صحيفة المثقف

منى زيتون: سيكولوجية البطولة

منى زيتونلأن علم النفس هو العلم المسئول عن تفسير سلوكيات البشر، وسلوكيات البشر لا تقف عند حد الحاضر فقط، فهناك ضرورة لفحص حوادث التاريخ ومحاولة تفسيرها أخذًا في الاعتبار المنظور النفسي ودراسة الشخصيات التي تلعب دورًا في هذه الحوادث.

وهذا ليس بالجديد تمامًا، فما من مؤرخ قديم أو حديث إلا وبدأ بسرد صفات الشخصية التي يُترجم لها، فهو مدعاة لفهم ما كان من صاحبها وما لقي في حياته.

وفي هذا المقال نناقش حدثًا من حوادث التاريخ الإسلامي، ربما كان من أكثر ما أثير حوله اللغط والاختلاف، خاصة وقد اقترن بشخصية أسطورية قل أن يكون لها نظير في التاريخ.

خالد بن الوليد ومالك بن نويرة

كثيرون يتكلمون عن ضرورة غربلة التاريخ لكن عندما يتعلق الأمر بحادثة قتل مالك بن نويرة ‏نجدهم يصدقون عجائب المرويات تلقائيًا. ‏والقصة تنقسم إلى ثلاثة أجزاء، فالجزء الأول منها هو أن بني يربوع من بني تميم كانوا قد منعوا أداء الزكاة إلى الخليفة الصدِّيق، وذلك ضمن من رفضت أدائها من قبائل العرب بعد وفاة الرسول، فجاءهم جيش بقيادة خالد بن الوليد، وقبض عسكر خالد على رئيسهم مالك بن نويرة، فلم يأمر خالد بقتله من فوره، وإنما حاوره، فأعلن مالك أنه مسلم مقيم الصلاة لكن مع تحريضه ومنعه قومه من أداء الصدقة التي كان عاملًا عليها من قبل الرسول، وشك خالد في إسلامه من حواره معه؛ عندما قال مالك عن الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطبًا خالد: "صاحبك"، فبدا من ظاهر كلامه إنكاره أنه له صاحب هو الآخر شأن كل مسلم، وكانت روايات قد أشارت لمراسلات دارت بين مالك وبين سجاح بنت الحارث التميمية التي ادعت النبوة، وهي من قومه بني يربوع، ولكن تلك الأخبار نفسها قالت إنه هو من كفَّها عن غزوها، وانتهى هذا الجزء من القصة بأن قُتل مالك بن نويرة.

أما الجزء الثاني منها فهي أن خالدًا بعد قتله مالك تزوج ليلى بنت سنان –أو أم تميم ابنة المنهال- وكانت امرأة لمالك، مع اتهامات لخالد بأنه ما قتل زوجها إلا ليتزوجها.

وأما الجزء الأسطوري الذي ألحق بالقصة، وهو من قبيل إلباس الحق بالباطل ودس الأكاذيب وسط الحقائق لتشيع معها، فهو أن خالدًا قد ذبح مالك بن نويرة وأوقد برأسه نيران القدر الذي أعد فيه طعام العشاء!

وكان ما حدث بين خالد ومالك بن نويرة حلقة من حلقات الحركات الاحتجاجية التي حدثت بعد وفاة الرسول من القبائل التي كانت حديثة عهد بالإسلام، فتحركت إنفة العربي فيهم، وبدا من أغلب القبائل أنهم حسدوا قريشًا على أن بعث الله فيهم نبيًا، فأرادوا أن يكون منهم نبي، فادعى بعض الكذبة النبوة، وكانت أكبر الحركات الاحتجاجية في نجد.

فكان تمردًا دينيًا بدأ قبل وفاة الرسول وانتهى سريعًا بعد وفاته، وتم كبحه سريعًا، ولأن الإسلام دينًا أقام دولة، فقد صاحب التمرد الديني تمرد سياسي؛ إذ رفضت قبائل العرب أن ينقادوا إلى حاكم من قريش، وكان أقسى ما أشعرهم بالذل هو أداؤهم المال له. فإن لم يستطع أحد ممن ادعى النبوة أن ينال ما ناله النبي القرشي وظل العرب مرغمين على الولاء إلى خليفته، فإن إنفتهم لم تجعل أنفسهم تطيب بدفع أموال إلى الخليفة الجديد، وظنوا أن بإمكانهم الاحتجاج، والامتناع عن أداء الزكاة، والتي كان يسميها المرتدون جزية!

ورغم أن قريشًا أيضًا قد آمنوا متأخرين يوم فتح مكة، إلا أن العناد كان ما منعهم من الإيمان قبلها، وإلا فصغيرهم وكبيرهم يعرف محمدًا وصدقه، أما الأعراب فكانوا منافقين أظهروا الإيمان ولما يدخل قلوبهم. وربما لو لم يسرع أبو بكر ببدء الفتوحات بعد قضائه على الردة مباشرة لعادوا وارتدوا، ولكنه فهم نفسياتهم، فقد نقموا على قريش أن يعلو شأنها عليهم ويصيروا تابعين لحكامها، فلما بدأت الفتوحات توحدوا معًا كعرب ضد الفرس وضد الروم فالتأم شملهم، وأشعرهم الإسلام بالعزة، وكان هذا مدعاة لتأليف قلوبهم.

ولنقرر إن ما ظهر من الخليفة أبي بكر في حرب الردة وابتداء الفتوحات من حنكة لو اجتمع أكابر علماء النفس السياسي في العالم ما نجحوا في أن يصلوا لما هو أعظم منه. وهذا غريب عجيب، فسيرته مع النبي صلى الله عليه وسلم كانت طاعة خالصة، لم يصدر منه يومًا اعتراض عليه أو بدرأه برأي، فلم نعرف عنه إلا قوة إيمانه، ولم يظهر من مواقفه أثناء صحبته للرسول ذكاؤه وحذقه، فكانت فترة خلافته القصيرة اكتشافًا حقيقيًا لملامح غائبة عنا من شخصيته.

ولفهم قصة خالد مع مالك، فعلينا أولًا أن نفهم ملامح شخصية الرجلين طرفي القصة الرئيسيين؛ فهذا خالد بن الوليد، وهو الشجاع الصارم الباطش، والذي شهد له رسول الله بالعقل فوق شهادته له بالشجاعة، وقومه بنو مخزوم كانوا أصحاب الرأي في قريش في الجاهلية، وفوق ذلك هو مجازف متحمس متعجل، ومجازفة أصحاب العقل والرأي وإن كانت تختلف عن مجازفة الطائشين إلا إنها تبقى مجازفة، وكشأن كل المجازفات والأفعال غير الاعتيادية تجلب على من يقوم بها كثيرًا من النقد، حتى وإن كان النجاح حليفه إجمالًا ويفوق أي إخفاقات أو سلبيات قد صاحبته، كما أن خالدًا شديد الاعتداد برأيه إلى درجة أن يسعد بالإمارة وبالانفراد بالرأي، فإن تلقى أمرًا وافق رأيه كان النعم به، وإن كانت الطاعة المطلوبة منه فيما لا يوافق رأيه ولا يقره فالأقرب أن يرى برأيه. وأيضًا هو شديد العناد لا يتقبل النقد، ويسعى إلى تكرار نوعية الأفعال التي سبق وأن وقع عليه اللوم بسببها، مع علمه بأن الحق ليس في صفه، وهذه من أكبر سلبيات شخصيته. ولكنها في مجملها صفات تسم صاحبها بالتفرد، فهو ليس فردًا في قطيع بل رأسٌ وأي رأس.

وهذا مالك بن نويرة وكان فارسًا شجاعًا، مطاعًا وسيدًا وشريفًا في قومه بني يربوع من بني تميم، وكان فصيحًا شاعرًا غزير الشعر، كريمًا متلافًا كثير الهبات، وكان كغيره من أعراب الجزيرة حديث عهد وقومه بالإسلام، وكان هو أول من أسلم منهم، ودعاهم إلى الإسلام فطاوعوه وأسلموا لم يتخلف منهم أحد، ووكله النبي في تولي صدقات قومه، وكان يؤديها في حياة النبي، لكن نفسه لم تطب بأداء الزكاة لخليفته.

ومن الواضح من مجمل الروايات التي حكت قصته مع خالد أن مالكًا لم يُرد الحرب، ولم يُعد لها، وربما أيضًا لم يقو عليها، فلا شك أنه قد استشعر أن أكثر قومه قد انفضوا عنه، ولم ير منهم مساندة ومعاضدة، بل سارع بعضهم إلى تأدية الزكاة، وفي الوقت ذاته بقي على استكباره وعز عليه أن يرجع عما سبق وأن أعلنه من منع الزكاة وعدم أدائها للخليفة، وأغلب الظن أنه خاف أن تُعيره العرب إن تراجع أمام الخيل والركب أو لاين خالد الحديث، فلما أسره جند خالد وأخذ الأخير يحاوره بغلظة رد عليه بغلظة موازية، وربما كان يضمر أن يعود إن لاينه خالد الحديث وأطال في حواره أو عاود محاورته في اليوم التالي، أو كان يطمع أن يرسله خالد إلى الخليفة الصديق فيكون له حوار معه، ويظهر فيه اقتناعه له، فيكون انصياعه لدفع الصدقة انقيادًا للخليفة، فلا تحكي العرب أنه جبن أمام سيف خالد بن الوليد، وهو ما يظهر من الروايات التي سأل فيها مالك بن نويرة خالدًا أن يرسله لأبي بكر.

وإلا فهل يعقل أن مالكًا حين طلب أن يُرسل إلى الخليفة أبي بكر كان يظن أن لأبي بكر رأيًا آخر، وهل جاءته خيول خالد إلا بأمر من أبي بكر! إن قراءتي للحادثة ترجح أنه أراد أن يتراجع عن منع الزكاة بكرامة، وربما إن صح أنه كان قد وزع إبل الصدقة فيما وزع من هباته التي كان يتلف فيها المال، فإنه قد أراد أن يكسب الوقت الذي يمكنه من جمع المال الذي يلزمه أداؤه للخليفة. ثم إنه لو أراد أن ينخلع من ربقة الإسلام لأعلن ذلك، ولكنه أعلنها صراحة أنه مسلم ويقيم الصلاة، وهو ما شهد له بعض الجند الذين أسروه.

ولكن من الثابت أيضًا –فيما رواه ابن كثير وغيره- أن خالدا حين حاوره قال له مؤنبًا عن منعه الزكاة: "ألم تعلم أنها قرينة الصلاة؟ فقال مالك: إن صاحبكم كان يزعم ذلك. فقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟! يا ضرار، اضرب عنقه، فضرب عنقه". وزادت بعض الروايات أن خالدَ بعد أن قال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟! تجادل معه في الكلام، فقال خالد: "إني قاتلك. فقال له: أو بذلك أمرك صاحبك؟ قال خالد: هذه بعد تلك!". وقول خالد: "هذه بعد تلك!" لأن مالكًا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ "صاحبك" ثم بعدها قالها في حق الصديق أبي بكر، وهو طعن في إيمان مالك يخالف ما أظهره واستعلنه من إسلام، ولا شك أنه ما أراد أن يظهر من كلامه فلتات تطعن في صحة إيمانه، سواء كانت إساءة منه في انتقاء ألفاظه أو كاشفة عما في نفسه. وقد اتخذ كل من دافع عن موقف خالد بن الوليد هذه الكلمات لتبرر لخالد الأمر بقتله؛ إذ رأوا إنها لم تبقِ في نفسه شكًا من أن الرجل في حقيقة الأمر مرتد لا يدين بالإسلام، وهو ما حمله على البت في أمره بالقتل، وعدم إرساله إلى الصديق.

لكنه تبرير ضعيف، فقد سبق وأن أرسل خالد غيره إلى المدينة كأمثال عُيينة بن حصن وقُرة بن هُبيرة وزعماء بني فزارة وقد كانوا فارقوا الإسلام وأقرب المقربين إلى المتنبي طليحة الأسدي، وقد استتابهم الصديق وعادوا إلى الإسلام، بينما مالك بن نويرة كان قد بقي على إسلامه، ولم يُتابع أي من مدعي النبوة؛ لا سجاح ولا مسيلمة ولا طليحة، وإنما وادع سجاح لما راسلته ولم يثبت عنه ما هو أكثر، وكان أولاهم بأن يُرسل إلى الصديق في المدينة.

فالتعويل على هذه الكلمات فقط واتخاذها حجة لقتل مالك ليس صحيحًا إن أخذنا في الاعتبار الحالة الانفعالية التي كان عليها مالك بن نويرة. إنها سورة الغضب التي تجعل الإنسان لا يحسن انتقاء كلماته، حتى إنها قد تشي بما لا يبطن صاحبها حقيقة، فليس بالضرورة أن يُحكم على مالك بن نويرة بالنفاق لأنه نطق هذه الكلمات، لأنه نطقها مغضبًا وقد فارقته فصاحته وبلاغته، وكرامته عند حافة أنفه بعد أن سيق مصفدًا في الأغلال أمام قومه وهو سيدهم إلى خيمة خالد، وبعد أن تخلى قومه عنه وتركوه لمصيره فلم يأت أحد منهم ليشفع له ويكلم فيه خالد، وأمامه قائد عسكري يهدده ويتوعده ولا يحاول أن يرده إلى قبول أداء الزكاة باللين.

والموقف كما أراه، إن إصرار مالك على منع الزكاة وعدم تأديتها لخالد كان معاندة وشكل استفزازًا لخالد، وكلاهما فارس معتد بنفسه، وكأي شخصين يتسمان بقوة النفس فقد تعاندا وتناقرا كديكين، فكان ما كان. فظاهريًا يبدو ما دار بينهما حوارًا، لكنه في حقيقته كان فيه استقواء من خالد ألجأ مالكًا إلى أن يختار المنية على الدنية. وكان يمكن إن أخذه خالد باللين في مسألة الزكاة أن تنحل القضية، فإن أصر مالك على موقفه فيكون خالد قد أبرأ ذمته أمام الله، ولنا في رسول الله إسوة حسنة، فعندما جاءه رجل يطلب منه أن يبايعه على كل شيء إلا أنه اشترط عدم تحريم الزنا عليه، حاوره رسول الله باللين حتى طابت نفسه بتحريم الزنا وأقر به.

فإن كان هناك سبب حقيقي لعتاب الصديق المستحق ولومه لخالد فهو أنه لم يراجع الرجل مراجعة كافية ولم يمهله مزيد إمهال، ولم يُلن له القول بما يسمح له بأن يعود عن سابق رأيه بكرامة.

ثم إن الروايات اختلفت حول كيف ومتى أمر خالد بقتل مالك، فروايات تذكر أنه قد أمر بقتله بعد الحوار معه مباشرة، فلم يمهله مطلقًا، ووفقًا لفهمي لشخصية خالد بن الوليد أراها الأقرب للصحة، فخالد عجول ولا يتوقع منه أن يصبر على مالك بعد هذا الحوار المشحون.

بينما تذكر الرواية التي اشتهرت لأن الإمام الطبري رواها في تاريخه أن خالدًا أمر بأسره مع من معه، وكانت الليلة شديدة البرودة، فخرج خالد وصاح في الجند "أدفئوا أسراكم"، وهذا أمر بالقتل في لغة كنانة، فظنوا أن الأمير قد انتهى رأيه إلى قتلهم، فقتلوهم وفيهم مالك.

وهنا لا بد أن يثور سؤال، فهل قرر خالد قتل مالك فجأة بعد انتصاف الليل في هذه الليلة شديدة البرودة فلم يصبر حتى يأتي الصباح؟! لو كانت رواية الطبري هذه صحيحة فالقتل ولا شك نشب لسوء فهم لغوي لأن خالدًا لو كان قد أجل قتله ثم قرر قتله بعد أن اختلى بنفسه في خيمته وفكر في الأمر لكان انتظر إلى الصباح. ولكنها محاولة بعض دنييء النفوس إظهار الأمر وكأنه احتيال من خالد كي يُقتل الرجل ولا يُلام على قتله، وهي ادعاءات تقدح في المروءة والرجولة.

وكان عمر بن الخطاب ممن أساء الظن بخالد وقال عنه: "عدا على امرئ مسلم فقتله، ثم نزا على امرأته". وقد كانت عادة عند العرب أنه عندما يقتل خصم خصمه أن يتزوج امرأته بعده، ولكن ليس في الحرب، فقد كان الزواج في الحرب مكروهًا، بل ومما يُعير به. كما شاع بين المُحدَثين أنه تزوجها من فوره لجمالها، بينما يذكر الطبري نصًا أنه تزوجها وتركها لينقضي طهرها، وكذلك ذكر غيره من قدامى المؤرخين. والعجيب أنه رغم ما لقي خالد من لوم بسبب زواجه منها سريعًا بعد انقضاء الوقعة مع قومها، فإنه قد عاند وكرر فعلته وتزوج دون تمهل بعد انتهاء حربه مع مسيلمة!

وأدهى جزء في الرواية التي حكاها الإمام الطبري هو تلك الجزئية عن ذبح مالك وذبح من معه، وجعل رءوسهم أثافي مع الحجارة يشعلون بها القدور! من ثم فالحادثة تحمل في تفاصيلها الكثير من الحقائق التي تثير الشبهات وتستدعي على خالد اللوم، ثم إنها فوق ذلك تعرضت لمزيد تشويه.

وهذه الرواية الأسطورية رواها الإمام الطبري في تاريخه، عن "السري بن يحيى، عن شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر، عن خزيمة بن شجرة العُقفاني، عن عثمان بن سويد، عن ثويد بن المثعبة"، وشعيب بن إبراهيم الكوفي ضعيف الحديث، وسيف بن عمر التميمي رتبته ما بين ضعيف أو متروك الحديث، ومتهم بالوضع واتهم أيضًا بالزندقة.

وقد كان سيف بن عمر التميمي يروي فيُعلي من تميم، ويجعل لهم شأنًا في الفتوحات تهون من أمر ردتهم، وهو فوق ذلك متهم باختلاق شخصية بطولية وهمية لم يرو عنها من سبقه، ولم يورد ابن سعد لها ترجمة في طبقاته -وابن سعد من ثقات الإخباريين الأولين- وهي شخصية القعقاع بن عمرو التميمي، ولم يكتفِ باختلاقه بل ألبس سيف بين بطله الأسطوري المختلق وبين الصحابي القعقاع بن معبد التميمي فادعى لابن عمرو الصُحبة! ولو كانت شخصية البطل القعقاع حقيقية فلماذا لم يبعثه الخليفة أبو بكر إلى قومه فيردهم ويحقن به دماءهم؟ وفي كثير من الروايات التي اختلقها سيف بن عمر عن القعقاع بن عمرو نجده يجعله ندًا لخالد بن الوليد في القيادة، وربما أعلى شأنًا، وينصح خالدًا بخلاف رأيه، فيسمع خالد لرأيه وينصاع له! فهل كان خالد بن الوليد يسمع أو يرى رأيًا غير رأيه؟! وهل مثل سيف يُقبل منه روايات كتلك التي رواها عن بطل حقيقي كخالد بن الوليد؟! خاصة وقد دارت حوادثها في قومه بني تميم، وقد خرجوا من الدين وارتدوا، فأراد سيف أن يهون من أمر ردتهم ويجعل لهم عذرًا! كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أشار إلى أبي خويصرة التميمي وقال إنه رأس الخوارج، وصدق فكان أغلب الخوارج الأول منهم. وبعد أن انتشر الإسلام بين العرب وسكنت به نفوسهم صارت العزة في الإسلام تُقاس بالبلاء فيه، فإن كان قومه لم يبلوا خيرًا فقد اختلق واخترع ما يعلي من شأنهم.

ومؤرخونا تساهلوا في نقل روايات الأخبار –على العكس من روايات الحديث-، فنقلوا كل رواية بلغتهم عن حادثة، وليس معنى أن الإمام الطبري قد روى هذه الرواية أنه قد حققها، بل الطبري نفسه ذكر في مقدمة تاريخه أن "ما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قِبلنا، وإنما أُتى من قِبل بعض ناقليه إلينا؛ وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدى إلينا"أهـ. فالطبري ثقة، وإنما تُرد بعض رواياته بسبب ضعف رجال إسناده. وقد انتشرت الرواية الأسطورية على الرغم من وجود علل في روايتها.

ولكن المحقق والمتفق عليه أن هناك خطأ وقع من خالد بن الوليد في قصة مالك بن نويرة، والاختلاف فقط في تقدير درجته، وقد كنت حتى سنوات قريبة لا أقر بذلك، وأرى أن عمر بن الخطاب أخطأ وتحامل عليه، ولكني بعد دراسة شخصية خالد اتضح لي أن عمر لم يجانبه الصواب في أمره، وأن استئثار من له سمات شخصيته بالقيادة في ساحة الحرب يمكن أن يتسبب في إراقة كثير من الدماء الزكية، ولولا أنه ما كان الأمير وحده في فتوح الشام فلربما كانت قد حدثت مآسي أخرى. ولكن للإنصاف لا بد أيضًا أن نذكر أن بطشه ورهق سيفه كان يشيع الرعب في نفوس أعدائه، وكفى المسلمين الكثير، وأنهى حالة التمرد التي عُرفت بالردة سريعًا، وبالتعبيرات المعاصرة يمكن وصف ما كان يفعله بالحرب النفسية؛ فخالد ليس القائد المتحاور اللين الذي يمكن أن تتجرأ فتخطئ ثم تأمن عاقبة خطئك، ولا يمكن لمن كانت الغلبة له عليهم أن يأمنوا بعدها على أرواحهم. وكانت لهذه السمعة أثرها على الحالة النفسية للمرتدين أو لمن فكروا في التمرد، وجعلته من القادة العسكريين المعدودين عبر تاريخ جميع الأمم الذين لم يهزموا في أي معركة طيلة حياتهم. إن مجمل صفاته بإيجابياتها وسلبياتها هي التي صنعت منه أسطورة.

ولكن فرق بين إقرار العقلاء بوقوع خطأ وتفسيرهم لأسبابه وبين تفسير السفهاء؛ فمشكلة السفهاء أنهم لا يعرفون من هرم الحاجات الإنسانية إلا الحاجات الفسيولوجية التي لا تميزهم عن الحيوانات ويحسبون أكابر الناس ذوي الهمم مثلهم. ومن لبس ثوب الرجال عرف أن الأبطال لا يفعلون هذه الدنايا التي نسبها سيف بن عمر إلى خالد بن الوليد.

أمر آخر لا بد من الإشارة إليه من المنظور النفسي، وهو أنه مهما بلغت شجاعة وجسارة القائد العسكري فهو بشر كالبشر، تؤلمه وتؤثر فيه مشاهد القتلى والدماء، وتمثل ضغطًا نفسيًا هائلًا عليه، ومن ثم يحتاج إلى أن يروح عن نفسه –ولو قليلًا- بعد كل معركة، وما حدث أثناء حروب الردة المتعاقبة التي كان ينتهي فيها جيش من معركة فيلحق بجيش آخر ليكون مددًا له، أو يتوجه وجهة أخرى جديدة، كان شديد الضغط على كل من شارك فيها، خاصة القادة، ولو قدروا جميعًا على أن تكون لهم فسحة لفعلوا ولكنها هيبة الخليفة، والتي لم تكن لدى خالد بالدرجة ذاتها، ودعك من أن خالدًا كان يدعي أنه لا يحب الركون للراحة، فقد كان الأكثر احتياجًا من باقي القادة لمتنفس يخرجه من جو المعركة؛ لشدة شراسته في المعارك، وكانت المرأة له بمثابة هذا المتنفس، فلما ضيَّق عليه الخليفة في الزواج بعد أن فعلها مرتين في حروب الردة، لجأ إلى الحج السريع الخاطف مرة بعد فتح العراق؛ فتأخر عن جنده بعد أن أمرهم بالعودة إلى الحيرة، وتوجه إلى مكة سرًا، فأدى مناسك الحج، ثم لحق بهم، ولم يستشعروا غيبته عنهم لأيام، وكان هذا دون استئذان الخليفة أبي بكر!

والأرجح إن التشنيع على خالد بن الوليد للسياسة قاسمٌ كبير فيه، وأنه قد بدأ من منتصف القرن الأول الهجري، أي قبل ظهور هذه الرواية المعتلة لسيف بن عمر التميمي التي تضيف أجزاءً إلى القصة من شأنها أن تشين خالدًا وتطعن في مروءته، ومعلوم أن خالد بن الوليد كان كثير الولد، ولكن مات أربعون من أولاده في طاعون عمواس، ولم يبق له سوى ولدين؛ المهاجر بن خالد، وكان أحد قواد جيش سيدنا علي في صفين، ومات فيها، وعبد الرحمن بن خالد وكان معه لواء معاوية يوم صفين، كما كان يستعمله معاوية على غزو الروم. وكان عبد الرحمن قد أحب سكنى حمص كأبيه، وكان رفيع الشأن عند أهل الشام، وهذا هو مربط الفرس.

ويروي الرواة أن معاوية قبل أن يأخذ البيعة ليزيد اللعين سأل أهل الشام ‏يستطلعهم عمن يرونه كفؤًا بالخلافة؛ لعلمه أن ابنه الفاسد الفاسق لو لم ينصره أهل الشام فلن ينصره أحد، فجاءه رد أهل الشام أنهم يحبون عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ‏ويرونه جديرًا بالخلافة، فما هي إلا مدة يسيرة ومات عبد الرحمن بن خالد بن الوليد مسمومًا، رغم أن ‏القتيل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد من كبار قادة معاوية، ولكن لم يشفع له هذا بسبب ما رآه معاوية من مزاحمته للسفيه ‏يزيد في أمر الخلافة.‏ وقد روى الخبر كثيرون.

روى الإمام الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" (ج5، ص 227) في حوادث سنة ست وأربعين من الهجرة خبر انصراف عبد الرحمن بن خالد إلى حمص وهلاكه، قال: "وفيها انصرف عبد الرحمن بن خالد بن الوليد من بلاد الروم إلى حمص، فدس ابن أثال النصراني إليه شربة مسمومة –فيما قيل- فشربها فقتلته. وكان السبب في ذلك ما حدثني عمر، قال: حدثني علي، عن مسلمة بن محارب؛ أن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد كان قد عظُم شأنه بالشأم، ومال إليه أهلها، لما كان عندهم من آثار أبيه خالد بن الوليد، ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم وبأسه، حتى خافه معاوية، وخشي على نفسه منه، لميل الناس إليه، فأمر ابن أثال أن يحتال في قتله، وضمن له إن هو فعل ذلك أن يضع عنه خراجه ما عاش، وأن يوليه جباية خراج حمص، فلما قدم عبد الرحمن بن خالد حمص منصرفًا من بلاد الروم دس إليه ابن أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه، فشربها فمات بحمص، فوفَّى له معاوية بما ضمن له، وولّاه حمص، ووضع عنه خراجه"أهـ.

وفي كتاب "المنمق في أخبار قريش" لابن حبيب البغدادي ورد نصًا في هذا الشأن "ذكر ابن الكلبي عن خالد بن سعيد عن أبيه أن معاوية لما أراد أن يبايع ليزيد قال لأهل الشام‏:‏ إن أمير ‏المؤمنين قد كبرت سنه ودنا من أجله، وقد أردت أن أولي الأمر رجلاً بعدي فما ترون فقالوا‏:‏ عليك بعبد ‏الرحمن بن خالد بن الوليد بن المغيرة، وكان فاضلاً. فسكت معاوية وأضمرها في نفسه، ثم إن عبد الرحمن ‏اشتكى فدعا معاوية ابن أثال وكان من عظماء الروم، وكان متطببًا يختلف إلى معاوية فقال‏:‏ ائت عبد ‏الرحمن فاحتل له، فأتى عبد الرحمن فسقاه شربة، فانخرق عبد الرحمن ومات"أهـ. وقد روت كتب السير كيف اقتص لعبد الرحمن ابن أخيه خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد؛ فقتل من قتل عمه. والرواية شديدة الوضوح، وغير مطعون فيها.

ومما يزيد الطين بلة أن عبد الرحمن بن خالد ولاّه سيدنا عثمان بن عفان ثم ولاّه‎ ‎معاوية بن أبي ‏سفيان‎ ‎على‎ ‎حمص، وساند معاوية ضد سيدنا‎ ‎علي، بل‎ ‎وكان حامل راية معاوية في‎ ‎صفين، وأول من دعا ‏بمعاوية خليفة بعد مقتل سيدنا علي، ومن ثم فإن بعض الشيعة هم أيضًا قد أحبوا تلك الأكاذيب التي شانت ‏سيف الله المسلول فلم يكذبوها، بل ربما ساعدوا في رواجها خاصة وفي القصة فرصة للطعن في الصديق ‏رضي الله عنه، علمًا بأن أخا عبد الرحمن بن خالد -المهاجر بن خالد بن الوليد- كان مع علي كرم الله ‏وجهه وقُتل يوم صفين، ويعدونه وابنه خالد بن المهاجر من أعيان الشيعة.

إن سيكولوجية البطولة والعظمة لا تتعلق بك وبامتلاكك صفات القيادة والسيادة وحدها، ولكنها تتعلق أيضًا بالنظرة التي ينظرها الناس إليك، وبحسدهم إياك، ورميك بسهامهم في حياتك، وربما حتى بعد أن ينتهي دورك على مسرح الحياة، فنجد كل ذلك التشنيع في حق سيف الله المسلول المتوفى عام 21 هـ أي قبل حدوث ‏الفتنة الكبرى التي لج فيها المسلمون، ولا ناقة له فيها ولا جمل.‏ لم يستطع الأمويون أن يشينوا ابنه عبد الرحمن لأنه كان من قادة معاوية، وربما لأن أهل الشام أحبوا عبد ‏الرحمن بن خالد لبطولته وبطولة والده، فعملوا على تشويه تلك البطولة، وأكمل سيف بن عمر التميمي النهش في سيرته. وصدق من قال: إذا كنت كبيرًا صرت مرمى للسهام.

 

د. منى زيتون

الثلاثاء 26 أكتوبر 2021

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم