صحيفة المثقف
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (239): سلطة تأويل النص في إطار الأخلاق
خاص بالمثقف: التاسعة والثلاثون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:
مرَّ الكلام عن رهان فقه الشريعة القائم على فلسفة الأحكام وتأصيل العقل مقارنة بمنهج الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية، وقدرة الأول على مواكبة الحياة والاستجابة للواقع ومتطلباته، عكسا للثاني الذي يرابط في القرون الأولى من بعثة الرسالة، يلغي الواقع وضروراته ويجرد الأحكام الشرعية من تاريخيتها. وكذا جرى الحديث عن الفارق النوعي بين اتجاه العبودية الذي يعتقد بوجود علل خفية وراء الأحكام تقتضي الانغلاق على النص والجمود على حرفيته وظاهره، والاتجاه العقلي الذي يؤكد قيام التشريع وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته وفي إطار القيم الأخلاقية، وما كان واجبا من أحكام الشريعة قد لا يكون كذلك الآن، وما كان محرّما قد يكون مباحا. الأول يرتهن شرعية الحكم لقدسيته فيمهّد لتوظيفه أيديولوجيا وسياسيا، بينما يرتهن الاتجاه الثاني شرعية الحكم لمبادئه، فيمتنع تكريسه خارج سياقات مبادئه الأخلاقية. بهذا يتضح حجم الاختلاف بين الاتجاهين وما يترتب عليهما على الصعيدين الديني والأخلاقي. والسؤال الملح عن حقيقة التعبد المطلق في الأحكام الشرعية، والعزوف عن العقل ومقتضيات الحكمة. ما هي خلفياته وفلسفته ومبرراته؟ وما هي إمكانية تجاوزه عمليا من خلال قناعة الفقهاء؟ التعبد قد يشكل خطرا على الدين عندما يغدو ذريعة بيد الفقيه للتهرب من الواقع، وأسئلته الملحة. فعندما يُسأل عن المبرر الأخلاقي لجواز التمتع بالطفلة الرضيعة وفقا لآراء بعض الفقهاء مثلا، لا يجد سوى التعبد يقمع به سؤال السائل، وقد يتعرض لحرج شديد، عندما يحكّم ضميره في المسألة. لا فرق بين فقيه وآخر إلا في مستوى الوعي. والأمثلة كثيرة.
فهل التعبد: تعبير آخر عن رهاب القداسة، بشكل يكون الورع والتقوى والحذر هو الدافع وراء حرفية النص والانغلاق على ظاهره، فتجد الاحتياط يلازم الفقيه لتفادي أي تقاطع مع مراد الشارع المقدس وفقا لتصوراته؟
- أم أن الفهم التراثي للدين يحول دون إدراك مقاصد الشريعة وغاياتها؟ فيكون الخلل في بنيته المعرفية، ورؤيته الكونية للعالم..
- أو ثمة أدلة وقرائن دالة عليه، تمنع تأويل النص والبحث عن فلسفته ومقاصده؟. وبشكل أدق أن سلطة النص التي تعني "هيمنته المعرفية، وفرض إرادته، ومحدداته"، هي التي تفرض الانغلاق عليه، من وحي رهاب القداسة وتداعياتها أم هناك سبب آخر؟
- أو الأمر يتعلق بسلطة الفقيه، فيميل لا شعوريا له؟. وبالتالي هل الانغلاق على ظاهر النص عن وعي وقصد ومعرفة أم هناك عوامل ترتبط بسلطة الفقيه ومركزيته؟.
لا ريب بوجود أسباب وراء ظاهرة الانغلاق على النص تاريخيا، بدءا من أصحاب الحديث وأهل الظاهر والسلفيين من جميع المذاهب. بعضها سكيولوجي، مرتبط بالتكوين الثقافي والنفسي للفقيه. وهناك العامل الأيديولوجي الذي يفرض على الفقيه محدداته، حداً ينأى عن موضوعيته أحيانا. إضافة لسطوة الدافع الطائفي، التي تفرض تأويل النص لتفادي أي تقاطع مع متبنياته العقدية، ولا ننسى مناهج الاستنباط والنسق العقدي للفقيه، وتغلغل قيم الاستبداد والعبودية وروح الانقياد والتبعية. غير أن سلطة الفقيه المتفرعة على سلطة تفسير النص، تعد الأهم بينها وأخطرها، وقد جرى تعتيمها واستبعادها وتهميشها، فكانت وماتزال ضمن "اللامفكر فيه" و"يحرم مقاربته والتفكير فيه"، تحت عنوان العلم والتخصص وحماية الشريعة. بل وحتى الإرادة الإلهية حاضرة، لتسلب الناس حق مساءلة الفقيه عن سلطته وقدسيته، حينما توظف الآيات بشكل مدروس كقوله تعالى: (ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)، وهي آية كما يدل سياقها خاصة بالرسل والأنبياء دون غيرهم: (وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ ۘ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ). لتوحي بشمول العناية الإلهية للفقيه مادامت المسألة متعلقة بالرسالة، والفقيه أولى لدوره العلمي، تفسيرا وتأويلا، ومن ثم استنباط الأحكام الشرعية. وهناك روايات معززة، كما في الخبر: (علماء أمتي أفضل من أنباء بني إسرائيل)، (العلماء ورثة الأنبياء). بل وأسند له الشيعة مقام نيابة الإمام المعصوم، مما يعزز قدسيته أكثر من سلطته، وربط طاعته بطاعة الإمام. وبالتالي يجب تحري سبب الانغلاق على النص وحرفيته، ومدى شرعيته ومبرراته العلمية، كي يواكب الفقه الحياة إذا أراد البقاء فاعلا، أو ينأى تحت ضغط الواقع وضروراته، وقوة اللوائح والتشريعات الوضعية، الند التشريعي للأحكام الفقهية، خاصة حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحرية المرأة والاعتراف بالآخر وحق الاختلاف وحركات التحرر من عبودية الاستبدادين الديني والسياسي. ويكفي شاهدا أفواج اللاجئين للغرب من المسلمين كافة. ويعني اللجوء فيما يعني هجرة الواقع الثقافي القديم إلى واقع ثقافي مغاير، وبيئة دستورية وقانونية، يجد فيها ذاته، ويمارس من خلالها حريته.
سلطة النص
تحدثت في كتاب: "النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات التفكير الديني"، عن المعنى الدلالي والاصطلاحي للنص، واخترت للثاني، أي النص اصطلاحا: "ما تعددت دلالاته بتعدد قراءاته وتأويلاته المحتملة". (أنظر، ص14 من الكتاب). وبالتالي ثمة فرق بين النص واللانص، رغم أن كليهما نسيج لغوي، يتكون من كلمات وجمل، ومعانٍ وألفاظ، وتراكيب لغوية، ودوال ومداليل. إلا أن النص يتصف بثراء تأويله، وقابليته للكشف عن المضمر من أنساقه.
وأما سلطة النص: فتعني هيمنته المعرفية، وفرض إرادته، ومحدداته، حينما يحتكر الحقيقة أو جزءها، ضمن آلية التفكير وانتاج المعرفة. سواء كان مضمون النص مطابقا للواقع ونفس الأمر أم لا. المهم قيمة النص لدى المتلقي، وقوة حضوره وتأثيره معرفيا. فكثير من الأوهام يتعامل معها الناس كحقائق مطلقة، تمارس سلطتها أسوة بغيرها من الحقائق، ويحتكم لها العقل. لذا فالقراءة هي التي تستفز النص، وتراكم مدلولاته. ولكل نص سلطته، مهما كان مستواها، وقدرتها على التأثير، فثمة نصوص تندحر أمام القراءات النقدية، وأخرى تصمد، وتثري بمقاومتها فعل القراءة، وفقا لشروطها وفعلية العوامل المؤثرة فيها. (المصدر نفسه). فأقصد بالنص هنا مصدري استنباط الأحكام الشرعية: القرآن والسُنة. وإذا كانت هناك سلطة للفقيه متفرعة على سلطة النص، فيقصد به خصوص النص الديني الأشمل من الكتاب والسنة وأقوال السلف والفقهاء.
الفقيه وسلطة النص
في بداية الدعوة كانت القداسة حكرا على آيات الكتاب وماتنزّل على الرسول الكريم. يكفي في قداستها انتسابها للخالق، للحق، المطلق، المتعالي، للمحيط بكل شيء: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ). ثم تسربت قداسة الكتاب لسنة النبي، باعتبارها شارحة ومبينة ومفصلة، رغم وضوح آياته وبيان مقاصده باستثناء بعض المفاهيم الميتافيزيقية. فأحكام الشريعة كانت مصداقاً لقوله: (هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ) في وضوحها وتفصيلها، وما سيرة النبي سوى تطبيق كليات الأحكام على مصاديقها. وكان المخاطب أولاً وبالذات في الآية هم الناس مباشرة، لذا يترتب الهدى ويكون موعظة للمتقين بلا وسائط. غير أن الذي حدث أن السنة حجبت الكتاب وتقدمت عليه تخصيصا وتقييدا، والرواية باتت بنظر الفقهاء تقيّد وتخصص الكتاب. وعندي أنها لا تخصص القرآن ولا تقيده، فربما تمام ملاك آياته في عمومها وإطلاقها، لا في تخصيصها وتقييدها. ولا يعد تطبيق كليات الكتاب على مصاديقها تقييدا ولا تخصيصا. وبشكل تدريجي ظهر تيار أهل الحديث الذي منع تفسير الكتاب وفهمه إلا من خلال السنة وما ورد عن صحابة النبي. وربما تشبث بقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ). وبات تفسير الأثر حجة مطلقة، ينفي ما عداه ويرميه بالانحراف والاحتكام للعقل، واجتهاد مقابل النص. بهذا الشكل بدأت تتبلور سلطة تأويل وتفسير الكتاب، التي اختص بها المفسّر والفقيه دون غيرهما، ثم تسربت قدسية النصوص المقدسة للنصوص الشارحة، وراح النص الثالث، الشارح والمفسّر، يحجب النص الثاني، أو يجعل منه مرجعا مشروطا بفهمه، وباتت الحقيقة حكرا عليه، والخلاص مقتصر على مقلديه وأتباعه. ومن له أدنى خبرة بالدراسات الدينية والحوزوية يعرف مدى انشغال الدروس العلمية بأقوال الفقهاء والسابقين من السلف، سواء أقوال الصحابة والتابعين ومن ثم أئمة الفقه بل وحتى غيرهم من الفقهاء عند المذاهب السنية، وسواء أقوال خصوص الأئمة، ومن جاء بعدهم من رواة وفقهاء عند الشيعة. وبهذا الشكل تسربت قداسة الكتاب لتشمل أقوال الفقهاء، خاصة فتاواهم، وبات احتكارهم لفهم النص مبررا ومشروعا. فتجد القرآن كنص مرجعي مستبعدا، لا يجوز مقاربته إلا من خلال نص ثالث لفقيه أو مفسر.
وبهذا الشكل تم تهميش الفرد، وكانت الضربة القاضية عندما حكم الفقيه ببطلان عمل المكلف ما لم يكن مجتهدا أو محتاطا أو مقلدا. بناء على احتكار الفقيه للحقيقة العلمية، واحتكاره لفهم النص المقدس، مهما كان واضحا بيناً. ومهما جد المكلف وبحث وتقصى الحكم من القرآن مباشرة، وعمل به دون الرجوع للفقيه، لا يكون مبرئا للذمة ما لم يقلده. وهذه إحدى تداعيات التقليد بمفهومه المتعارف. لا أدعو للفوضى، ولكل علم أدواته ومناهجه وعدته المعرفية، لكن التعسف واضح في مفهوم التقليد الذي يستبطن التنازل عن العقل عنوة لصالح فهم آخر، وفرض فهم أيديولوجي مهما كان مجافيا للقيم القرآنية والأخلاقية، كإقصاء المخالف عن مفهوم الإيمان وترتيب بعض الآثار والحقوق عليه.
يذكر أن تاجرا من شبه القارة الهندية زار من يقلده من بين الفقهاء، ووضع بين يديه تسوية حساباته المالية لعامه التجاري، لاستخراج حقوق الفقراء والمساكين أو ما يعرف بالحقوق الشرعية. أو خصوص الخمس في الفقه الشيعي، فكانت النتجية مطابقة لحسابات التاجر. فأخبر مرجعه بتسليم المبلغ لفلان العالم هناك، فأجابه الفقيه المرجع الديني: "غير مبرئ للذمة ويجب تسليمه لي شخصيا"!!!!. هذا هو الاستغلال والاضطهاد الديني. وذكر من نقل القصة أن التاجر كان يتوسل بالمرجع وهو يرفض توسلاته!!!. وسبب توسلات التاجر، هو الفهم الخاطئ لمفهوم التقليد، فهو ليس مجرد اتباع رأي الفقيه في الحكم الشرعي، بل هو طاعة وانقياد لسلطته وولايته، لارتهان قبول الأعمال بذلك!!! فلا يكفي نقاء سريرتك وصدق نواياك مع الله، وفقا لمنطق القرآن، بل أن رضا الله يمر عبر رأي الفقيه. فبات الفقيه سلطة إلهية في نظر مقلديه. بهذا الشكل يكون الانغلاق على النص وحرفيته أداة بيده لتبرير سلطته، والتحكم بإرادة الناس. خاصة عندما يكون الاجتهاد في استنباط الأحكام لطف إليهة وليس مجرد ملكة علمية.
وما كان لمنهج الجمود على ظواهر النصوص أن يسود لولا وجود خلفية ثقافية وأرضية مهّدت له، فالاجتماع الإسلامي العربي ينحدر تاريخيا عن نسيج اجتماعي يتغذى على قيم الاستبداد وتوطين الخرافة، وقد تسربت قيم العبودية تحت عنوان طاعة الله بعد اعتناقهم الدين الجديد، التي سرعان ما سرت لطاعة الخلفاء، متذرعة بوجوب طاعة أولي الأمر. غير أن روح الطاعة هي ذاتها التي تعني القابلية للاستعباد، والاستعداد لتقبلها تحت عناوين تنأى عن الصراحة.
إضافة لمنظومة مفاهيم مهدّت له. أهمها مفهوم القداسة، الذي يرادف بين تعالي النص وغيبيته وغموضه. فتعالي القرآن وقدسيته تعني انغلاقه وسحريته وماورائية مصفوفات آياته، يستبطن غير ما يظهر من معان ومفاهيم. وحاجته المستمرة لعقل معصوم ومفسّر حباه الرحمن دون غيره. لذا راحوا يبحثون فيه عن معارف لا علاقة بدائرة اهتمامه، رغم أن القرآن كتاب ديني، له لغته وبلاغته ومداليله. فتراهم كل يوم يشيعون اكتشافا جديدا من خلال آيات الكتاب. وبالتالي ثمة عقل خرافي، عقل مستقيل، يهوى اللامعقول، ويعادي العقل والعقلانية. فقيمة القرآن عنده بغموضه وخوارقه، هو الشيء الوحيد الذي يثير دهشته ويجعله يحلق في عوالم اللامعقول الديني، خاصة مع التفسير الباطني، الذي راح ينأى كل البعد عن الكتاب وقيمه وهو يختزل مصاديقه بأهل البيت كما عند غلاة الشيعة، ويخص مناوئيهم بآيات الكفر والعذاب والحرمان من رحمة الله!!!. وقد شاءت الأقدر أن استمع يوما لمعمم فسّر لنا سورة النور بالإمام الحسين على مدى ساعة ونصف، وكأن الله يخشاه ولم يصرّح باسمه!!!. فالمعرفة الدينية اليوم سجينة التراث، تتوجس من العقل وفتوحاته العظيمة، وتنأى عن العلوم الإنسانية الحديث في فهم النص، لحماية سلطة الفقيه أولا وبالذات. وخوفا من تداعي المؤسسات الدينية ثانيا. أما فقه الشريعة فيتطلب عقلا يقظا، ينقد ويراجع ويدرس الواقع، ويتحرى فلسفة الحكم، ويقف بوجه الفقيه عندما يستغل سلطته. بالتالي فتفكيك الاتجاه الأول من خلال تفكيك رؤيته الكونية للعالم ونسقه العقدي، يعد شرطا أساسا للنهضة الحضارية.
.................
يأتي في الحلقة القادمة
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه