صحيفة المثقف

ضياء نافع: ماياكوفسكي وغوغول

ضياء نافعماياكوفسكي (1893- 1930) ابن الثلث الاوّل من القرن العشرين في روسيا السوفيتية بلينينها وستالينها وثورة اكتوبرها عام 1917، التي (هزّت العالم في عشرة أيام!)، أمّا غوغول (1809 – 1852) فانه ابن النصف الاوّل من القرن التاسع عشر في روسيا الامبراطورية بقياصرتها واحداثها الهائلة والجسام ايضا، ولكن تلك الاحداث وحتى اسماء القياصرة في الامبراطورية الروسية تكاد ان تكون منسية في الوقت الحاضر حتى من قبل المواطنين الروس انفسهم، وغير المعروفة اصلا للكثيرين منّا، نحن العرب، (كنت اتحدّث مرة مع أحد الزملاء العراقيين، الذين (يعشقون صياغة النظريات !!!) عن هجوم نابليون على روسيا، فقال لي مصححا معلوماتي وساخرا طبعا – هتلر هجم على روسيا يا استاذ وليس نابليون!!!) .

ونظرا لهذه الاختلافات الهائلة بين غوغول وماياكوفسكي، لم اخطط (ولم افكّر ايضا) ان اكتب عنهما معا لأنهما – حسب رأي الشخصي عندئذ -  بعيدين تماما عن بعضهما البعض في الزمن وفي المواقف الفكرية تجاه الاحداث التي احاطتهما وكتبا عنها في نتاجهما الابداعي، اذ لا علاقة بين شاعر يمجّد ثورة اكتوبر الاشتراكية وزعيمها في القرن العشرين مع مؤلف الرواية القصيرة (المعطف) او مسرحية (المفتش) في القرن التاسع عشر، ولكني اطلعت – قبل فترة قصيرة جدا - على بحث علمي بالروسية بقلم هاركوف ف. غ. وهو باحث من الجامعة التقنية في مدينة  فينيتسا الاوكرانية، وعنوان البحث المذكور هو – ماياكوفسكي وغوغول، واندهشت جدا (حتى عندما كنت  أقرأ  سطوره الاولى)، حيث يشير الباحث الى بعض الارقام المثيرة والغريبة فعلا بالنسبة لي، ومنها مثلا، ان هناك (39) نتاجا لماياكوفسكي ترتبط (بشكل او بآخر) باسم غوغول وابداعه، وان ماياكوفسكي ذكر في نتاجاته الادبية (14) عملا من ابداعات غوغول، وأشار الباحث ايضا الى ان ماياكوفسكي وجماعته (الفوتوريستي)، اي انصار الاتجاه الفني الادبي (فوتوريزم – المستقبلية) في روسيا، الذين قرروا ان  يتخلصوا من (الادباء الكلاسيكيين) ويرموهم من (سفينة المعاصرة)، حسب عنوان بيانهم الشهير، لم يذكروا اسم غوغول بين اسماء الادباء الكلاسيكيين هؤلاء، وحتى لم (يرموه بالحجارة) كما فعلوا مع الادباء الكلاسيكيين الآخرين، ويؤكد الباحث المذكور، ان هذا الموقف المبدئي (يعني ما يعنيه!) من قبل ماياكوفسكي وجماعته، وان ذلك الموقف لم يأت  من فراغ ابدا ولم يحدث عبثا.

قرأت هذا البحث العميق (من ألفه الى يائه!) بتأمّل وهدوء، وقلت بيني وبين نفسي، كم نحتاج من الجهد والوقت كي نتعرّف (نتعرّف ليس الا) على اوليات الادب الروسي المتشعبة وتاريخه، وكم نحتاج ايضا الى جهود كبيرة اخرى للغور في اعماق هذا الادب واستيعابه .  ومن المؤكد، ان هذا المفهوم عام جدا ومنطقي جدا بالنسبة للادب العربي ايضا بمراحله العديدة، او بالنسبة لاي ادب عالمي آخر في هذا المستوى، (وتذكرّت الاحكام التي يطلقها فلان وفستان وعلّان هنا وهناك - دون اي احساس بالمسؤولية - حول الادب الروسي وشعابه واسراره، ويربطونها بمفاهيمهم السياسية البحتة،  وابتسمت بيني وبين نفسي ايضا، ابتسمت أسفا وألما على هؤلاء، الذين يطلقون هذه الاحكام المتسرعة نتيجة عدم معرفتهم الحقيقية لهذا الادب!) .

حاولت – بعد قراءة البحث - الرجوع الى بعض المصادر التي استخدمها الباحث واستند الى بعض مقاطعها (والموجودة في نهاية البحث كما تقتضي القواعد العلمية الدقيقة لكتابة مثل تلك البحوث)، فقد ادهشتني – مثلا - جملة الفنان التشكيلي الروسي الكبير ريبين  (1844- 1930)، التي ذكرها الباحث، اذ تبيّن ان ريبين كان حاضرا عندما ألقى ماياكوفسكي قصيدته الشهيرة (غيمة في سروال) لاول مرة، وقارن الفنان التشكيلي ريبين حماسة ماياكوفسكي المتدفقة بغوغول، وهي مقارنة أثارت اندهاش الحاضرين آنذاك، والتي لا زالت هكذا لحد الان، ويتطلب موقف ريبين هذا التأمّل حقا من قبل المتخصصين في تاريخ الادب الروسي، اذ ان مقارنة ريبين هذه  بحد ذاتها تعدّ موضوعا يستحق الدراسة الدقيقة، خصوصا وان ماياكوفسكي كان آنذاك في بداية طريقه الابداعي .

قائمة تلك المصادر متنوعة جدا في عالم الفكر الروسي، فهناك، على سبيل المثال وليس الحصر، اسم الكاتب الروسي أندريه بيللي (1880 – 1934) (يكتبون اسمه بيلي في بعض المصادر العربية)، الذي يستشهد به الباحث عندما تكلم عن سخرية ماياكوفسكي المريرة والضاحكة معا وكيف تذكّر بسخرية غوغول ومفهوم (الضحك عبر الدموع)، الذي يرتبط طبعا بابداع غوغول ...

ماياكوفسكي وغوغول – موضوع أصيل وجدير بالدراسة المعمقة، ويحتاج الى جهود المتخصصين العرب في تاريخ الادب الروسي ...

 

أ.د. ضياء نافع

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم