صحيفة المثقف

منى زيتون: الحاجة إلى علم نفس تاريخي

منى زيتون

يستحيل أن تفهم حوادث التاريخ ما لم تكن لك قدرة على سبر أغوار النفوس، لتفهم ما يمكن وما لا يمكن أن يصدر عنها؛ فعندما تقرأ في التاريخ مع خلفية معرفية في علم النفس تختلف قراءتك للحوادث، فتحليل ملامح ‏الشخصيات يلعب دورًا كبيرًا في فهمك دوافع وسلوك كل شخصية محورية، فتعي كيف يمكن أن تكون قد تحركت الحوادث، وربما يجعلك هذا ترى ‏ما لا يمكن أن يراه غيرك ممن نظر إلى الحوادث نظرة آلية وفقًا للمرويات، كما تصبح لغتك التعبيرية ‏أفضل نتيجة درجة الفهم الأكثر عمقًا التي وصلت إليها.‏

وأنا أزعم أن كثيرًا من حوادث التاريخ لو كان من تناولوها قد فهموا ملامح شخصيات شخوصها والدوافع النفسية لهم التي أثرت في استجاباتهم لكانت لهم قراءة أكثر وعيًا لها. وليته يكون هناك تقرير لدراسة علم النفس لدى طلبة جميع أقسام التاريخ في جامعاتنا، بل ليتنا نستحدث فرعًا جديدًا في علم النفس؛ وهو علم النفس التاريخي.

وفي هذا المقال نناقش بعضًا من النقاط التي ينبغي وضعها في الاعتبار من المنظور النفسي عند قراءة حوادث التاريخ والحكم على رجاله.

ما بين التعظيم والتدمير!

دومًا أقول إن العربي يمسك في يديه مرآتين إحداهما مقعرة تكبر الصورة، والأخرى محدبة تصغرها، فإن كان الحديث عمن يحب فالمقعرة لسرد وتضخيم الحسنات والمحدبة لتصغير السيئات، والعكس يفعل عندما ينقلب الحديث ليكون عمن لا يحبه، فكأن التوسط ورؤية الأمور من خلال مرآة واحدة مستوية حرام عند العرب، ولا يفلت من هذا الفخ إلا أكابر العلماء وعقلاء الأمة.

والملاحظ عند قراءة تحليل بعض مؤرخينا المعاصرين للحوادث المختلف بشأنها في التاريخ الإسلامي والمتعلقة ‏بالصحابة أو كبار الأئمة أو الأبطال إنهم لا يقرأونها قراءة منصفة تخرج بتفسيرات منطقية مثلما ينبغي أن يكون شأن العلماء والعقلاء بل يفعلون فعل العوام في القرون الأولى؛ فنجد قراءتهم –غالبًا- مغرقة في التقديس والبعد عن النزعة الإنسانية في تفسير الحوادث التاريخية؛ فيجعلونهم ‏آلهة، رغم أن هذا ليس منهجًا إسلاميًا، وقد حكى لنا الله تعالى من خطايا الأنبياء أو ‏همتهم بالخطايا ما يجعل العقلاء يفهمون أن لا معصوم من الخطأ من بني آدم، ‏والعبرة بما أنت عليه وليس بما كان منك ورجعت عنه، فالحق سبحانه أثبت قول ‏إبراهيم عليه السلام عن غير الله ‏﴿‏هَذَا رَبِّي﴾ ولم يمنعه قوله بعد أن تاب واجتباه ربه أن ‏يصبح خليل الرحمن، ولم يقف القتل الخطأ الذي اقترفه موسى عليه السلام حائلًا أمام ‏توبته التي صار بعدها كليم الله.‏

فإذا كان بطل كخالد بن الوليد قد تعرض للوم الشديد على عظم ما أبلى في حروب الردة والفتوح -وقد ناقشنا هذا الطرح في مقال "سيكولوجية البطولة"- فقد كان هذا لأنه عاش في القرون الأولى التي كان للمسلمين فيها عقول ينقدون بها، وربما كانت هذه الرغبة في التشنيع على الكبراء منتشرة في القرون الأولى لأسباب سياسية؛ ‏فالفرقاء السياسيون كانوا يشيعون عن خصومهم ما يقلل من شأنهم أمام العامة.

وفي مقالي عن "نكبة بغداد" أعدت تقييم الأدلة التي أشارت بأصابع الاتهام إلى الوزير الشيعي ابن العلقمي، فكانت شهادة أهم المؤرخين المعاصرين للحدث؛ وهما ابن الفوطي الحنبلي البغدادي، ورشيد الدين الهمذاني وزير هولاكو، في صالح ابن العلقمي، ولكنه كان الشيعي الوحيد في بلاط الخليفة، فتجنى عليه مؤرخونا السنة، وحملوه طائلة الكارثة التي حلت.

لكن إن كان تدمير صورة كبار الأمة يحدث قديمًا لأسباب سياسية، فهو ولا شك ليس كتلك الرغبة المحدثة الجهولة في تدمير الكبار بتصديق كل ما قيل فيهم زورًا، وعدم تحقيق الروايات، والتي عصفت ببعض العرب في العصر الحديث.‏

ولأن لكل فعل رد فعل معاكس له في الاتجاه، فلعل هذا الهوس بالخوض في سير الكبار جاء ردًا على ما فعله مكبلو العقول في عصرنا من إغلاق ملكة النقد البناء لحوادث التاريخ؛ فساووا بين من يطرح رأيًا ‏متعقلًا وبين من لا غرض له سوى السب والشتم. وأي تشنيع طرحه القدماء يردون عليه ‏متعقلين بطرح الأدلة، على العكس من نقود االمعاصرين التي يكيلون لأصحابها سيلًا من التهم.‏

ولعل من أكثر من يلقى تقديسًا ويُعامل معاملة الأنبياء لدى هؤلاء هو السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، وللأمانة فإن كثيرًا ممن ينقدونه في العصر الحديث يجافون الحق ويتطرفون ضده وكأنه قتل والديهم، حتى أن بعضهم ينكر أنه استعاد القدس!

وما لا خلاف عليه أن صلاح الدين جاهد وتصدى للحملة الصليبية الثالثة، ولكنه سعى -وأبيه وعمه من قبله- لأن يكون له نفوذ وسطوة، واستقل بما كان تحت يديه من بلاد ما أمكنه، وقد نقده أهم مؤرخي عصره، وأهم مؤرخ لتاريخ الحروب الصليبية، وهو ابن الأثير الجزري صاحب "الكامل في التاريخ"، بسبب مواقفه من الأمير نور الدين محمود زنكي، والذي كان ولي نعمته، والذي دخل مصر في الأساس ليكون نائبًا له، ثم مواقفه من ابنه الصالح إسماعيل زنكي. وأجمع المؤرخون على أن صلاح الدين لم يقدم أي دليل حقيقي على استمرار تبعيته لزنكي منذ مكَّن لنفسه في مصر، وأنه سارع إلى إعلان استقلاله رسميًا بمصر ثم ضمه بلاد الشام إلى سلطانه بعد وفاة نور الدين زنكي.

وكذا سعى إلى توسيع ملكه ما استطاع في مناطق أخرى، فأدخل الحجاز واليمن تحت سلطانه، واستطاع ضم أجزاء واسعة من شمال أفريقيا، فهو لم يحارب الصليبيين فقطـ مثلما يريد من يعظموه أن يوهموا من لم يقرأ التاريخ، وإنما حارب المسلمين أيضًا ليدخل بلادهم تحت نفوذه وسلطانه.

ورغم أنه هو من كان قد أعاد مصر إلى تبعية الخلافة العباسية وأسقط الخلافة الفاطمية في بداية أمره، عندما دخل مصر وصار وزيرًا للخليفة الفاطمي العاضد، إلا أن المؤرخين ذكروا حوادث ومواقف تظهر فتورًا بينه وبين الخليفة العباسي الناصر لدين الله، ووصلت حد عدم الطاعة عندما طلب منه الخليفة العباسي إرسال القاضي الفاضل للتباحث بشأن توضيح بعض القضايا، فرفض صلاح الدين واعتذر بمرض القاضي ولم يرسل غيره!

وفي العصر الحديث وُجهت سهام النقد إلى صلاح الدين الأيوبي لأسباب أخرى لم تكن ذات شأن فيما مضى ليُتهم بسببها؛ من أمثال هدمه للكثير من الأهرامات ومحاولته هدم الأهرامات الثلاثة الكبار، وبيعه محتويات مكتبة دار الحكمة بالقاهرة التي أودع فيها الفاطميون نفائس الكتب، والتي من بعدها نشأ في مصر ما يُعرف بتجارة الكتب القديمة، ولم تُعرف قبلها.

ولست هنا مهتمة بسرد القصص التي تلقى صلاح الدين الأيوبي سهام النقد بسببها، فهي بحاجة إلى تفصيل كثير، والغرض ليس الطعن فيه والتقليل من شأن جهاده، فهو بطل وأنا ممن يقر بذلك، كما أنه كان على قدر طلبه التوسع والنفوذ وضم البلاد تحت سلطانه زاهدًا في المال؛ فكان لا يجتمع عنده من المال ما يبلغ نصاب الزكاة، ولم يترك مالًا ولا دورًا لورثته، والقصد أنه بشر كالبشر، يخطئ ويصيب، ولكن الجماعة التي عدمت العقول المسماة بالسلفية ترفض تمامًا أن يُشار إلى أي من أسباب النقود التي ألمح إليها المؤرخون الثقات في حقه، حتى إنهم طعنوا في ابن الأثير ووصفوه بالتشيع، رغم أن الرجل لم يزد عن أن روى صادقًا ما كان.

غلبة العاطفة عند النساء

لا خلاف على أن إسهام النساء في كتابة تاريخ البشر شديد الضآلة إذا ما قورن بإسهام الرجال، ولأن المؤرخين عادة رجال فهم في المواقف القليلة التي كان للمرأة دورها القوي في الحوادث غالبًا ما يفشلون في تفسير تلك المواقف، أو لا يظهر مما كتبوه فهم عميق لدوافعها، وذلك بسبب عدم درايتهم الكافية بسيكولوجية المرأة.

وفي مقالي "ناقصات عقل ودين.. بأي معنى؟!"، وهو أحد مقالات كتابي "مهارات التواصل الاجتماعي" كنت قد تعرضت إلى موقفين من مواقف التاريخ لم يفسرهما المؤرخون على الوجه الأمثل بسبب عدم وضع التكوين النفسي للمرأة في الاعتبار؛ وهما ما وقع بين السيدة عائشة والإمام علي، ثم الجفوة التي حدثت ‏بين السيدة فاطمة والصدّيق أبي بكر، وذكرت أن من درس سيكولوجية المرأة يدرك أنه حتى أفاضل النساء وأكملهن قد تغلبهن العاطفة، وعندما يتعلق الأمر بإبعاد المرأة عمن تحب أو أخذ ما بقي لها منه ‏تغلبها العاطفة وتبقى على موقفها غير المنطقي مهما طالت الأيام والسنون، ‏وهذا ما لم ينتبه إليه مفسرونا، فنجدهم عند ذكرهم مطالبة السيدة فاطمة الصديق بميراثها يغفلون عنه، وينظرون للأمر ويفسرونه من جانب الحقوق المادية، وهل كان حقًا لها أو لم يكن!

الاضطرابات النفسية؛ التلاعب بالعقول نموذجًا

أحيانًا ما يظهر لي من قراءة بعض حوادث التاريخ وجود علل نفسية لدى بعض محركيها، أدت إلى ما آلت إليه الأمور وما وقع، ومع ذلك أجد غفلةً من المؤرخين عنها أو لنقل نقصًا في فهم تلك العلة ودورها في تحريك الحوادث.

على سبيل المثال، فهناك شكل من أشكال الإساءة النرجسية والخداع العقلي يُعرف باسم "التلاعب بالعقولGaslighting"، في هذا النوع من الاضطرابات يلجأ الطرف النرجسي المتلاعب الخبيث إلى تضليل الطرف الآخر الذي وقع ضحية له، حتى يفقده هويته والثقة في ذاته، ويفقده القدرة على التفريق بين الصواب والخطأ، ويتمكن من السيطرة التامة عليه، ويبدأ يتخذ القرارات بدلًا عنه، ودون أن يشعر الضحية بذلك، إلى درجة أنه يشكك الضحية أنه هو من طلب اتخاذ هذا القرار، وقد ينكر أن حوارًا ما قد دار بينهما، أو يتظاهر بنسيان شيء أمره به، أو يتظاهر بعدم فهم ما يسأله عنه الضحية. وما بين الإنكار والاختلاق يشك الضحية في واقعه وذاكرته وإدراكه.

وأكثر من يقع ضحية لهذه الخدعة هم كبار السن، وخاصة في إطار العلاقات الأسرية، نلاحظها خاصة عند وجود ابن/ابنة نرجسي ‏شديد التعلق بالأب/الأم كبير السن، ويمارس على الوالد ألاعيبه ويضلله فكريًا لتحقيق مصالح النرجسي مهما تعارضت ‏مع مصلحة الوالد‎.‎ ويبعد هذا النرجسي المتلاعب عن الضحية جميع أصدقائه وأحبائه ممن يمكن أن يفشلوا خططه، أو يعمد إلى تدمير صورة الضحية في نظرهم. إنه يحاول عزل الضحية عن العالم الخارجي ليسهل التحكم فيه. ولأن الضحية يصبح شديد التعلق بالمتلاعب ولا يشعر بالأمان دونه، فهو لا يتقبل أي نقد يوجه إلى المتلاعب من أي شخص يشعر بحقيقة ما يحدث له ويحاول مساعدته، ما يساعد على انفضاض أحبته عنه وتركه فريسة للمتلاعب.

ولكن التلاعب بالعقول لا يقف عند حد الأبناء الخبثاء، ويمكن أن يحدث من القرابات. وفي التاريخ الإسلامي كارثة كبرى حلت علينا، ولا زالت تداعياتها لم تنقضِ، ألا وهي "الفتنة الكبرى"، والتي كان رأس البلاء فيها ومحركها هو ذلك النرجسي الحقير المتلاعب مروان بن الحكم، والذي –لقرابته من سيدنا عثمان بن عفان- تسلل كالحية رويدًا رويدًا، حتى تمكن منه في كبر سنه، وأبعده عن جميع الصحابة الناصحين له، وأصبح مستشاره الأوحد، وما كان إلا مستشار سوء، أفضينا بسببه إلى أسوأ حال. ومثله مثل أي متلاعب كان يتخذ كثيرًا من القرارات بدلًا عنه، ودون أن يشعره بذلك، ويختم الكتب إلى العمال باسمه، وآخرها ذلك الكتاب الذي كان القشة التي قصمت ظهر البعير.

يثبت الإمام الذهبي في ترجمته في "سير أعلام النبلاء" دور مروان الذي يشبه دور الحية المختبئة في تحريك وتأجيج الفتن المتتالية، فقال: "كان كاتب ابن عمه عثمان، وإليه الخاتم، فخانه، وأجلبوا بسببه على عثمان، ثم نجا هو، وسار مع طلحة والزبير للطلب بدم عثمان، فقَتل طلحة يوم الجمل، ونجا –لا نُجِّي-"، ووصف في موضع آخر كيف قتل طلحة؛ فذكر أنه رماه يوم الجمل بسهم فقتله، وقطعًا فإنه ما قتل طلحة إلا ليزيد الوقعة اشتعالًا ويظنوا أن معسكر سيدنا علي هم من قتلوه، ولكن الله فضحه. وذكر الذهبي أيضًا أن مروان في زمن اللعين يزيد "كان يوم الحرة مع مسرف بن عقبة يحرضه على قتال أهل المدينة".

وبينما يتفق المؤرخون العقلاء الثقات على دور هذا المأفون النرجسي المتلاعب مروان بن الحكم في تحريك حوادث الفتنة الكبرى وما تلاها، نجد بعض أمويي الهوى يدافعون ويعتذرون عنه ويبررون له، ويختلقون ما يبرئه، حتى لقد آثر المحتال الزنديق سيف بن عمر التميمي أن يختلق لنا شخصية أخرى ليحملها نتيجة ما آلت إليه الحوادث، ويجعلها سببَ الفتنة؛ وهي شخصية عبد الله بن سبأ، فاختلقه وجعله هو المؤلب على عثمان وسبب معركة الجمل! وأجزم أن كل من صدَّقه لا يعرفون شيئًا عن علل النفوس.

 

د. منى زيتون

الثلاثاء 26 أكتوبر 2021

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم