صحيفة المثقف

منى زيتون: ما بين التقييم المنطقي والتقييم العاطفي‏

منى زيتونفي حياتي العملية قمت بتقييم أوراق إجابات آلاف من الطلبة والطالبات في مراحل دراسية متعددة؛ فمنهم الطلبة الممتازون ومتوسطو المستوى الدراسي، ومنهم الطلبة البُلداء ممن لم يكتبوا إجابات وافية على أسئلة الاختبارات تضمن لهم إحراز درجات جيدة وتفي بشروط نجاحهم، وهذه الفئة الأخيرة تحديدًا كثيرًا ما كان آخر ما كتبوه في أوراق إجاباتهم شبه الفارغة هو شرح ظروفهم السيئة ورجاء مني أن أترفق بهم لأجل تلك الظروف؛ بمعنى أن أضع لهم مزيدًا من الدرجات التي لا يستحقونها لينجحوا! ولم يحدث مطلقًا أن مرت علي ورقة لطالب مُجد يكتب فيها أمثال هذه الاستعطافات لأنه ببساطة لديه ما يخاطب عقلي به، وهو إجاباته التي تظهر تحصيله المرتفع.

يقول تعالى مخاطبًا رسوله ونبيه داود عليه السلام: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص:26]. وفي الآية نهي واضح عن اتباع الهوى، وبيان لسوء عاقبة اتباعه، وأمر واضح بالحكم بالحق، وإن كان الخطاب في الآية لداود عليه السلام، فالأمر والنهي فيها عام لكل من حكّمه الله بين الناس في أي شأن. ولكن مع الأسف الشديد فإن العامة منا –خاصة- لا يتبعون هذا الأمر والنهي في حكمهم بين العباد، فتكون لهم أحكامهم العاطفية التي لا علاقة لها بالعقل والمعايير الصحيحة التي ينبغي أن يقوم عليها التقييم، والتي تختلف من موقف إلى آخر.

وما نراه من تقييم عاطفي على أسس ومعايير غير موضوعية الأمثلة عليه كثيرة، فإن صدر حكم طرد على رجل يستأجر شقة وفقًا لأحكام قانون الإيجارات القديم، والذي يؤبد عقد الإيجار ولا يزيد قيمته، وأحكامه ظالمة جائرة في حق المالك، رأينا سُذجًا يتباكون على حاله، وقد كان المالك الأحق بالتعاطف معه وقد اغتصب حقه في الانتفاع بملكه لأكثر من نصف قرن، وإن أخطأ ضعيف وجدنا من يتحيل لإلصاق خطئه بآخر، وإن أجرم مجرم سعى له بعض السعاة وتحيلوا لتبرير جريمته وخلق دوافع لها ربما تدفع عنه العقاب لأن لديه أبناء أو أم أو أب بحاجة إليه!

وفي عالم السياسة العربية نرى اتباع الهوى في أزهى صوره في الكيفية التي يقيم بها العرب المرشحين في الانتخابات، والتي لا صلة بينها وبين العقل والمنطق! ومن أكبر الأمثلة على ذلك ما رأيناه في انتخابات الرئاسة المصرية 2012م، والتي رغم ما شابها من تزوير أثر على نتيجتها الأخيرة فقد كانت تجربتنا الديمقراطية الأولى والأخيرة لاختيار حاكم عبر تاريخ مصر الطويل. في هذه الانتخابات نجد إنه من بين المرشحين الثلاثة عشر لم يتقدم أي منهم ببرنامج انتخابي حقيقي صيغت أهدافه صياغة إجرائية واضحة سوى الفريق دكتور أحمد شفيق، فكان الوحيد من بينهم الذي خاطب من له عقل من المصريين، بينما بقي بقيتهم يُنظِّرون على الناس، ويخاطبونهم خطابًا عاطفيًا، دون امتلاك أي تخطيط أو تحديد آليات للتنفيذ لما يذكرونه من أهداف عامة. وكان هذا على اختلاف توجهاتهم فلا فارق بين مرسي مرشح الإخوان وبين حمدين مرشح الناصريين!

وكان أنصار مرشح الإخوان د.محمد مرسي رحمه الله يفاخرون بأنه يحفظ كتاب الله كاملًا! وقد اجتذب هذا الأمر كثيرين إليه من بسطاء المجتمع ممن رأوا ذلك معيارًا جيدًا للحكم على صلاحه، والحقيقة أنه ربما كان معيارًا صالحًا لاختياره إمامًا للصلاة إن حان وقتها، وليس لحكم بلد بحجم مصر في القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد!

يُروى أنه في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان فتح تَسْتَر في بلاد فارس على يد أبي موسى الأشعري، ووجدوا جثمان النبي دانيال عليه السلام في تابوت، وبدنه سليم؛ فالأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن دانيال عليه السلام مات منذ قرون ولم يُدفن بعد، وبشر من يعثر عليه بالجنة. قال: "من دل على دانيال فبشروه بالجنة". وكان الذي عثر عليه رجل بسيط من عامة المسلمين، ولما بلغ الخبر الخليفة، بعث كتابًا إلى أبي موسى الأشعري يأمره فيه بأن يرسله إليه كونه رجل من أهل الجنة، وإلى هنا نجد أن خبر الرجل قد انقطع من كتب التاريخ، فلم يذكر لنا الرواة أن الخليفة عمر قد ولاه على بلد ولا استعمله على صدقات، فهو رجل من أهل الجنة وحسبه وكفى، ولا يصلح أن يلي أمرًا من أمور المسلمين.

ولكننا اليوم في عصور انحطاطنا نجد جماعة تُعرف بالإسلاميين، تقوم دعاياتها الانتخابية في البلاد العربية والإسلامية على أساس صلاح المرشح الديني، وليس على معايير كفاءة حقيقية تختص بحُسن قيامه بالمهام التي يترشح ليؤديها، والأدهى والأمر أن يظهر بعد ذلك في أحايين كثيرة أن هذا الصلاح في أمور الدين متوهم وأن بعض مرشحيهم منافقون أفاقون!

وقد وصل الإسلاميون إلى الحكم من خلال وزارات في دول عربية ملكية؛ وهي المغرب والأردن، ولم يلمس مواطنو الدولتين تحسنًا في ظروفهم المعيشية، وبقي مواطنوهم ومنهم مؤيدوهم يحلمون بالهجرة، ومن المضحكات المبكيات التي حُكيت لي أن رجلًا مغربيًا يعيش في ألمانيا كان شديد التأييد للإسلاميين في بلده، حتى أنه يتخاصم مع أقربائه وأصدقائه ممن يعزفون عن انتخابهم لعدم اقتناعهم بقدراتهم على إحداث تغيير إيجابي في المجتمع، ويعظم الخطب عليه إن علم أنهم سيرشحون امرأة، حتى قال له أحد أقربائه يومًا: طالما يعجبك الإسلاميون فلنتبادل، ولتعد هنا لتتمتع بالنعيم الذي خلقوه لنا، ونذهب مكانك، ثم ما بالك تلعن من يرشح النساء وأنت مقيم في بلد تحكمه امرأة!

وطوال السنة التي حكم فيها د.محمد مرسي مصر لم تظهر منه أي خطوات على الطريق تدل على أنه تحرك شبرًا نحو الهدف الذي ادعى أنه يأمل أن يصل بمصر إليه، فلا تغيير في السياسة الخارجية أو الاقتصاد أو التعليم، ولا حتى بانت منه نية أنه يريد أن يحقق أو يخلق شيئًا مختلفًا عمن كانوا يحكمون حكمًا علمانيًا –على قوله-، لأنه لم يملك يومًا أي خطة لتنفيذ هدفه، بل وكانت هناك ضبابية لديه حول هذا الهدف، فهو وجماعته يريدون إرجاع عز الإسلام، والإسلام هو الحل لإصلاح المجتمع، أما عن المعنى التطبيقي لهذا الهدف على أرض الواقع وكيفية تحقق ذلك فليست لديهم أدنى فكرة عن الإجابة! ولكنه الخطاب العاطفي الساذج الذي يُوجه خاصة لاستقطاب فئة من الجماهير العربية يعجبها ويقيمون الناس على أساسه.

ويدَّعي بعضهم أن الإسلاميين قد أُفشلوا في مصر، وأنه كان هناك تعجل واضح في الحكم على أداء د.مرسي، وأن الأهداف الكبيرة لا تتحقق بين يوم وليلة، وهذا كلام عاطفي آخر مردود عليه، ولنأخذ مثالًا؛ فالسفر من القاهرة وصولًا إلى أسوان في جنوب مصر سفر طويل ولا شك، ولكنه يمر بمحطات، ووصولك لمحطة تلو الأخرى على الطريق دليل على تقدمك نحو هدفك، فإن كان المفترض أن تبدأ الحركة من منزلك في العاشرة صباحًا، فالمفترض أيضًا أن أتصل بك بعد ساعات لأجدك في الفيوم، وإن كانت أعطالًا قد حدثت لك فعلى الأقل يمكن أن تكون قد تجاوزت الجيزة، ولكن ليس من المنطقي أن أتصل بك لأسألك أين أنت فتخبرني أنك لا زلت في المنزل، ثم أعاود الاتصال بك بعدها بمدة لتخبرني أنك لا زلت في المنزل، وتريد أن تقنعني أنك حقًا تريد التوجه إلى أسوان! ثم أعلم بعدها أنك في استراحة على طريق الإسكندرية لأتأكد أنك تسير في اتجاه مخالف تمامًا لما ادعيت أنه وجهتك!

لقد خلقوا للدكتور مرسي هالة حوله لنفخ صورته وتعظيمها أمام الناس، خاصة غير المصريين، حتى بات من يعرفونه على الحقيقة لا يصدقون أن هذا الرجل البسيط يستحق كل هذا القدر من التعظيم وكأنه الخليفة المنتظر! وهي هالة سبق خلقها حول أردوغان بلا أدنى مبرر غير تصريحات جوفاء وسلوكيات لا قيمة لها تخرج منه وتصدر عنه من آنٍ لآخر.

والإشكالية التي تتسبب في نجاح هذا الشكل من أشكال الخطابات العاطفية مع فئة من الجماهير أن بعض السفهاء ممن يوجهونهم فكريًا أفهموهم أن عودة مجد وعز المسلمين في أن يكون لهم جميعًا حاكم واحد! علمًا بأن العصر الذهبي للإسلام لم يكن المسلمون فيه دولة واحدة، بل كانت هناك ثلاث دول كبرى تدعي كل منها مسمى الخلافة؛ فكانت الدولة العباسية ومركزها العراق، والدولة الفاطمية ومركزها مصر، والدولة الأموية ومركزها الأندلس.

وإن كانت أوروبا قد اتحدت في العصر الحديث، فاتحادها كان عقلانيًا يراعي المصالح، فتأشيرة واحدة تُعطى لزيارة دولها مجتمعة، ولهم برلمان واحد لدراسة شئونهم المشتركة، ولكن لا يوجد عاقل يقر أن تقوم حكومة واحدة على خدمة كل هؤلاء الملايين من البشر، وهذا هو حكم العقل وليس حكم العاطفة. ومثله كان اتحاد الولايات المتحدة الأمريكية، وفي العالم العربي طبق الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله النظام الاتحادي الفيدرالي في دولة الإمارات، ويعد أكثر الأنظمة العربية التي حققت رفاهية ورخاء لمواطنيها، بغض النظر عن عدم اقتناعي بكثير من المواقف السياسية التي كانت من البلد من بعد وفاة الشيخ زايد.

ولكن للحق فإن من يرغب أن يستمع إلى نموذج ممتاز للخطاب العاطفي فعليه بفقرة من فقرات خطب السيسي، وهو يحدثنا عن الإنجازات التي يتوهم أنه حققها! ثم وهو يحدثنا عن سد النهضة ويطمئننا بشأنه! متجاوزًا احتمال مرور مصر بشدة أكثر كارثية من الشدة المستنصرية، علمًا بأن المستنصر بالله الفاطمي كان بريئًا من أي اتهام يتعلق بأسباب الشدة في زمنه، فقد كان قضاء الله وانخفاض منسوب النيل لسنوات سبع، ولم تكن مصر قد تعافت من آثار الشدة العظمى التي سبقتها، واستمرت ثماني سنوات، ثم إن المستنصر بالله لم يكن يعيش في الرفاه ويبني القصور تاركًا الشعب في شدته، بل كان في أسوأ حال وقتها هو الآخر وفقًا لما رواه المؤرخون.

وقد ذكرت في مقال سابق إن السيسي يتبادل تقمص شخصيتي الخديو إسماعيل والرئيس السادات، وهو بنفسه من حكى عن التقشف الذي عاش فيه سنوات، وأحسبه حقيقيًا بسبب كارثة مالية وضع نفسه فيها، فشخصية إسماعيل تقنعه أن الديون التي يخلقها بسفهه لها ما يبررها، وشخصية السادات ترحمه من جلد الذات وتشعره بأنه ناجح في التفاوض وقادر على اتخاذ قرارات جريئة لا يتفهمها كثيرون! ولكن الأسوأ من الخطاب العاطفي للسيسي هو التقييم العاطفي لمؤيديه ممن عدموا العقول، فلا يرون ما جرته علينا خيبته الواضحة في الإدارة.

وعلى العكس تكون الثقافة الغربية، فهم أقرب لتحكيم العقل منا، وفي أثناء الحرب التي شنتها قوات التحالف الأمريكية البريطانية عام 2003م لإسقاط نظام صدام حسين، كان يتولى حقيبة وزارة الإعلام العراقية الوزير محمد سعيد الصحاف، وكان يخرج علينا ليلقي بيانات ويجيب عن أسئلة الصحفيين ويتوعد قوات التحالف، فلما سقطت بغداد اختبأ ضمن من اختبأ من رجال النظام العراقي، إلى أن صرح الأمريكان أن الصحاف ليس من المسئولين العراقيين المطلوبين لدى قوات التحالف، فهو وفقًا للتقييم المنطقي رجل ظريف ولا يشكل أي خطر عليهم! فسلم نفسه وأفرجوا عنه مباشرة ولم يمسوه بسوء رغم سبه لهم! بينما لو كانوا استخدموا التقييم العاطفي لكان الصحاف أول من بحثت عنه قوات التحالف لقتله. وهذا ليس تبريرًا للحرب التي شنتها أمريكا وبريطانيا على العراق، بل هي كلمة لبيان إلى أي درجة لا يتفاهم هؤلاء القوم إلا بلغة العقل والمصالح، ولا يعرفون غيرها، وهذا سر نجاحهم. وإن كنا قد رأينا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة 2020م كثيرًا من الحوادث التي تؤكد أن لوثة التقييم العاطفي أصابت فئة لا بأس بها منهم، وهل هناك عاقل يمكنه أن يقتنع ببهلوان مثل دونالد ترامب!

 

د. منى زيتون

الخميس 4 نوفمبر 2021

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم