضة غالبا: (في ذلك الغروب نزل الجميع،وبقيت أنا ألوذ خلف برميل الماء الذي فقد بعض سخونته،وسمعت نجم وهو يتحدث لخضير عن أمنيته في أن يكون مخرجا سينمائيا .. فيما تعامل خضير مع تلك الأمنية كواقع حال، وأبدى إصرارا عنجهينا على أن يكون هو البطل في كل أفلام صديقه . / ص7 الرواية) تتكاثف المقاطع الحكائية وفق نظام سردي حكواتي مرن، ينهض على محكيات صغرى، تستدعي تعددا وتركيزا في معاينة شريط الأحداث المصورة ـ تمثيلا ملامسا، تشتغل جميع تواصلاته كمسندات ومحمولات حول حافزية مظهر حكائي بؤري، قد تنشطر عنه أحيانا بعض من مسارات التشاكل والتقابل، ولكنها تضعنا أمام قدرة مميزة على جمع الخيوط الذروية مجملة في علاقة واصلة ومتواصلة بين مساحة المشاهد وحبكة اللقطات السردية المتوالدة .

2- الذات الفاعلة بين الاستقصاء الميلودرامي وإندغام  السرد في الوصف:

لقد كان السرد والوصف في عوالم الرواية النمطية ما يقارب شبه الأجزاء المنفصلة، لذا كانا يناظران محل واقعين مختلفين: الإداء الوصفي يهتم بمحاور الأشياء والذوات الشخوصية، فيما يهتم السرد بوقائع ومسار الأحداث. وما وجدناه في مسار رواية (العراق سينما) تتم من خلاله حالة خاصة من الافتتان بالوصف الداخلي والخفي، على حين تبتعد آلية التصورية عن الرؤية النمطية، حتى تدخل إلى مستويات مركزة من المشاهد واللقطات المحفوفة بروح الفضاء المتدرج بين الداخل والخارج المشهدي: (بقينا ننظر باتجاه خضير وكأننا نشاهد فيلما سينمائيا، نحن جالسان في إضاءة خافتة وهو يتحرك داخل ضوء ساطع.. عيوننا تتحرك معه كممثل في فيلم مرعب من عامود كهربائي آخرـ تراكسوته ـ الرياضي باهت اللون،وضاغط على جسده، وزعته المدرسة في يوم رفعة العلم على أبناء الشهداء من التلاميذ . / ص14 الرواية) وبطريقة ما، فأننا نعاين مدى الدقة الموضوعية في نقل دواخل حالات الشخوص، خاصة وأن هذه المساحة من الوصف تستغرق زمن القراءة المساوية إلى جانب زمن السارد عبر عوالمه الخاصة واستجلاء ما تضمره ذاته من ديمومة في بنية صوت الخطاب.

3ـ البطل بين مأزومية  الذات ومتعلقات الفعل المصيري:

أن واقع وحقيقة البطل المحور في رواية (العراق سينما) يكشف لنا جمل متعددة من سمات الشخصية المحورية المأزومة، فهو يشكل بذاته إي السارد المشارك، تلك المرآة المراوية لأحوال الشخوص الأخرى في السرد، ناهيك عن حقيقة قابليته كمرسل بين الشخوص ومهمة توصيله العلاقات السردية، كديمومة بنائية وأسلوبية، لذا وجدناه مع صحبته (خضير ـ نجم) يشكلان ذلك المحور التأطيري من ثلاثية (الكاتب، المخرج ـ الممثل) إلى جانب ابتداع كل من هذه الثلاثية إلى تأشير صفة المؤلف أو المخرج فوق ظاهر قدمه، إلا ما حدث مع الشخصية خضير في امحاء الثاء فوق اللفظ لتبدو الكلمة بواقع (ممل) وليس ممثل، وبمتابعة حكاية الرواية تبرز لنا إشكاليات غريبة مع الشخصية خضير كموت شقيقته ودفنها في حديقة منزل السارد المشارك، إلى جانب وقوع حادثة والدته مخفورا عليها في دار الزنا متلبسة بالجنح المشهود، ذلك ما جعل خضير يتمثل تحت جنح الغياب عن أصدقائه وسكنه لفترة زمنية غير محددة في النص،والأمر ذاته قد يحدث مع نجم الذي راح يخترق الحدود، متلمسا النجاة في بلاد أخرى .

ـ تعليق القراءة:

في الحقيقة تتميز رواية (العراق سينما)، كونها من الأعمال الروائية التي استثمرت تقانات المنظور السينمائي بدقة في توظيف الوجود اللقطاتي والسردي عبر وقفات من الزمن القطعي المتكون من أحوال ظرفية وزمنية مؤطرة. فيما أخذ الروائي ينهض بوظائف البناء الروائي، نحو آفاق مؤثرة من الدال الذاكراتي المركز في أحوال التوطين الشخوصي الموسوم بمأزومية الفقدان، ذلك للمعنى المضمن في عنونتها المركزية (العراق سينما) ولعل مبدأ العنونة في النص، قد جاءنا بمثابة الإقامة الصورية التي أخذت تتيح لمشاهديها صياغة الحكاية الروائية المصورة والواصفة ضمن أجلى متجاويات العرض الفلمي المتناظر بين قابلية السر وفضاءات الواقع القطعي من ذاكرة الزمن والسير ذاتية المتفصلة في أيقونة هوية الذاكرة المشهدية والنصانية المؤثرة في حاصلية الرؤية في زمن الرواية .

 

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم