صحيفة المثقف

قاسم حسين صالح: التحولات في بنية المجتمع العراقي خلال قرن (4)

قاسم حسين صالحلمناسبة مئوية الدولة العراقية

تناولنا في الحلقات الثلاث ما حصل من تحولات في بنية المجتمع العراقي من سنة تأسيس الدولة العراقية(1921) الى عام (2003) .. نستكملها الآن لغاية 2021 مع استنتاجات ختامية.

التحولات الأخطر زمن الطائفية - استطلاع رأي

من عادتي انني استطلع آراء الأكاديميين والمثقفين والاعلاميين في الظواهر الاجتماعية.وكنت دعيت في (27آب 2018)من (دار معنى) لألقاء محاضرة بعنوان (الشخصية العراقية من السومرية الى الطائفية) فتوجهت بهذا السؤال:

ما الذي حصل للشخصية العراقية في زمن الطائفية؟

اليكم نماذج من الاجابات:

د. هيثم هادي نعمان الهيتي: الشخصية العراقية بزمن السومرية كانت تعّبر عن الحضارة الانسانية اما في زمن الطائفية فتعّبر عن الولاء الضيق والمتخلف، والتساؤل كيف تحولت عبر التاريخ؟

سلام السعدي: اصبحت بلا هوية وطنية وافتقدت روح المواطنة وصارت فقيرة اجتماعيا وحاقدة وانانية.

نورسل قوشجي زاده: لم تحصل غير المذلّة والاهانة وتفتيت الشعب بوسائل العنف والقسوة، ولم يبق من قيمة المواطنة غير انتظار الموت البطيء.

علي الخزاعي: تعيش سلسلة ازمات وضغوط وصراعاً مستديما بسبب غياب الهوية الوطنية، وبروز هويات نفعية اقترنت بالضعف والتشرذم لتؤسس حالة اغتراب مدعومة بالفوضى واللا معنى.

د.عبد الكريم الموزان: لا عجب، لأنها وليدة الشخصية البدوية العربية الجاهلية العليلة.

الشيخ المستشار ماجد البديري: انهكتها الحروب والحصار والحرمان، فسهل تشويه منظومتها القيمية، والاخطر انحراف رموز دينية وعشائرية ونخبوية وانغماسها بالفساد المادي والاخلاقي.

رغد السهيل: تعرّت وظهرت على حقيقتها، وتوالت عليها الحروب لتعريها اكثر لتصبح شخصية متناقضة لاتستقر على حال.

عبد العزيزججو: طحنت بالفقر لحد الموت جوعاً، وتساوى عندها الحياة والموت، وانخفضت مقومات القيم الانسانية كالمرؤة والصداقة، وجعلت العراقي متقوقعاً على نفسه.

د.علي نفل: اصبحت انانية متمركزة على الذات وفاقدة للامان، مندفعة نحو مغريات الحياة وتحقيق الاحلام بأية طريقة وكأن الحياة مقامرة كبرى.

عباس الأسدي: وصف الشخصية العراقية بمختلف الاوصاف السلبية( تجني)، فنحن منها واليها، وفينا من لم يتمترس بطائفة او جهة او عنوان.

عمر الامين: الشخصية العراقية مسخت وتم تشويهها ببرنامج علمي مدروس ابتدأ بفرض الحصار صعوداً الى مرحلة نهب مؤسسات الدولة في 2003 وصولاً الى تنمية الحس المذهبي وابراز مظلومية فئة وتحميل الاخرى من حيث لا تعلم هذه المظلومية، وانتهاءا بتشكيل حكومات بنيت على اسـس طائفية من قبل تجار ازمات ومتلاعبين بمشاعر الشعب.

سبتي المخزومي: انقلاب على الذات، متناقضة تدعي التدين لكنها تسرق، تدعو الى الفضيلة لكنها تفعل الفواحش، ساستها هم الاسوأ.. معممون في الداخل لكن اغلبهم رواد ملاهي وحانات في الخارج.

سعد فتح الله: الشخصية العراقية مشوهة منذ بدء الحياة على الارض.الآف الانبياء والرسل ارسلوا لهذه الكائنات ولم يغيروا مافي انفسهم.هل تجيبني الى من ترسل الرسل؟ لماذا لم يرسلوا الى اوروبا والصين مثلاً؟.هي الطينة فاسدة اصلاً.

وجهة نظر

نبدأ وجهة نظرنا بتقديم نظرية عراقية في الشخصية نصوغها بالآتي:

(تتغير الشخصية عبر الزمن وعبر المواقف، وللنظام السياسي الدور الرئيس في هذا التغيير).

كان الاستقلال السياسي(1921) قد نقل المجتمع العراقي من الحالة البدوية والريفية الى الحضرية، فتحولت الشخصية العراقية الى حدّية (marginal personality)، بداخلها رواسب قيمية ريفية، وظاهرها قيم حضرية (علاقات سطحية، استهلاك مظهري، نفاق اجتماعي.. ) وعاشت حالة تناقض بين افكار حضرية ورواسب ريفية متخلفة، غلبت عليها الهوية العشائرية، العرقية، المناطقية.. استمرت عليها الى 2003.

ويعزى السبب الى ان جميع انظمة الحكم (ملكية، جمهورية، عسكرية، شمولية، دكتاتورية، طائفية) اعتمدت الولاء للحاكم الفرد واسرته واقاربه وابناء منطقته، واستهداف الحكاّم تنشئة الاطفال بالولاء لهم وليس للوطن، وبينهم من ساوى بين شخصه والوطن (صدام هو العراق- انموذجا)، والغاء الرأي الاخر من اجل تحميد وتمجيد وتجميل وتعظيم صورة الحاكم على حساب الصورة الوطنية العراقية.. والمفارقة، ان الحاكم العراقي لم يستفد من اخطاء الذين سبقوه في الحكم ونهاياتهم الكارثية.

زمن الطائفية

في زمن الحكم السياسي الطائفي، استعادت (ش.ع) بقوة ممارسة ما تطبعت به من طبائع التعصب والتحيز والتطرف وعدم احترام الرأي الاخر، وزاد عليها غلبة التفكير الخرافي والقدري والدوغماتي(الانغلاق الفكري)في تعاملها مع مشاكلها الحياتية.وصارت تعيش بداخلها حالة خوف من المجهول مصحوبة بتملق او خنوع للحاكم الطائفي.. والأخطر سياسيا فقدانها لعراقيتها الوطنية وخضوعها لتعزيزالحكّام الطائفيين: التعصب للهويات الفرعية، الطائفية، العرقية، العشائرية، المناطقية، الذي كان موجودا فيها قبل التغيير 2003، لكن اعراضه ما كانت حادة.. الى انفجاره عام 2005 بعنوان جديد هو صراع الهويات.

وأخلاقيا، تتصف الشخصية العراقية بالتزامها بالعبادات (صلاة، صوم.. ) ولا تلتزم بالقيم الدينية كالصدق وقول الحق، غير انها كانت تمارسه على استحياء فيما صارت تمارسه علنا زمن الطائفية. والسبب، أن الحكومة والبرلمان، اشاعا فسادا فاحشا وصيّروه من فعل كان يعدّ حراما الى شطارة وانتهاز فرصة، والأقبح: تبادل اتهامات الفساد بين معممين، وتناقض افعال مسؤولين (دينيين) في السلطة مع اقوالهم، اوصلت العراقي لحوار داخلي: (اذا اهل الدين " القدوة" ما ملتزمين بالقيم الدينية فما الذي يدعوني الى الالتزام بها وقد ضاقت بنا السبل).. نجم عنها انها (خدّرت) الضمير الاخلاقي فشاع لديها الكذب، النفاق، التزلف، واللاحياء.

والكارثة الأخلاقية أن احزاب الاسلام السياسي التي تعتمد الاسلام عقيدة ومنهجا، فاقت جرائم الفساد في زمن توليها السلطة اضعاف ما كانت عليه زمن الانظمة الدكتاتورية، واوصلت الناس الى أن يتداولوا بسخرية مرّة: كان لدينا علي بابا واحد واربعون حرامي فصاروا الآن أربعين علي بابا وألاف الحرامية، وكان لدينا طلفاح واحد فصار عندنا الآن مئات الطلافيح.

وسيكولوجيا، تولدت لدى حكّام السلطة وقادة احزاب الاسلام السياسي قناعة بأنهم استعبدوا الناس روحيا، وانهم في حوارهم الداخلي يقولون لهم: تتظاهرون ضدنا، ترفوضننا، تشتموننا ، تتهموننا بأننا نتحدث بالعدل ونحكمكم بالظلم، ونتباهى بالأمانة ونمارس الخيانة، نعترف لكم بأننا فشلنا سياسيا.. فانكم ستبقون تنتخبوننا لأننا سادتكم وقدركم المحتوم ولا ارادة لكم حتى لو سقناكم الى جهنم، ولا تملكون من وسائل الهرب سوى انكم تغادرون حزبنا هذا الى حزبنا الآخر!. 

استنتاجات ختامية

السبب الرئيس لما حدث للعراقين من تلك التحولات عبر مئة عام يتلخص باشكالية (العلاقة بين الحاكم والمحكوم). فالغالبية المطلقة من حكّام العراق اقترنت لديهم السلطة بصفتين: السطوة.. أي البطش بالآخر حين يمتلك الحاكم المنصب والثروة والخبرة والعلاقات، والثانية: الغطرسة بأن يبيح لنفسه استخدام اقسى وسائل العنف ضد من يهدد بقاءه في السلطة.

ومع ان الحاكم في العراق ارتكب افضع القبائح (افقار الناس وكنز المليارات، والقتل والتعذيب، وافساد الضمائر.. ) فأنه يخص نفسه بالاستقامة الاخلاقية، ويعدّ نفسه مثال المتحلي بالاخلاقيات الرفيعة، وان مساءلته هي من اختصاص الله وحده وليس للشعب حق في ذلك، وهذه ناجمة من (سيكولوجيا الخليفة) التي تعني اعتقاده بأنه امتداد للخليفة.. سلطة الله في الأرض.. التي تشفرت في اللاوعي الجمعي العراقي، والعربي ايضا، عبر 1400 عاما.

اما المحكومون في العراق فانهم شهدوا في مئة عام ما لم تشهده شعوب المنطقة من أحداث متضادة، متناقضة، متطرفة.. بين خير ومحبة وسلام وفرح، وشر وكراهية وحروب وفواجع، بين فوضى وخراب واستقرار واعمار، بين فكر منفتح وفكر خرافي ودوغماتي مغلق وحول عقلي.. نجم عنه سيكولوجيا ان الغالبية المطلقة من الناس تولد لديها اليقين بأن السلطة(الحاكم) لا ترحم من يعاديها، وان السلامة منها تكون اما بالخضوع لها او على طريقة (ابعد عن الشر وغنيله) لخفض قلق وخوف تراكم عبر سنوات كانت فيه الكراهية والاحتراب الداخلي والحروب الخارجية والعوز والفواجع وتوالي الخيبات.

وبما ان اللاعب الاساسي في العملية السياسية هي الجماهير العراقية عبر الانتخابات الديمقراطية، فان مستقبل العراق مرهون باحداث تحول ثقافي يؤمن احداث وعي انتخابي لدى هذه الجماهير يمكنها من تعديل الدستوربما يضمن قيام دولة مؤسسات مدنية حديثة، وتحول سيكولوجي باشاعة التفاؤل لدى اليائسين، وشفاء المثقفين من اغتراب وتساؤلهم عن انعدام المعنى من الحياة في وطن يمتلك كل المقومات لأن يعيش اهله برفاهية.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم