صحيفة المثقف

ثامر الحاج امين: رؤساء لكن شعراء

ثامر الحاج امينظلت العلاقة بين السياسة والأدب علاقة شائكة لم تشهد الانسجام يوما عبر تاريخ طويل من التجارب القديمة والحديثة، فالسياسة والأدب عالمان متناقضان، في عالم السياسة تسود القسوة والمكر والحسد والتنافس غير المشروع بينما الأدب عالم ثري بالمشاعر والأحاسيس المرهفة والاحلام البريئة والطموح نحو اشاعة الجمال والبهجة في نفوس الاخرين، وبالتالي فمن النادر ان يسود الصفاء والوئام هذين العالمين وان يجتمعا في شخص وآن واحد .

ذاكرتنا تحتفظ بأسماء العديد من المواهب الابداعية التي تحطمت على صخرة السياسة وذهبت ضحية الاحلام الكبيرة التي حملتها هذه المواهب عند دخولها عالم السياسية  ولعل الشاعر المتنبي (303 ــ 354 هـ) واحد من أبرز الذين ذهبوا ضحية هذا الطموح، فقد سعى بشكل حثيث الى ارضاء سيف الدولة فقضى سنين في مدحه ونال مكانة رفيعة في بلاطه الا ان طموحه كان اكبر من هذا مما اوغر عليه قلوب حساده فكثر كارهوه وفي الأخير انتهى به الحال قتيلا على يد رجل نكره، وتحدثنا كتب التاريخ عن الشخصيات التي جمعت بين الرئاسة والشعر من بينها الخليفة الأموي الثاني (يزيد بن معاوية بن ابي سفيان 25 ــ 64 هـ) الذي ارتبط اسمه بأحداث تاريخية اصطبغت بالدم رافقت سنوات حكمه الثلاث وابرزها واقعتا الطف والحرة حيث تنسب لهذا الخليفة اشعار رقيقة وعذبة لا تتلاءم مع تاريخه الذي عرف بالقسوة والدموية لكن المصادر تؤكد صحة انتسابها اليه وتعتبره من الشعراء الأفذاذ، ففي الغزل تنسب له قصيدة (أصابك عشق أم رُميت بأسهم) التي تمتاز ببلاغة مرموقة وغنائية عالية قالها في جارية غاية في الجمال حيث وصفها كيانا وروحاً جاء فيها:

مهذبة الألفاظ مكية الحشا

حجازيـة العينيـن طائيـة الفـم

لها حكم لقمان وصـورة يوسـف

ونغمـة داوود وعـفـة مـريـم

أغار عليهـا مـن أبيهـا وأمهـا

ومن لجة المسواك إن دار في الفـم

أغار على أعطافهـا مـن ثيابهـا

إذا ألبستهـا فـوق جسـم منـعـم

لقد طغت سياسة يزيد القمعية التي ساق بها الرعية والأحداث التي جرت في فترة حكمه على شاعريته فلا يكاد يُذكر يزيد شاعرا الا في كتب المؤرخين .

بعده جاء المعتمد بن عباد (431 ـ 488 هـ) وهو آخر ملوك بني عباد في الاندلس وحاول الجمع بين الخلافة والشعر فكان يقضي الكثير من وقته بمجالسة الشعراء وقد ازدهرت اشبيلية في عهده ثقافيا وعمرانيا لكنه في الأخير انتهت مغامراته في ضريح منسي في مراكش نتيجة الدسائس التي حيكت له من قبل الحاسدين والناقمين على جمعه بين هاتين النعمتين .

أما الخليفة العباسي الشاعر (المستنجد بالله) فهو الآخر لم تشفع له عدالته التي سار فيها بالرعية  في التوفيق بين هاتين المهمتين فقد وصفه ابن الأثير في كتابه " الكامل في التاريخ " بأنه من أحسن الخلفاء سيرة مع الرعية، عادلا فيهم كثير الرفق بهم، وكان في نفس الوقت شديد على أهل الفساد والعبث، ويذكر انه قبض على انسان يؤذي الناس فأطال حبسه، فشفع له احد المقربين منه عارضا عشرة آلاف دينار مقابل اطلاق سراحه فقال له الخليفة " انا اعطيك عشرة آلاف وتحضر لي انسانا آخر مثله لأكف شره عن الناس ولم يطلقه، هذا الخليفة جمع بين العدل والحزم في الادارة وبين كتابة الشعر فهو القائل في الغزل البيتين من الشعر اللذين طبقا الآفاق شهرة ووصلا الى ساحة الغناء حيث صدحت بهما حنجرة المطرب ناظم الغزالي:

عيرتني بالشيب وهو وقار .. ليتها عيرت بما هو عار

ان تك شابت الذوائب مني .. فالليالي تزينها الأقمار

أما من الشعراء المعاصرين فالشاعر بابلو نيرودا الحائز جائزة نوبل كاد يصل الى منصب رئاسة الدولة ذلك انه ترشح لرئاسة تشيلي لكنه سحب ترشحه بعد شهور من المنافسة الصعبة في الحملات الانتخابية من اجل دعم مرشح الوحدة الشعبية سلفادور الليندي حيث جاء في خطاب حملته الانتخابية  رغبته في الجمع  بين الشعر وادارة الدولة  (كنت ولاأزال أعتقد بأن واجبي هو خدمة شعب تشيلي بأفعالي وبقصائدي. عشت وأنا أغني لهم، وأدافع عنهما) .

ولكن لكل قاعدة استثناء فالرئيس والشاعر (سنغور 1906 ــ 2001) الذي تولى رئاسة السنغال بعد استقلالها عن فرنسا عام 1960 جمع بين السياسة والأدب وتمكن من الحفاظ على التوازن بين الشعر والرئاسة التي تجاوزت العقدين من الزمن فلم تتوقف فيه كينونة الشاعر ولم تمح فيه هذه الصفة سنوات رئاسته و(بلغ به الوفاء  لسنغور الشاعر ان يتخلى عن السلطة قبل ان تفكر في التخلي عنه فبقي شامخا في الأذهان والوجدان لأنه عرف كيف يخرج بمثل الهيبة التي دخل بها عالم السلطة) فقد تنازل عن طواعية عن السلطة وتركها ليتفرغ للأدب بعد عقدين قضاهما في حكم السنغال، في أحد الأيام سئل الرئيس السنغالي الراحل سنغور عن الخيار الذي ينحاز إليه، بين أن يكون سياسياً أو أستاذاً جامعياً أو شاعراً، فأجاب: "أختار قصائدي، ففيها الجوهري." هكذا أدار ظهره لامتيازات السلطة والاستاذية في الجامعة وظل مخلصا للشعر يدعو بقصائده الحرية لأفريقيا وللعالم أجمع.

 

ثامر الحاج امين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم