صحيفة المثقف

عامر هشام الصفار: الأستاذ الدكتور حكمت الشعرباف، عميد كلية طب بغداد السابق

عامر هشام الصفاربعد نجاح طالب كلية الطب بدروس العلوم الأساسية في الطب من فيزياء وكيمياء حياتية وعلم أدوية  وتشريح ووظائف أعضاء وعلم أنسجة، سينتقل الى العلوم السريرية الطبية والتي هي في صلب الأختصاص وممارسة المهنة من طب الباطنية وعلوم الجراحة...وكان من النادر أن يكون أستاذك الطبيب من خريجي أميركا ومجلس دراسات البورد الأمريكي، فجل عديد أساتذة الطب العراقيين هم من خريجي الكليات الملكية البريطانية...ولكن الحال لم يكن كذلك مع أستاذ طب القلب وأمراضه وطب الجهاز التنفسي الدكتور حكمت الشعرباف الذي عاد لأرض الوطن عام 1972 حاملا شهادة البورد الأمريكي بالطب وأمراض الطب الداخلي أو الباطنية..وهكذا تعرّفتُ على الأستاذ الشعرباف في أواخر السبعينيات، وهو بقامته وهيبته وهدوئه تراه يتوسط مدرج ألقاء المحاضرات لينظر من خلال عدسات نظارته الى ما يقرب من 300 طالبة وطالب، فيبتسم محييا أياهم، وليبدأ في الوقت المحدد محاضرته التي لا يمكن لك أن تمّل منها، ولو أنك في ذاك الزمان كنتَ حريصا على أن تسجلها كلها مكتوبة على أوراق رتبتها في ملف خاص بدروس الطب الداخلي أو الباطنية...

ثم أنكَ قد لاحظت أن الأستاذ له لغته العربية السليمة والتي يتحدث فيها مع بعض طلبته بعد ألقائه المحاضرة بالأنكليزية.. وهكذا عرفتُ أن الدكتور حكمت أنما هو سليل عائلة كان لعميدها الحاج حسين الشعرباف مجلسه الثقافي في مدينة الشطرة بمحافظة الناصرية العراقية..وقد تحدث عن ذلك ببعض التفصيل الدكتور الراحل العلامة المعروف حسين علي محفوظ في تقديمه لكتاب د. سلمان القيسي والمعنون ب "من حديث المجالس الأدبية والمنتديات الثقافية في بغداد"..وقد جاء في الكتاب: أن المجالس تزين البيوت والمنازل في الليالي والأماسي وفي أيام الجمع. وكانت مجامع تجمع الأفاضل والأماثل والعلماء والأدباء والشعراء والظرفاء، يرتادها الأعالي والأكابر وينتجعها السراة والأخاير، ويلتقي فيها الكبراء والأعزة، يؤلف بينهم الأدب وتشدهم الثقافة ويربطهم الفكر على أختلاف الأديان والمذاهب والمشارب والمعتقدات.

ثم أن مجلس الشعرباف الثقافي كان قد أنتقل من الشطرة حتى الكرادة في بغداد وأصبح الدكتور الأستاذ حكمت بنفسه مديرا له.. أضافة الى ما قام به الدكتور المؤرخ العراقي الجليل حسين أمين من أدارة لأعمال المجلس في بعض جلساته الدورية والتي أستمرت لسنوات طوال، أمتدت منذ بداية الخمسينيات وحتى ما بعد 2003.

وعودة للممارسة الطبية فقد تأثرتُ بالأستاذ الشعرباف وخاصة بالمهارة السريرية في الفحص الطبي، والأستماع للمريض وهو يفصّل بشأن حالته المرضية....فكما تعلمنا من أساتذة الطب الأوائل فأن التاريخ المرضي للمريض أنما يشكل أكثر من 70% من التشخيص للمرض، لما فيه من معلومات مهمة تدل على أصل المشكلة الصحية. كما أن الشعرباف الأستاذ كان من الباحثين في شؤون الطب والحريصين على مشاركة تجربته في البحث العلمي مع طلبته وزملائه.

وقد قرأتُ قبل سنوات ما صرّح به الأستاذ حكمت الشعرباف وهو يسمع ويرى ما حلّ بأوضاع الطب والأطباء في العراق..فقال بخصوص موضوعة الأعتداء على الطبيب، وسوء التصرف من قبل البعض مع الأطباء في المستشفيات العراقية ما نصه:

"ولابد هنا من القول أن معالجة أزمة أطباء العراق ليست بالمهمة السهلة نظراً لتشابك أمور عدة في حصولها، الاّ أن من الواجب وضع قوانين صارمة بحق من يقوم بالأبتزاز أو الأعتداء أو التهديد بدعوى حصول ضرر من جراء ممارسة طبية. اذ أن الأخطاء الطبية لو وقعت فإن الجهة التي ينبغي ان يلتجأ اليها صاحب الشكوى هي نقابة الأطباء والمحاكم المدنية وليست العشيرة، ذلك أن ممارسة التقاليد العشائرية لحل الخلافات، أيا كان محتواها هي أمر قد عفا عليه الزمن" .

كما أطلعتُ قبل سنوات قلائل على رأي للأستاذ حكمت الشعرباف بصدد أفتتاح كليات طب خاصة أهلية في العراق.. فكنتُ قد وقعّتُ على رسالة من قبل مجموعة من الزملاء الأطباء مبديا تحفّظا على الموضوع..وكان أن سمع الدكتور الشعرباف فقال برسالة منشورة حول الموضوع: "وخلاصة رأيي ان هذه الخطوة متسرعة، وربما جاءت تحت ضغوط من هنا وهناك. وإن في العراق اليوم من كليات الطب ما يفوق الحاجة، ولعل الأجدر هو الألتفات الى واقع حال مؤسساتنا الطبية التعليمية وتحسين أحوالها، وسد الثغرات فيها، ورفع مستوى خريجيها، بدلا من أن نضيف الى مشاكلنا في هذا الحقل الهام مشكلة جديدة....أنها دعوة مخلصة للمسؤولين للتراجع عن هذا القرار الخطير، واذا كان (الأعتراف بالخطأ فضيلة) فأن في التراجع عنه فضيلتين"...ولا أظن أن المسؤول قد تراجع مع الأسف...

ولقد علمتُ مؤخرا أن الأستاذ الدكتور حكمت الشعرباف كان قد نشر كتاب ذكرياته والذي عنونه ب "ذكريات وخواطر" حيث أشار الى الكتاب الكاتب جمال العتابي فقال: " هذا الجنس من الكتابة، وجد فيه (الطبيب) أرضاً خصبة بذر فيها تجاربه، وأحلامه، ورؤاه، بسردية رائعة للتجارب المهنية، والوطنية، والإنسانية، فهو يؤرخ لتاريخ العراق المعاصر، وتتوقف عند أقتباساته الشعرية، ونصوص من التراث، وتتلمس بأرتياح ما فيه من خفة الروح، بالتعليق الأنيق، والشاهد القرآني، والحكمة البالغة، والنكتة البارعة، مما يرد عفو الخاطر. إنه كمن يكتشف العلة، ويصف الدواء، ويطمئن المريض، بأنه سيحيا حياة رغيدة. هذه الذكريات، كما  وصفت: وطن في رجل، إنه عمل ودود، وأنيق وعميق ومحايد، فيه الخبرة والعبرة.

نسأل الله أن يحفظ الدكتور حكمت الشعرباف وهو في أميركا اليوم- أرض غربته.

 

د. عامر هشام الصفار

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم