صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: قراءة جديدة في (جمالية المكان) لــ غاستون باشلار

حيدر عبدالرضاالتأويل المكاني بين مرجعية القراءة الظاهراتية وفعالية الحلم المؤول

توطئة: ان تجربة الجمالية في منظور صياغة وفكرة وحدة المكان، ذات خلاصة معرفية أصيلة لها كل الأهمية والباع والتركيز في منظومة محسوسات العملية الابداعية إجمالا، بدءا من الأجناس الأدبية والفنون السمعية والبصرية وحتى أصعب وأشقى مفاهيم الفلسفة الظاهراتية في مشروع الفيلسوف الرائد غاستون باشلار في كتابه القيم (جمالية المكان) الذي قام بترجمته إلى العربية الأديب الروائي الكبير غالب هلسى، وعليه فإن القارىء لجملة مقدمات هذا الكتاب سوف يواجه ثلاث مقدمات استهلالية ومدخلية ضرورية في توطين وشرح وتأويل وجهة النظر القارئة لمجموعة بحوث هذا الكتاب الفذ . وعند معاينة فصول الكتاب تواجهنا مباحث عديدة حول القيمة المعرفية المستوعبة من حدود إمكانية خاصة شكلتها عوامل ووظائف تتكون من (المسافة الزمنية ـ الفضاء المكاني ـ الرؤية العاملية ـ الخيال المنفذ ) وعلى هذا النحو، صرنا نتعامل مع مفهوم الفلسفة الظاهراتية المنصوصة في أطروحة باشلار في الكتاب، كموازنة متخيلة لمجمل معادلات وظائفية المحور للعنصر والبعد المحوري للمكان، كضرورة أسنادية مدلولية نحو تشكيل حيثيات من المعاينة النظرية والإجرائية والمخيالية الذوقية لذلك المكان الذاكراتي والألهامي المحدد بمشروطية هذه المحاور الفصولية من محتوى البحث: (البيت: من القبو إلى العلية ـ البيت والكون ـ الأدراج والصناديق وخزائن الملابس ـ الأعشاش ـ القواقع ـ الأركان ـ المتناهي في الصغر ـ جدل الداخل والخارج ـ ظاهراتية الاستدارة) من خلال هذه التمظهرات البيانية من لسان حال الفصول، نتبين بأن باشلار يسعى في مجال كتابه إلى ترسيخ تفاصيل فاعل نواتي يقع ما بين مستوى العلاقة الزمنية ـ المكانية، والبحث الفلسفي الظاهراتي المتأمل خيالا في حالات الوسائل الشيئية القديمة، كحقيقة مرجعية يتاح ربطها أفقا كعلاقة بين الأثر المكاني في أغوار اللاوعي الصوري، ودليل صورة المحمول الشعري المكثف في القصيدة كهيئة خطابية تتم ضمن ترجيعات أنطولوجية متجذرة في ظاهراتية الصورة الشعرية المعتمدة من قبل آليات التلقي الفردي والجمعي، وتبعا لهذا فهي تكرس بذاتها دلالة معرفية متخيلة لا تقدر بأي ثمن واعتبار .

ـ إحالات المخيلة نحو ذاتية الصور في الأمكنة السكونية .

أن آلية أطروحة كتاب (جمالية المكان) تجسد لذاتها منظومة متكونة ومشتقة من المحيط للصورة الخيالية في تناول (المكان الأليف) إذ نستوعب من خلال هذا الشكل المكاني خصوصية الإمساك بدهاليز وثيمة الخيال الذي من شأنه تحويل حاصلية هذا المكان إلى مجال علاقة غير مهمشة أو عابرة أو منسية أو مهملة، بل أنه يجعل منه علاقة متفاعلة ومتبادلة في عضوية الوجود المعرفية والهوياتي للمعرفة المبطنة . وعلى هذا النحو يواجهنا الفصل الأول الموسوم بـ (البيت: من القبو إلى العلية ـ دلالة الكوخ ) إذ نستدل من خلال عتبة استهلالية مكونة من قصيدة الشاعر بيير ألبير بيرو: 

من هذا القادم يدق باب البيت

باب مفتوح، ندخله

باب مغلق، معتكف

نبض العالم يخفق خلف الباب .

و يبين باشلار من خلال مناص هذه العتبة الشعرية، مدى العلاقة المكانية الظاهراتية المتصلة في أوجه مقاربة مرجعية المكان الداخلي ـ اعتبارا بالتعامل معه كشرطية قديمة خاصة ناتجة من مؤشرات وحدة المكان وعبر أبعاده الصورية المتعددة: (سوف أبين أن الخيال يمنح إضافات لقيم الواقع . أن نوعا من الانجذاب نحو الصور يركزها ـ أي القيم ـ في البيت، فلو تجاوزنا ذكرياتنا عن البيوت التي سكناها، والبيوت التي حلمنا أن نسكنها، فهل نستطيع أن نعزل ونستنبط جوهرا حميما ومحددا . /ص43: جمالية المكان )أن أصحاب النظرة الذهنية الجمالية الثاقبة كباشلار يقرنون المبادىء الكلية الثابتة من خزين ومعطى وعي المكان المنسي، رؤية ذات معايير حسية راجحة في تشريح الوعي الشيئي في مساحة المكان، إذ نرى في هذا المعنى مرجعية قرائية متأملة، في خصيصة التنظير المكاني الساكن، حيث يتم تحصيل العملية الشعورية للناظر والقارىء، كمقاربة خيالية مشرعة في حميمية صور الأشياء من ناحية (الذات ـ الموضوع) والمتأمل إلى آفاق فلسفة باشلار الجمالية في المكان، قد يجدها عبارة عن عوالم مفهومية في اللاشعور الحسي، بل أنها على العكس من ذلك، فهي جملة خيالات إدائية راح يتألف منها الحس الباطني في عملية قرائية ذهنية محاطة بكافة مدركات المرابع الحلمية الخاصة بجغرافيا المكان: (بالنسبة للظاهراتي فسوف ينصرف إلى البحث عن البذرة الجوهرية المؤكدة والمباشرة لما يوفره هذا النوع أو ذاك من هناءة .. أن أول مهمة للظاهراتي في كل بيت أن يجد القوقعة الأصلية . / ص36: جمالية المكان) أن جوهر العلاقة ما بين النظرة الظاهراتية والأثر المكاني النواتي الأول، هي بمثابة الآصرة الذاتية التي تسعى نحو تكييف دالها النواتي التكويني نحو مساحة حلمية خاصة من دليل الاتصال بين الذات وماهية وجودها المكاني الأول، إي أننا هنا في صدد تحديد ترجيعات علاقة زمنية تقوم بها ذاتية الظاهراتي في تأشير ملامح دقيقة السمات إزاء موضوعة الأمكنة وملحقاتها المضمرة والمرتبطة بماهية كونية خاصة وصولا إليها من خلال: (سوف نرى الخيال يبني ـ جدرانا ـ من ظلال دقيقة، مريحة نفسه بوهم الحماية ـ أو على العكس، نراه يرتعش خلفه جدران سميكة متشككا بفائدة أقوى التحصينات . / ص36: جمالية المكان) علّ باشلار يسعى إلى أن يقودنا نحو حيوية الفضاء المغلق، المتحكم في سكونية الذات المتأملة في منظورها الظاهراتي الذي يعد بمثابة المحرك المتخيل والمنزاح في عرض دواخل جدل الأشياء المخفية، ثم بالتالي بث الروح فيها كحالة خارجية في لغة تفصح عن جوهرية جوانية العوالم الرحمية الأولى من حلم وأسطورة البذور المجردة التي تتجاوز فضاءات المغلق إلى المتحرك الخارجي .

ـ الإحتفاء بسرانية الدال المغلق.

أن فلسفة (جمالية المكان) ببحوثها القيمة، تطرح سيروراتها الظاهراتية في مجال فصول هذا الكتاب، لغرض تكريس لغة التفاصيل المكانية نحو مدار الخارج الوجودي من التعامل الذهني والمعرفي، لذا نجد أن مقولات باشلار في فصول كتابه، تتوغل نابضة في إحياء كينونات عالم (بيت الطفولة ) وما تترشح عنه من علائق مقدماتية خاصة، ليتولى بعد ذلك تقديم تفاصيل ذلك البيت ضمن تأويلات مخيالية أخذت تؤكد القيمة الممنوحة للجسد البيتي التكويني الأول، كبؤرة تتركز فيها كل ظهورات التفاصيل العمرية المحققة: (الآن يتضح هدفي: يجب أن أبين أن البيت هو واحد من أهم العوامل التي تدمج أفكار وذكريات وأحلام الأنسانية، ومبدأ هذا الدمج وأساسه هما أحلام اليقظة ويمنح الماضي والحاضر والمستقبل البيت ديناميات مختلفة . / ص38: جمالية المكان) أننا هنا إزاء ذات فكرة هايدجر في فلسفته الفنومنولوجية ـ الوجودية التي تسوغ بأن ماهية الفن لا تبدع العالم بل تكشفه فقط . أما فيما يتعلق بمساحة الفلسفة الظاهراتية لدى باشلار فأنها تقدم الوجود المكاني المعزول، عبر كيفية رؤية خلاصتها الكشف عن ميتافزيقيا المكان المخبوء، خلافا للمكان الخارجي الذي تنصهر فيه عدائية الأنسان مع وضعية الأشياء . هكذا بأختصار وجدنا فلسفة باشلار محفوفة بتكثيف ما هو خفي وسري في دواخل الأمكنة القديمة ولكننا شعرنا في بعض فصول الكتاب بأن الفيلسوف كان يؤسس لمرجعية المكان الأليف علاقة مخصوصة بأحلام اليقظة، إذ لولا الحلم حقا ما كان متاحا لنا إيقاظ هذه الروائح والصور المعتقة في زوايا الأمكنة المهشمة وجوديا .

ـ تعليق القراءة:

لعل دراستنا القصيرة عن كتاب (جمالية المكان) جاءت في حدود أحكام علاقة مطالعة جديدة في عوالم فصول هذا الكتاب، رغم أننا قد قمنا بقراءته منذ أعوام طويلة، ولكننا في قراءتنا الجديدة هذه لاحظنا أن لهذا الكتاب سمة معرفية تجديدية ثمينة حقا، تتعلق وضوحا وكشفا بالبنية المكانية تنظيرا وتطبيقا وترميزا لها في وظيفة مقاربة عوالم سرية الأمكنة ومتغيرات قراءتها في منحى من التوليد والتركيب والتخييل الأحداثي المؤثر فينا، ما جعل من هذا الكتاب في واقع الأمر رافدا منظوريا لأسمى دراسات وبحوث النقد الأدبي في المكان ذات الطابع المتقوقع في أرحام الذاكرة وفعالية مؤثرات المخيلة المؤولة لحاصل جدل الخارج والداخل والباطن من أعماق تأويلات فلسفة باشلار الجمالية الممكنة في مقاربة حدوثها أثرا فاعلا في مساحة التخييل والتشريح لمنظومة المكان الدالة والمركزة .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم