صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: قراءة في ديوان: مولاتي أنت للشاعر د. موفق ساوا

حيدر عبدالرضاالمسافة الشعرية بين الإيصال الدلالي والمواضعة الأحوالية

توطئة: تدخلنا ظروف الكتابة الشعرية غالبا ضمن سياقات استراتيجية خاصة بوظيفة الإيصال الدلالي المعاين ضمن توالدات الدال الإشاري ـ السيمولوجي، وهذه العملية الإيصالية من شأنها توخي وسائط مجملة من حالات القصد في أسلوب تكوين النواة الفعلية في مقام الخطاب الشعري. لعل أن زمن الدلالة المطلوبة في تحصيلات اللغة الدوالية في مشروع قصائد ديوان (مولاتي أنت) للشاعر الدكتور موفق ساوا أخذ يلتمس لحاله ذلك المكون الأسلوبي الذي يقترب من قصيدة البوح الحسي المتماثلة، كوحدة وظيفية تتصرف بالملفوظ في خاصية تأطيرية مضافة من زمن قصيدة الوجدان والهيام بالمحبوب، لذا فإنها ترسم لذاتها تلك المسافة اللامحدودة بين إيصال الدلالة إلى جهة التلقي، وبين استجابة ذلك المتلقي إلى مقتضيات ذلك المرسل الكامن في حدود مؤول أحوالي أخذ يعتاش مع مستوى التدليل في القصد الفاعل عبر مضاعفة موضعية خاصة من الاستقبال المرسل إليه. ولعل هذه العلاقة القائمة بين المسافة الإيصالية  في وسائل وصولها إلى قلب التلقي بذلك اليسر، إذ أن وجود تلك المواضعة الاستجابية في مكنون تلك الدرجة المحققة من مدار التفاعل الأحوالي لدى العلاقة الممتدة ما بين (مسافة الملفوظ = الإيصال الدلالي = الاستجابة في ذائقة المتلقي) وعندما نتعامل من جهة هامة مع خصائص وموجهات قصيدة الشاعر في فضاء محمولات نصوصه الشعرية، لسوف نعاين مستوى الإرساليات الدوالية  التي تشكل بدورها كحاضنة لأحوال خاصة من أيقونة المشاعر والرغبات والتخيلات الواصفة والمخاطبة والمجترحة لذاتها عنفوان ذلك الزمن المتقصي في مساءلة الأنا والقصيدة ومراغبة ذلك العشق إلى الحبيبة أو إلى رمزها المتشكل بأدق صور الإيصال الدلالي المؤثر والمستثير.

ـ الولوج إلى النص من أبواب الزمن الآنوي.

قد تؤدي القيمة العنوانية للنص، ذلك الاشتغال المتعدد في قابليته الكيفية،إذ تعمل مناصية العنونة ذلك الارتباط الأزلي الواقع ما بين أوليات توقعات الحسية المتخيلة لدى الشاعر والتي تتخذ لنفسها من عبر هذه العتبة الأولى في النص، كوسيطا ممهدا للدخول نحو متن تماثلات الزمن الدال في صيغته الأدائية، قد نلمس ما جاءت به قصيدة (القصيدة) من دوارت زمنية تسعى نحو الولوج بالدال استحضار لشواهد وتداعيات حسية مضخمة:

سنواتٌ .. وسنواتْ

أكتب

والقصيدةُ ناقصةْ

دوما

ناقصةْ .. / ص17

يبدو أن ماهية السؤال الزماني في مظهر دال (سنواتٌ .. سنواتْ) التكراري يتضح كلازمة تأطيرية في منطقة الحال الظرفي، لذا فإن فسحة الأداة التنقيطية الواصلة مابين الدالين، تمدنا بمسألة الزمن العمري ـ الذاتي ـ ومن ناحية ما من قصدية الإشارة المعبئة نحو محورية الإرسال نحو أفق من اللامحدود للجهات الاستقبالية من الوجود النصي، إلا أن جملة اللاحق (أكتب .. والقصيدة ناقصة) تضع هيئة اللاكتمال في المعنى، كحالة نواتية تشارف بالبحث عن ذاتها الشعرية في تفاصيل مضمرة من مضاعفة المعنى نفسه، إي بمعنى ما نود قوله، أن الشاعر يسعى إلى التقاط تلك البنية الكونية الدالة من المعنى الشعري (الميتاشعري) بوسائل ليس هي من الحيلولة في موضوعة البدايات المنصوصة بـ (سنوات .. سنوات) وهذا الأمر ما يؤدي لملء سؤال النص بأحوال التقصي النوعي نحو إيجاد ذلك المحتوى من الدلالة الإيصالية المؤثرة في مكنون المعنى المرسل على جادة اليقين من أنه هو الشعر، وبذلك جاءتنا ملحقات النص لتعلن لنا وللشاعر كفاءة علاقة البحث الزمني والمعرفي الدؤوب عن اختبارات ما حول تلك القصيدة الناجعة:

أكتب وسأكتب ...

مهما طال عمري ...

حتى تزولَ بيننا

الفاصلة ..../ ص17

هذا ما قلناه سببا في بادىء القراءة، بأن حالة الوصل في محدثات الوظائف قد لا تنتهي قسرا، إي من ناحية أن طاقة الإيصال الشعري بالدلالة تنحو نحوا مؤهلا نحو قصيدة الشاعر.

1 ـ تماثلات فضاء التسمية وتمكين علاقة الملفوظ:

استنادا إلى ما ذكرناه في المبحث الأول من دراسة قراءتنا، نتواصل الآن تأهيلا واختبارا وتقويما نحو ورقة (تماثلات فضاء التسمية) لنعدها كمرحلة ثانية في مشغل شعرية الشاعر في مجال قصائد ديوانه الموقر، حتى يتاح لنا القول بأن مجالات النوع الموضوعي في النص الشعري، عبارة عن حالات خاصة ومكونة على صعيد الذات الشعرية، وبهذا الحال فأن عملية التوافق بين (موضوع ـ ذات) هي حصيلة فعل استباقي قائم بدوره على أفق واصلة رابطة بين حالات (كينونة ـ علاقة محايثة ـ ملفوظ فاعل ـ صيغة مفعول منفذ) وتبعا لحجم مستوى هذه الفواعل العملية في آليات النص، تخضع لدى الشاعر ممهدات مشروع القصيدة إلى جانب شروطها الأدائية والكفائية في حدوث القدرة على تكوين النص نفسه. وعلى هذا النحو لعلنا وجدنا في نموذج قصيدة (ما أعظم أسمك !) المناسبة الكاملة بين كفاءة الجهة ومطلوبية إرادة الفعل الشعري في سياق حالات النص:

سيِّدَةُ ...

يُطيعُها البحرُ

تهَابُها الرياحُ

أغنيةٌ للناسِ هيَ

في كلِّ البِقاعِ ... /ص12

يمكننا قراءة هذه الأسطر التصديرية من النص، على أنها الصياغة الحتمية لمقرر موضوعة النص، لذا فأنها تمتلك المراعاة المشار إليها في محاسن تلك السيدة، ورغم ما تحمله الدوال من ارتجالات المشار إليه، تبقى الممارسة الدالة للدوال ضمن حيز ونزعة قصيدة الممدوح، إلى جانب كونها مستوى واضحا في أبعاده المدلولية وفي نقطة الملازمة من الإمكان الملفوظي، لذا أن ما تحدد في دال (سيدة) يشكل في ذاته حالة مجملة ولا توجد علاقة جهاتية مخصوصة في أمر هذا المرسل، سوى أنه يشكل بذاته حدود بياضية من رصيد قصدية الشاعر المضمرة، إلا أن ما جاءت به مجموعة جمل (يطيعها البحر = تهابها الرياح = أغنية للناس هي = في كل البقاع) تبقى بمثابة الصورة الواصفة في معادلات استعادية أخذت تتلقاها الذات الحسية كوقائع متبلورة في مفاصل من الشد التخييلي، وقد يتوافر فيها ذلك الطابع من حساسية الذات الشاعرة عبر أوراقها الخاصة.

2ـ خصوصية العاطفة وأسرار شعرية الصمت:

تنحو قصيدة (بلاغة في الصمت) في ديوان الشاعر نفسه، نحوا إمكانيا في تصعيد حالات اللغة الشعرية عبر تعاملاتها مع الوظيفة الإيحائية، التي تذكرنا ببلاغة الفن الموسيقي، وهو يدخل القلوب بلا أصوات أصابع العازفين أنفسهم. وموضوعة قصيدة الشاعر في هذا الصدد تسعى إلى أن تكون صورة ذاتية تجمع ما بين راهنية الحب والحلم والرويا في سياق من سيميائية الدال الشعري في العلامة والروح والذات مجردا, فالشاعر موفق ساوا أخذت تتضافر لديه القصيدة موضع بحثنا، تحت هيمنة وسائلها وطرائقها الوجدانية، ونظرتها السريالية من جهة وإيقاعها الرومانسي من جهة أخرى. إذ نقرأ من هنا ما جاءت به القصيدة :

كان الحبُّ بيننا

رنينَ أجراسٍ

يَبْلُغُ المَسامِعَ كلَّها،

عمياناً و مُبصَرينَ

و كلَّ الناسِ . / ص21

إذ نرى، بكل وضوح، من خلال هذه المقاطع الشعرية المجملة في أول النص، بأن هناك تأثيرا في موضوعة لغة العاطفة من جهة الشاعر، فهو يسعى من جهة هامة إلى تحويل لغة الصمت الوجداني نحو مرحلة زمنية تتعدى عينات لغة الكلام المتداول، لأن ما يشعر به الشاعر في الواقع ما لا يناسب ولا يتسع مستوى القول الظاهري من المنطوق، بل أنه هذا الصمت مكونا تتجسد فيه ومن خلاله كل مؤديات سبل الوصول إلى مفاهم وأسماع الناس : فما هذا الحب يا دكتور موفق ساوا؟ الذي غدا يحاكي موحيات لغة الأجراس ويبصره الأعمى والبصير ويصغي إليه حتى الأصم؟ حقا هناك قصدية واضحة ومتفق عليها في بوح الشاعر سرا، بخاصة إذ كان هذا الشاعر مخلصا في معادلة قلبه وسمعه ودستور عاطفته، ووفقا لما قرأناه في محاور القصيدة، يحق لنا الكتابة عن تجربة قصائد الشاعر بذلك الانصياع من الاستجابة الحسية في قصيدته، خصوصا بعد أن نقرأ مثل هذه المقاطع اللاحقة من النص نفسه:

كان حبُّنا يَرنُّ

يرنُّ

خريفاً ...

وربيعاً

وكانت بغدادُ ترتدي ثوبَ الليلِ

المُرَّصَّعِ بالنجومِ

الْتَقيْنا ...

رقصْنا و تَمَشَّيْنا

كنتِ دوماً تضحكينَ

و كان الصمتُ

لغةَ العشقِ بيننا .../ ص22

ـ تعليق القراءة:

فالصمت إذن هو الأداة التي راح الشاعر يتدبر من وراءها أواصر الوصل والواصلة الدلالية في سرانية لغته، لذا فإن الشاعر أيضا في هذا الصدد جعل يعارض أبن جني عندما أعتبر خصائص أصوات الكلام هي الوسيلة الوحيدة للتعبير عن أغراض الكلام نفسه، غير أننا نجد في لغة صمت الوجدان الشعري في عوالم قصائد (مولاتي أنت) تصل إلى أبها حكايا الحب وسحر لغة الغرام، وهذا الأمر ما وجدناه في أغلب قصائد الديوان، غير أن هناك في الوقت نفسه مجموعة من القصائد التي تحمل من الكثافة والمضاعفة الشعرية كقصيدة (أمي / سبعة أيام / أستجوبوني .. لأنني أحلم / حي الأحبة /كوني كما شئت) وقصائد أخرى ثمينة من الديوان نفسه قد لا يسع لنا المجال إلى دراستها جملة وتفصيلا، سوى القول بأنها جاءت في سياقات شعرية إمكانية تتمظهر بأعلى مستويات اللغة و العاطفة والحلم واللحظة الشعرية المنفتحة نحو أسمى فاعلية في فضاء القصيدة المتماسكة والدالة في تراكيبها الأسلوبية والبنيوية والعلامية، لتقدم لنا أحكم وأدق وأعذب معطى في مجال مستحدثات القصيدة الفاعلة في آفاق نواتها الإجرائية والدوالية والدلالية الأبداعية الرصينة .. فشكرا للشاعر الدكتور موفق ساوا لأنه حقا أتحفنا بما يمكن لنا تسميته بالقصيدة .

 

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم