صحيفة المثقف

عبد الجبار العبيدي: الاصلاح الديني ونظرية جدل الكون والانسان

عبد الجبار العبيديمعضلة التراث الديني والترادف اللغوي الخاطىء في التفسير القرآني وكيفية معالجة أثارهما المدمرة على العقل العربي ومستقبل الامة معضلة بحاجة الى تكاتف الجهود الصادقة لحلها وان تبدو مستحيلة. واليوم سنحاول ان ننتقل الى عقبة ثالثة من عقبات التقدم الحضاري عند العرب والمسلمين، أصدار الأحكام المسبقة في الرأي دون دون المعرفة الموضوعية لحقيقتها كما في حقوق المرأة مثلاً.. والثالثة هي التقصد الفقهي في ابعاد المنهج العلمي لنظرية جدل الكون والانسان في مفهوم التراث ، لنستكمل المعوقات التي تقف حائلا دون الخروج من المأزق نحو الانفتاح الفكري والتقدم الحضاري مثلما تقدمت الامم الاخرى.، الا وهي قول الحق: "ولقد صَرفنَا في هذا القرآن للناس من كل مثلٍ وكان الانسانُ اكثرَ شيء جَدلا، الكهف 54". والتي عالجها الفقهاء معالجة لغوية بعيدا عن مقصدها العلمي الرصين، فجعلتنا نغرق في وهم التفسير اللغوي المعتمد على الترادف اللغوي الخاطىء ووهم الغيبيات التي لا مخرج منها ابدا.

ابتداءً نقول ان كلمة الجدل في اللغة العربية لها معانٍ مختلفة ومتعددة منها:

يقصد بالجدل: الشدة والصرامة، ويقصد به الصراع بين حقيقتين او بين الحقيقة والوهم، (لسا ن العرب –كلمة جدل).

لكن المفضل عند اللغويين هي شدة الخصومة، وفي الحديث الشريف (ما ضل قوم بعد هدى الا أوتوا الجدل، أبن ماجةالمقدمة 48).

اما اصطلاحاً فهو مقابلة الحجة بالحجة، وللمجادلة معانٍ اخرى كالمناظرة والمخاصمة والمناقشة، والحوار.وفي الحديث النبوي.. ان الجدل في الباطل وطلب المغالبة به لاظهار الحق فأن ذلك محمود بقوله تعالى: (وجادلهم بالتي هي احسن، النحل 125) ولقوله تعالى (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله ,والله يسمع تحاوركما...المجادلة 1 )، وقوله تعالى (لا جدال في الحج، البقرة 197).

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير الى الجدل ملخصها ان الجدل هو في المحاججة او المعارضة لكسب الرأي. وبما ان الرأي صادر من العقل، فالعقل في الجدال هو الحجة على حد قول الامام علي بن ابي طالب (ع)، تحفة العقول ج20ص312).وملخص ما دار من نقاشات حول الكلمة ومعناها ان الرسول (ص) جادل المشركين بالتي هي احسن لكسب ودهم وتقريبهم اليه، قبل غزوهم.. ويؤيد القول ما جاء في القرآن الكريم: (فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، آل عمران 159).

نظرية الجدل للانسان والكون لم تكن حديثة عهدٍ عند العلماء، بل جاءت في كتب الفلاسفة اليونان والرومان والتي مهدوا بها لمعرفة نظرية الخلق للعالم والانسان (مقدمة في فلسفة هيجل؛ ص29).لاعتقادهم ان مع نشأة التأمل الانساني يبدا التسائل عن الكون ونشأته. وشملت تلك التساؤلات عن كيفية خلق الانسان والكون والاصل لهما والمصير (مشكلة الفلسفة ص64 ). ثم تحول طاليس الملطي (624-656 ق.م) الى البحث والتسائل في أصل الماء بأعتباره هو أصل كل شيء.ثم دخلت النظرية الكونية في مساجلات ونقاشات فلسفية لا يسعها المقال الان، لكنهم اكدوا ان سبل الصلاح والاصلاح يكمن في العقل والفلسفة لا بالاديان- يقصد الديانات القديمة- التي تناقضت في الجدل والمناقشة.. على الرغم من ان قضية الخلق تعد من أكثر القضايا غموضاً في البحث العلمي اذا لم تخرج من دائرة الوعي التاريخي.

ثم جاءت الفرضيات العلمية التي تفتقد الدليل القاطع على صدقيتها سوى نظرية الامام علي (ع) في الخلق المطلق من العدم لوحدانية المعتقد بالله مستنداً على الاية الكريمة (...هل من خالقٍ غيرُ اللهِ.. ، فاطر 3) النهج. ويلخص بعض علماء المسلمين: ان لا وجه للممائلة بين القديم والمحدث، والثابت والمتغير، والكامل والناقص، فهو تعالى: (ليس كمثله شيء، الشورى 11). لكن يبدو انهم لم يتوصلوا الى نتيجة علمية ثابته لعدم ادراكهم تأويل النص القرآني الذي يحمل صفة التطور التاريخي (النسبية الزمانية والمكانية) وعدم التفاعل مع الفلسفات الانسانية الاخرى، وعدم التفاعل المبدع معها، حتى لم يتوصلوا الى الآن لتعريف الاسلام تعريفا آيديولوجيا، فراحوا يفسرون ماجاء به تفسيراً لغوياً لا تأويلا علمياً فوقعوا في اشكالية المعرفة.

ودخلت الديانات الوضعية القديمة في جدل عقيم كالمانوية التي اعتقدت بالنور والظلمة، والحرانية التي اعتقدت بالكواكب والنجوم وهي ديانة قائمة على الوهم النفسي الى اقوال خرافية كثيرة اعتمدت على الحدس والتخمين لا على البرهان والحجة.

وحين التحدث عن نظرية الكون والانسان من منطلق الايات القرآنية التي وردت فيه لابد لنا من البحث في جدلية تناقض الشيئين الذي يؤدي الى هلاك الشيء بأستمرار وفيه يكمن السر في الاستمرار والبقاء بعد الموت فكل ميت يخلق من بعده اخر حي (ولا تَدعُ مع الله الهاً اخرَ لا اله الا هو كلُ شيء هالكُ الا وجَههُ...القصص 88).وجدلية تلائم الزوجين في الخلق (وأنه خلق الزوجين الذكر والانثى، النجم 45) كما في آدم وزوجه، كتاب الحياة ص5، والذي ولد منهما حالات كثيرة اخرى كالزواج وما تبعته من تشريعات قانونية واخلاقية عديدة، أصبحت قانونا اجتماعيا لا فكاك عنه ابدا.وجدلية تعاقب الضدين، الليل والنهار، وتبعهما الحب والكراهية، و "خلق السموات والارض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى...، الزمر 5". وتدخل في حساب النظرية البعث والحساب، والجنة والنار، واستقرار النقيضين فيهما (...وان الاخرة هي دار القرار، غافر 39).

واذا تتبعنا الامر بحسب ما ورد في التنزيل الحكيم نرى هناك مفارقات كبيرة لا يفهمها الا العالمون، فكيف ادركها الفقهاء منذ القرن الثالث الهجري وهم لا زالوا حديثي عهدٍ بالتفسير، وعلينا اتباعهم. وتقف ظاهرتي المجتمع الدنيوي والاخروي في وجود ظاهرة العمل، والصحة والمرض، والخير والشر، والحرب والسلام، في الاول واختفائها في الثاني: (الحاقة64 العنكبوت، 23، الحجر 47"،.فهنا نقع في اشكالية صراع المتناقضات الدنيوية واستقرارها في الاخروية، فكيف تفسر مثل هذه النظريات وفق قانون الترادف اللغوي الخاطئة. هنا كل التفاسير القرآنية الحالية بحاجة الى اعدة النظر فيها من الوجهة العلمية لجماعة علماء التخصص وليس لفقهاء التفقه، مشكلة لابد من الدخول في حوارها واختراق المآلوف الخاطىء الذي تعودنا عليه واصبحنا جزءٍ من الخطأ الدائم.. لكن لا احد يستطيع اليوم الاقدام على تصحيح الخطأ لأرتباطه بالسلطة وبقائها في حكم الدولة.

اما نظرية جدل الانسان فهي نظرية مادية صرفة، ولان الانسان مادة، فلابد من الدخول في حوار الفكر الانساني وليس في شيء اخر، هذا الفكر الذي مُنعنا من محاورته استنادا الى الاية الكريمة (...تلك حدود الله فلا تقربوها...).علما بان الاية الكريمة تحتم علينا الزامية اتباعها لمعرفة الوصول الى الاشكالية العلمية الكبرى التي يطرحها القرآن سواءً في الملموسات المادية او الغيبيات، اذ لا معنى لأيةٍ آية قرأنية لا تأويل لها حينئذ تصبح حشوا لا معنى له وحاشى ان يكون في القرآن من حشو أو زيادة ٍكما صوروه لنا الفقهاء.

وحين يفتح المجال لعلماء الاختصاص في البحث القرأني بحرية دون دخل للقدسية والعاطفة ينفتح الفكر على مصراعيه لمناقشة نظرية الرحمن والشيطان، والاعمار، والارزاق والاعمال، والقضاء والقدر، والانزال والتنزيل، والحق والباطل، والغيب والشهادة، والروح والنفس، والعقل والفكر، والبشر والانسان، ومصطلحات كثيرة متضادة وليست مترادفة قولا ومعنأً.أهملوها او فسروها خطئا لعدم تمكنهم من معرفة معناها في ضوء تطور اللغة.. ولازالت التفسيرات القديمة يطبع منها كل سنة الألاف مع استمرار المبهم فيها.. فكيف نتطور..؟

ونعود لأدم وبداية النشأة الانسانية، بأعتبار أدم أبو الانسنة وليس ابو البشرية، مستندين الى الاية الكريمة: "أتجعل فيها من يفسد ويسفك الدماء، البقرة 30 ". ومن بعده جاء التجريد الديني، وهي مرحلة الأصطفاء، والاصطفاء هو الاختيار للمهمة وليس النبوة، يقول الحق: (ان الله أصطفى أدم ونوحا وآل أبراهيم وآل عمران على العالمين، آل عمران 23). فالتجريد بدأ بأدم والنبوة بدأت بنوح وليس قبله (انا أوحينا أليك كما أوحينا الى نوحٍ والنبيين من بعده، النساء163).لذا فأن القصص القرآنية هي ليست بقصص كما نفمها اليوم بل هي رسالات ومعلومات ونبوات ابتداءٍ من نوح الى محمد كما يقول الحق: "نحن نقصُ غليك نبأهمبالق، الكهف 13".من هنا فدراسة القصص القرآنية يجب ان تكون وفق المنطق العلمي في التأويل لاكما يقولون لنا انها جاءت لتسلية النبي عند التفكر والراحة والاستجمام.

ان الانبياء والرسل الذين بلغ عددهم ال 24 نبياً ورسولاً من هؤلاء 13 ثلاثة عشر رسولا والباقي أنبياء كما وردوا في السور القرآنية المتعددة مثل نوح والشعراء ويونس والحديد ومريم والصافات وغافر وآل عمران والاحزاب، فكل منهم جاء لينفذ مرحلة من مراحل الدين الاسلامي وكلهم من المسلمين، اما جماعة محمد (ص) فهم المؤمنون، بدلالة قوله تعالى (ان المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات.... لهم مغفرةً وأجراً عظيماً، الاحزاب 35) والتفريق هنا قصدي لبيان الفرق بين الكلمتين لفظاً ومعنىً، وليس على سبيل العضة والاعتبار كما يقولون.

بعد هذا الجهد الجهيد نستطيع ان نخلق نظرية اسلامية المعرفة مصاغة صياغة معاصرة ومستنبطة حصرا من القرآن الكريم، لتعطينا ما يسمى باسلامية المعرفة، وبذلك نستطيع ان نعطي منهجا في التفكير العلمي لكل مسلم، قائم على التأويل القرآني الصحيح للحدث التاريخي للتعامل مع الفكر الانساني برمته دون تحريم، لان ليس كل فكر أنتجه الانسان هو عدو للاسلام بالضرورة، لكن غياب المنهج المعرفي لدينا اليوم هو الذي جعلنا أسرى الوهم والتخلف.

وكا قلنا سابقاً اننا نعيش اليوم أزمة فقهية قاتلة تدعونا الى ان نتحول الى استباط فقه جديد بعيدا عن التفسير الفقهي الجامد الحالي للنص الديني والسُنة النبوية الشريفة، بعد ان مضى عليها اكثر من1450 سنة تغيرت فيها معاني الكلمات والافكارلان الزمن يلعب دورا في عملية التغيير، فلا بد من الحل البديل، والاتجاه نحو هذا الاصلاح أفيد للامة من الف مؤتمريعقد تصرف عليه الملايين من قوت الشعوب دون مردود معين ليخرج علينا بنتيجة واهية مفادها "ان الاسلام صالح لكل زمان ومكان.. والأسلام هو الحل...وما يدخل الجنة الا مسلماً دون شرح الاسباب وكأنها مُلك لهم دون الأخرين.. هذا هو الأرهاب الديني بعينه.. الذي قامت عليه القاعدة وداعش وكل فقه التطرف اليوم.

.ان الامة بحاجة ماسة وملحة للخروج من هذا المآزق المنهجي الخاطىء، منهج العنف ضد الأخر وضد التفكير الحر لنتعلم كيف نفكر وكيف نحكم على احداث التاريخ. لنلحق بركب الامم التي سبقتنا، وكان المفروض ان نكون نحن السابقون، ولربما سائل يسأل أذن لماذا لا نبدأ، نقول له ان المشروع كبير ومكلف مالم تتبناه دولة او مؤسسة مالية ضخمة ومتمكنة لم يمكننا من التحرك نحوه، والدولة اليوم في عالم الاسلام ضد اي تطور حفاظا على المكاسب الباطلة وحكم الشعوب.. من هنا نقول مالم يفصل الدين عن السياسة وينتهي دور المرجعيات الصنمية كما في الدول المتقدمة.. لن تقوم لنا من قائمة الى ابد الابدين.. لكن المحنة كيف نتجاوز الصراع الفكري بين الحقيقة والوهم وبه الاول ننتصر وبالثاني نموت .. هنا نحن في محنة حقيقية كيف نفكر بتجاوزها والسيف بأيديهم ونحن الغلابة بلا نصير.. اذن لابد من توافر الجهود وتقديم التضحيات وننتقل من ثرثرة الكلام الى الفعل.. ساعتها سنكون امة وطن.. فهل من مجيب؟

 

د.عبد الجبار العبيدي

 

  

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم