صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: الدوال الشعرية بين بؤرة الترقب الاحوالي وإمكانية المعطى المتحول

حيدر عبدالرضاالفصل الأول ـ المبحث (3)

دراسة في الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر حسين عبد اللطيف


 توطئة:

إن آليات الفاعلية الشعرية لدى عوالم شعرية الشاعر الكبير حسين عبد اللطيف، تبدو لنا دائما وكأنها تلك المرآة التي تعكس المصورات الأحوالية ـ الذاتانية ـ للأشياء ضمن ما تسمح به الذهنية التصويرية للشاعر بإعادة إنتاج منظومة الدوال المضمرة في حدود استنتاجات مركبة وعصية عن الفهم المباشر عبر لغة خاصة من التدليل والمعطى القولي الموصوف بمستوى إحالي ومحول نحو سياقات خارجية ـ داخلية، وهذا الأسلوب الشعري لدى الشاعر راح يتم بموجب علاقة إمكانية خاصة ومزودة بوفرة موجهات ومؤشرات من أفق المقاربة المغايرة في بؤرة الإندراج الترقبي المعلن من قبل مقصدية مضاعفة في متون النص الشعري .

ـ إحالات المشهد الشعري وحدود بياض التأويل .

ترسم لغة فضاء قصائد مجموعة (على الطرقات أرقب المارة) إطارا خاصا في استدعاء المعنى الدلالي نحو قابلية علائقية إنشائية من التأمل العميق والنظر المركز في تصعيد وحدات الأفعال الشعرية إلى غاية ما تبدو غالبا مبهمة ومتماهية من حاصلية كفاءة المعادلة النصية في محاور الخطاب الدوالي. وعند قراءتنا إلى قصيدة (أغنية السيد الجسد) تساورنا موحيات وقصديات ببلوغ ذلك الاتصال المكين ما بين ثنائية (الذات = الموضوع )عملا بالعلاقة الشرطية المترتبة في الزهد المجرد في بناء محتملات غاية في الرمز والمرمز:

جسدي: سيدي

والخطى

والخريطةْ

غسلته الشموع

وهو ملقى ... / ص19

تشكل حدود المقاربة ما بين دال (جسدي) ودال (سيدي) وجودا متفاعلا مع حيثيات العلاقة المبنية على فاعلية المسند والمسند إليه، وهذا الوجود المنظور بحد ذاته يعد كعلامة كيفية مؤشرة نحو الحاصل عن صورة الاتصال الأول إلى الثاني من العلاقة الاسنادية في وجودها المحايد (جسدي: ميدان الخصب = علاقة مكون / سيدي: كفاءة مسند = مقترح علاقة اكتمال) وبقدر ما تحمله دلالة(خطى) و(الخريطة) من مستويين يشكلان بذاتيهما تلك السعة والنفاذ نحو الإبصار الدلالي . إذ توقفنا جملة اللاحق (غسلته الشموع ) أو (هو ملقى .. ) لنستدرك من خلالها بأن مكونات المعطى في دائرة الدوال، جاءتنا كحركة إحالية ومحالة نحو طاقة من العلاقة الاستبدالية في مواضع متباينة من اللفظ المغاير، ما جعلنا نعلم بأن صياغة الدوال جاءت بذات التصرف من حدود آفاق الشكل المفتوح ـ الشكل المضمر، لينتقل الخطاب من خلال فواعل العين القارئة نحو ممارسة بمستوى رمزي معين أو أنه حالة من التصوير المضاعف في وظيفة بؤرة المتعلق الابعادي من المعنى، وما يمكن فهمه هنا هو أن الشاعر كان يلوح نحو صفة رمزية سياقية أخذت تشحذ من إمكانية الواقعة الطفية المرجعية الشيء المستور من زمن الموصوف وحتى بات ذلك الدليل في الجسد المسجى هو بمثابة ثنائية حسية منقسمة ما بين هذه الملفوظات (خضرة الآس ـ حلت شريطه .. وهو ملقى .. الفرات) يتداخل هنا النموذج عبر فواصل متماهية من زمنية التخييل المتحول بدءا من العنونة المركزية أغنية السيد الجسد) وحتى جملة (وهو ملقى .. الفرات) على نحو أكثر إيغالا وعمقا وتركيزا، فالعين الشعرية باتت تبث حالها الارتباطي ما بين ثنائية السيد ـ الجسد، في إثارة مشهدية جعلت تتمكن في تحويل الحال إلى صورة مشاهدة تشكيلية، وليس إلى صورة مقروءة، وبمثل هكذا معطى تستجيب بدائل المعنى المحتمل دلاليا نحو تجزيء أحوال الالتقاط الصوري إلى جملة مركزة من زمن اللقطات الشعرية:

بينابيعه الراعفات

عربات تروح

عربات تجيء

وهو ملقى ... / ص19

الواقعة الشعرية ها هنا تتلاقح وحدود فضاء التخييلن وتتصرف فيما هو خارج عن موضوعية السياق الأصل للواقعة الكربلائية، ولكن الشاعر في مثل هكذا دوال مستحدثة، كان قاصدا الفكرة عبر حركته المظهرية من قيمة الدال وليس في حدود قدسية الوثيقة المروية، لذا وجدنا جملة (عربات تروح) أو جملة (عربات تجيء) بمثابة الدلالة الإدائية المنسجمة مع روح الفعل الحركي للواقعة المتخيلة، وصولا منها إلى محورية التركيز المتمثل بـ (وهو ملقى ..) إذ إن الإدائية التنقيطية في أواخر الجملة تبين لنا مدى مبلغ المجاورات في خارج حال الموضع الصوري للجملة ، وكم هي تتابعية مع حدوث وقائع أحوالية محققة وغير محققة في مسار إجرائية بؤرة الدوال.

1ـ المعايشة والمشاهدة في معادلة المعطى المصور:

إن إمكانية الفكرة الشعرية واستقلاليتها، تبدأ من علاقة تعايش أو معايشة أحوالية من شأنها تلمس استقرارية الدال في إجرائية الممكن أو المتاح في محصلة القول الشعري . إذ أننا نعاين في صدد نهايات قصيدة (أغنية السيد الجسد) ذلك النوع من التحقق التعايشي في مشاهدة فكرة السياق المرجعية، وصولا بها نحو موضعية الفعل الشعري المحكوم كقيمة مضافة في ضوء تمفصلات الوصف القصدي:

في خطوط اليدين

تصلب الطرقات

من يغني المسافرَ، كالرمح أو من يضيء ؟ ! / ص19

أن الصورة المتخيلة أو المظنون بها قصديا في هذه الجمل الأخيرة من النص، حيث تقدم لنا ذلك الخليط الوصفي الدقيق والحاصل ما بين سيرة (جسدي: سيدي) وفصول سفر ذلك الرأس المحمول فوق هامة الرمح، وكيفية الأحساس بمشهد ذلك الرأس المضيء وفي كيفية رحيله عن ذلك الجسد المقدس، أنها بمثابة الاقفالية المركزة حول مشاعر عيال الإمام الحسين (عليه السلام) والتي راح الشاعر يذيلها بملائمة استفهامية وتعجبية أخذت الطول في موضع تلك  الأسفار الحزينة المقدسة .

ـ الذات الحلمية وتماثلات الوجود الكينوني .

تواجهنا في دلالات قصيدة (أوقات) ذلك العمق الحلمي الذواتي الذي راح ينطوي على جملة حالات زمكانية ـ كينونية أزلية، فيما تظل رؤية الشاعر لها وكأنها محض حساسية مجردة في صعودها التأملي البوهيمي، الخارق للأبعاد والصفات والمجالات العينية المباشرة. أي أن القصيدة تبدو كجملة واحدة تتدافع من ثناياها مسميات واشارات وملامح مشحونة بالدوال المجردة، خلوصا لمها نحو ذلك التشيؤ عبر ماهية الوجود والكينونة الوجودية:

أمضي ...

كالسهم بعيداً ...

في ذاكرتي: حيث الأشجار حجارة نومِ

وغزالات تنجو من صيادِ

ما كان لهُ

هذا الجسد ـ القارب

أن يحملني

لتخوم أجهلها . / ص22

استنادا إلى مجمل الشيفرات المتكونة في مصاحبات النص الضمنية، تواجهنا قابلية خاصة في أشد أفعال المطاوعة في ميدان المنظور الذواتي المتاح من خلال حالات خصوصية ذاكراتية حافلة بلغة الأنا والإيحاءات الأولى من زمن لفظة وفعل (أمضي) حيث بدت الممارسة الجريانية ضمن فاعل الاستعارة المرسلة بالمشبه (كالسهم بعيدا) فيما يعاود الشاعر ضمن آنويته السياقية فرض محمل العلاقة الحاضنة ما بين الذاكرة الرحمية ـ نواة الأزل الذواتية (في ذاكرتي: حيث الأشجار حجارة نوم ) تجليا نحو ذلك التشكيل التوليف المتراوح ما بين الأنا وأحوالها ووسائط ذلك الرسم المشهدي المتعلق في إمكانية جملة (غزلان تنجو من صياد) وفي ظل هذه الإجرائية التي يمكننا تسميتها بـ (الذاكرة الرحمية في الأزل) إذ نعاين وظيفة الذات الراوّية وهي تلوح بأوالها نحو طاقة الصورة الزمنية التعاقبية في تحقيق حلمها المجهول (ما كان له .. هذا الجسد ـ القارب .. أن يحملني لتخوم أجهلها) وبتواصل الشاعر قدما عبر صياغة أفعاله المنفذة على محمل مستويات لغة قلقة وملتبسة وعدمية في وجودها الواصف (شمس يزدان بها جسدي .. شمس سوداء) ومن خلال شحن لغة التواصل المقطوعة بين محافل الأضداد، نتنبه إلى شكل تكرارية الأنا مع محيط وجودها على النحو الدائري في الإزاحة والتوهم الزمني (وطيور تعبر في الساعات .. ستعبرني .. وأظل هناك مقطوعا) كما تضيف اللقطات اللاحقة من القصيدة، جملة مشاهد ورؤى تحتشد وتتكاثف فيما بينها ضمن حدود ديمومة متصلة خارج إطار اللغة التعيينية الممكنة في فهم النص، كما لو أنها كانت فواصل زمنية غاطسة في مرجعية تتصل بكينونة خارج أفق فكرة التحقق الراهن في الموضوعة الشعرية:

دعني أجتز بابك

"إذ تأكل حواء النحل

ويربّي آدم  أسماكاً مبهورة"

دعني أجتز بابك

للزهرة: ضيفي تفتح أبوابي

للبلبلْ

ـ مصنوع من ذهبِ ـ أتمنّى

شمساً وعذابا .. /ص23

أن الأحوال الشعرية المرسومة في هذه الأسطر الأخيرة من النص، تفتح أبوابا نحو حوارية سياقية أخذت تعبر عن توافقها ما بين الأفعال الصفات والمسميات المتعالقة. فالشاعر يسعى فيها إلى تأسيس رؤية حميمية، حيث الإداء الصوري فيها كعلاقة رابطة ما بين الآنوية الشعرية مع محيط موجودات التعرف والتصديق المتماثل  نحو مجالات فردية من الموضوعة الزمنية من النص .

ـ تعليق القراءة:

أن التفاصيل الشعرية التي تكتسب بتوجهها الإيحائي و اللغوي إمكانية كبيرة في خلق المؤولات المغايرة ، هي من الوقائع الأسلوبية الشعرية المثيرة للجدل حقا. وعلى هذا النحو وجدنا في نماذج دراسة مبحثنا هذا ثمة بنى شعرية للشاعر تتعدى معطيات الوحدات الاسلوبية للقصيدة النمطية السائدة ، لتدخلنا دوالها في بؤرة الاندراج القرائي والترقبي للفوز بفرصة العثور على إمكانية وصولنا إلى ذلك المعطى المكنون في أرحام سراديب جواهر الشعرية المثمنة في خزائن هذا الشاعر العراقي العربي الفذ .

 

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم