صحيفة المثقف

مهدي الصافي: السياسة الترقيعية لاتبني دولة

مهدي الصافيانتخابات عراقية مبكرة استكملت مسيرة تدمير الدولة، بعد ان اصبح الاعتراض على نتائج الانتخابات ظاهرة عامة لاغلب المرشحين الخاسرين، اذ ليس منطقيا ان يكون جميع المعترضين هم على حق، والا تجاوزاعضاء البرلمان الفائزين في هذه الانتخابات عدد المقاعد المحددة!

يردد اهلنا بتهكم دائما قصة ترقيع الاشياء، (فقد كانت مسألة ترقيع ثياب الفقراء مشهورة في اوائل واواسط القرن الماضي، بل حتى في السبعينيات كان هناك من يرتدي الثياب اي الدشداشة او السترة المرقعة)، على انها لاتجدي نفعا لانها حلول مؤقتة، سوف تنتهي في نهاية المطاف الى المزابل او اعادة البناء من الجذور...

ما يحصل في عراق مابعد 2003هو الاستمرار في ترقيع سفينة النظام السياسي المتهالكة الراكدة في الوحل، والانغلاق او العجز التام عن ايجاد افاق عملية جديدة تنتشل هذا العملية السياسية من الانهيار، بالعودة الى الجذور المنطقية للاصلاح، وهي اعادة كتابة الدستور او اجراء تعديلات مهمة عليه، على ان لاتتم عبر نفس الاليات والايادي او املاءات وشروط الطبقة السياسية المهيمنة على الحكم، بعيدا عن التدخلات الخارجية..

نتائج الانتخابات المبكرة التي سجلت انتصارا نسبيا للتيار الصدري (علما انه سجل تراجعا ملحوظا في اعداد ناخبيه ولكن استغل نظام الدوائر المتعددة المحدود والمفصل على مقاساته وبعض الكتل الاخرى)، ليست بابا مفتوحا او طريقا معبدا لاستلام السلطة (منصب رئاسة الوزراء)،

 لان التيار لديه خلافات كبيرة مع الاجنحة الشيعية الاخرى (دولة القانون، والفتح وقادة الحشد والفصائل المسلحة التي لديها اجنحة وكتل سياسية)، فهو يقدم نفسه على انه التيار الشيعي الوحيد البعيد عن ايران(او مايسميه بالتبعية)، والقريب من المحيط العربي والاقليمي والدولي، ولكنه يصطدم ايضا بعقوبات داخلية اخرى، منها ان تياره متهم بالتورط في الفساد المالي والاداري (ومايسمى شعبيا بظاهرة الصك)، ولم يعد خافيا على احد عقوبات زعيم التيار السيد مقتدى الصدر المتكررة لقيادات واعضاء تياره، اضافة الى ان سمعة جيش المهدي السابقة(سرايا السلام حاليا) في العديد من الملفات بما فيها مواجهة الدولة في المحافظات الجنوبية(وقد كان لرئيس الوزراء السابق المالكي حملة عسكرية ضدهم اسماها صولة الفرسان او خطة فرض القانون)،

ولديه مشاكل مع الفصائل المسلحة وقياداتها التي يقول عنهم انهم منشقين عن التيار، وكذلك ازمته مع قوى وجماهير انتفاضة تشرين (ملف القبعات الزرق والانسحاب من ساحات التظاهر)، علما اننا ذكرنا سابقا ان المجتمع الدولي يشعر ان من الصعوبة بمكان التفاهم مع هذه الاعداد الكبيرة من الزعامات والاحزاب والتيارات والمليشيات او الفصائل المسلحة المشاركة في العملية السياسية،

لهذا هو يبحث عن صياغة مفهوم مثلث الحكم في العراق، بايجاد ثلاث قوى كبيرة قادرة على السيطرة على مقاعد الرئاسات الثلاث، وادارة الدولة بطريقة اقرب الى الديمقراطية المقيدة بتلك الاضلاع

(ثلاث كتل كبيرة الاولى تمثل الشيعة ، والثانية العرب السنة ، والثالثة الكرد)، ومن هنا نرى ان شدة وصلابة اعتراض وموقف القوى الشيعية المحسوبة على ايران لايعد امرا هينا،

لانهم ادرى بشعاب مايسمى بالمؤامرة(ولهذا يرددون ان رئيس الوزراء المنتهية ولايته الكاظمي هو احد صناع هذه الازمة، واساس حياكة المؤامرة التي يراد لها ان تحل الحشد الشعبي والفصائل المسلحة وابعاد قادتها)، مع ان الملف عاد الى دائرة التهدئة داخليا وخارجيا، وقد يرجع الى المربع الاول في تشكيل الحكومة اي الى المحاصصة والتوافق ونقاط الحسبة الاولى(اي كل وزارة تقابل عدد مقاعد الكتلة المقسمة على مفاصل الرئاسات الثلاث) ....

العراق يسير نحو الهاوية، ولا توجد اية محاولات سياسية او شعبية وطنية جادة للانقاذ، قادرة على اصلاح  العملية السياسية برمتها (كما ذكرنا في مقالات سابقة حول ماحصل في تجربة السيسي ، واسقاط حكم الاخوان في مصر)، والابتعاد عن تكرار سيناريو التجربة الفاشلة في لبنان(حكومة الطوائف والاقليات)، ولعل البلاد مفتوحة مع سوريا على احتمالات اعادة ترتيب تلك المنطقة (سايكس بيكو2 )، بعد ان تم اعادة توزيع الادوار للقوى العظمى (انسحاب امريكا من افغانستان، والتردد في البقاء او الخروج من الخليج العربي،  والاتجاه الى مواجهة روسيا والصين اقتصاديا وبحريا، كما في ملفات بحر الصين الجنوبي وازمة هونغ كونغ)، واعطاء الدور الاكبر في الشرق الاوسط لفرنسا (والاتحاد الاوربي)وبريطانيا، مع السماح ايضا بالتمدد الروسي الصيني في المنطقة، وفق اليات لعبة الحرب الباردة الجديدة....

تحويل العراق والمنطقة الى حقول تجارب امبريالية، ومراكز تجارية اقرب للمضاربة والتنافس غير المشروع للهيمنة على موارد تلك الدول، بعد ان اصبحت الشركات الاستثمارية الرأسمالية العملاقة هي من يقود او يتصدر طبقة النخبة الديمقراطية العالمية الحديثة، وبات بعضهم يتحدث عن العلوم والاكتشافات المستقبلية، ويتنبأ بالاوبئة والامراض واللقاحات ، ومقترحات التحكم التكنولوجي بعقول البشر، حيث اقتحم قسم منها اغلب المجالات الحيوية العلمية، بما فيها رحلات الاستكشاف والبعثات الفضائية، وكأن العالم تحول الى ضيعة بعد ان كان قرية كونية، هذه الفوضى الخلاقة اوالمتوحشة هي جاءت لاستعباد الشعوب، عادت بعد جائحة كورونا الى موطن اصحابها، كالقيود والشروط والتحكم الشخصي بحركات الافراد والمجتمع، واحكام قبضة المراقبة والمتابعة الالكترونية على المواطنين، الا ان الصور البشعة التي رافقت الانسحاب الامريكي الفوضوي من افغانستان، تعطي انطباعا مخيفا عن ما تنتظره شعوب ودول حقول التجارب من ماسي اخرى، نتيجة العنف والاضطرابات والنزاعات المحلية والاقليمية ، وما تفعله ماكينات مافيات الفساد الطاحنة لفقراء تلك الدول وطبقاتها المتوسطة...

ان نسبة المشاركة القليلة المتوقعة في تلك الانتخابات، ادت الى اضافة اخفاق كبير اخر الى قائمة معاول تهديم اركان وهيبة الدولة، وهو استمرار لحالة الفساد والفشل السياسي والمالي والاداري العام، سجل بكل وضوح عجز الطبقة السياسية الحاكمة عن اجتثاث افة الانهيار البطيء، التي بدأت تدخل وتخترق كل مفاصل الدولة والمجتمع، فمع وجود الارهاب الداعشي والفصائل المسلحة وقوى الانفصال

(العربي السني والكردي)، هناك قوى تخريبية لايقل خطرها وتأثيرها عن عصابات الجريمة المنظمة، هي العشائر الضالة التي تمسك بسلاح الابتزاز والتهديد واخذ الاتاوات وحماية المسؤولين الفاسدين (اضافة الى السيطرة على بعض المنافذ الحدودية وخطوط التهريب وتجارة الممنوعات والمخدرات، والانخراط في صفوف بعض المليشيات لتنفيذ جرائم النهب والسلب الخ.)، هذه المقدمات الكارثية تضع العراق في طابور الدولة العربية الفاشلة

(لبنان ليبيا اليمن سوريا وقد تلحق بها دول اخرى كالسودان)، الذي يخدم جميع مصالح الدول المجاورة والاقليمية او القوى الاستعمارية العظمى، لان التحكم بالقوى السياسية الفاسدة لايحتاج الى الكثير من العناء، مجرد ان تنتهي الانتخابات الشكلية تبدأ محاولات او مرحلة شراء ذمم بعض النواب الجدد، وللحقيقة نقول ان الشعوب العربية غير مهيأة بشكل كامل للانظمة الديمقراطية الحديثة،

لانها تمتلك خزين هائل من الازمات والتوترات والحاجات النفسية والغرائزية والانقسامات الداخلية(الاثنية والطائفية والعرقية والجغرافية الخ.)، وتفتقر الى التعريف والقناعة العامة والاعتقاد السائد للهوية الوطنية الجامعة او الموحدة لدولة الامة،

وهي حالات شاذة على مستوى الامم والدول، فمع الاقرار بوجود فساد مالي في اغلب دول العالم، لكن لاتوجد نخب سياسية وطنية صالحة او فاسدة فيها تخضع بلدانها للمراهنة والفساد الدولي المشاع،

او تتعمد اهانة الامة او الشعب وتخريب البنى التحتية وتعطيل المشاريع الاستراتيجية او تقديم بلدانها بصورة قبيحة وسيئة ومتخلفة

(تبدأ من الاجواء او البيئة ، ومن مطار الدولة نزولا الى الشوارع والاسواق والازقة والعشوائيات ونقص الخدمات وصولا الى قوافل الهجرات غير الشرعية الهائمة في البحار وحدود دول اوربا الشرقية)،

من هنا نؤكد الى ضرورة التدرج والاعتدال في تطبيق التجارب الديمقراطية في بلداننا، وان تصاغ بطريقة احترافية هي اقرب الى التجربة الروسية او التركية وحتى الايرانية،

بايجاد صيغة وطنية جامعة،  بتشكيل مجلس للسيادة الوطنية العليا (على غرار تجربة مجلس الشيوخ الامريكي او مجلس للنخب والخبرات والكفاءات الوطنية)، يكون احد الحلقات او الاذرع الرئيسية لاكمال مشروع بناء النظام الديمقراطي العربي (اي الذي يأخذ في حساباته الاديان والتاريخ والموروث والطوائف والاثنيات، وتركيبة المجتمعات القبلية والعشائرية)، فنهضة الشعوب العربية وتقدمها لاتأتي عن طريق الشعارات والزعامات والافكار المستوردة الجاهزة، فهناك اسس وقواعد واثار سلبية متجذرة في المجتمع، بحاجة الى دراسة وتحليل ومراجعة ، منه مايتعلق بحقوق المرأة وضرورة اندماجها بالحياة السياسية والعملية للمجتمع، والايمان فعليا بأنها نصف المجتمع، ومايتعلق بثقافة الانسنة والاخلاقيات او المبادئ والقيم المشوهة، وتنقية التراث الملوث بالعنف والخرافات او الاكاذيب والاساطير والعادات البالية الخ.

الطريق الى الهاوية مستمر والشعب عليه واجب تاريخي شرعي واخلاقي في ان يكون في حالة ثورة وانتفاضة دائمة ضد الفساد والانحراف والتخريب ،

ومنع ملف بيع الدولة او تقسيمها وتقديمها على طبق من ذهب لمن يدفع اكثر، عبر الاصرار على اجراء التعديلات الدستورية المصيرية، وتشكيل لجان وطنية ثورية وقضائية عالية المستوى لمحاسبة الطبقة السياسية الفاسدة،  ولاستعادة ثروات الشعب المنهوبة، والعودة الى المسار الديمقراطي الوطني الدستوي الصحيح.....

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم