صحيفة المثقف

حاتم حميد محسن: اقتصاديو السويد.. مؤيدو التخطيط ومعارضوه

حاتم حميد محسنعند الأزمات تتصاعد الأصوات لإتخاذ إجراء حكومي. هذه الأزمات تغذّيها اليوم موجات الهجرة، التغيرات الهيكلية الناتجة عن التكنلوجيا، العولمة، الخوف من تقلبات المناخ والقلق من كساد كبير. التطورات هذه تحفز الاندفاع نحو القومية والحمائية. الدعوات لإتخاذ فعل ما تأتي من الأسفل ومن الأعلى. جميعها تميل الى خلق المزيد من سيطرة الحكومة. افكار التخطيط الاقتصادي جرى استعادتها مجددا وزجها في ساحة المعركة.

يمكن انتقاء بعض الدروس من فترة ما بين الحربين العالميتين. بعد الكساد الكبير عام 1929،تزايدت الطلبات الى تخطيط اقتصادي في العديد من الدول مقابل "فوضى" السوق. الثلاثينات من القرن الماضي كانت فترة الشعبوية والحمائية والتدخل الحكومي ومحاولات خلق اقتصاديات مخططة. نحتاج فقط لنتذكر الخطط الخمسية في الاتحاد السوفيتي،والخطط الرباعية في المانيا النازية، والتخطيط النقابي في ايطاليا الفاشية والولايات المتحدة، والعديد من المبادرات في بريطانيا العظمى.

خلال العشرينات من القرن الماضي، بدأت تتكشف نقاشات الحسابات الاشتراكية في المانيا حول القارة الاوربية،متحفزة بعمل لودفيج فون ميز (1881-1973) Gemeinwirtschaft. أبرز معارضيه كان الاقتصادي البولندي اوسكار لنك (1904-1965). وفي الثلاثينات، اتسع النقاش الى العالم الانجلوامريكي، وبشكل رئيسي من خلال عمل فردريك هايك (1899-1972) التخطيط الاقتصادي الجماعي. هايك واجه معارضة من زميل مهني في مدرسة لندن للاقتصاد وهو دوربين (1906-1948) الذي حشد جداله لأجل التخطيط،. معارك الأربعينيات من القرن الماضي حول التخطيط الاقتصادي كانت حامية متأثرة بالإدّعاء بنجاح تخطيط زمن الحرب، لكن الحجج الاساسية كانت مأخوذة من فترة ما بين الحربين.

وفي بلد آخر وهو السويد،جرى نقاشا حادا حول التخطيط الاقتصادي  ولكن لم يتأثر بميسز ولانك وهايك او دوربين. الحجج الرئيسية في هذا النقاش جاءت من اربعة اقتصاديين يمثلون اجيالا  مختلفة وهم : جوستاف كاسل (1866-1945)، وايلي هيكشر (1879-1952) كانا كلاسيكيان مؤيدان لليبرالية السوق عارضا التخطيط الاقتصادي. وتلميذيهما الاكثر شهرة جونار ميردال (1898-1987) و بيرتل اولين (1899-1979)، وهما، اشتراكي، و "ليبرالي اجتماعي"، يدعوان الى التخطيط. الأسئلة في هذه المقالة هي: ما هي الحجج الرئيسية لهؤلاء الأربعة؟ ما هي مصادر الهامهم؟ كيف يمكن مقارنتهم بهايك و دوربين؟

الحجج الرئيسية:

في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، كان جوستاف كاسل و الي هيكشر اقتصاديين سويديين شهيرين ومؤثرين. كانا كلاهما يمثل ليبرالية السوق وصنّاعا نشطين للرأي العام. هما حشدا الجدال ضد التخطيط الاقتصادي في اواسط العشرينات عندما تصورا هناك تهديدا من الديمقراطي الاجتماعي السويدي،الشيوعية السوفيتية والفاشية الايطالية. هيكشر زار روسيا في عام 1925 واستطاع ملاحظة الفوضى هناك بام  عينيه.

حجج كاسل وهيكشر:

1- اقتصاد السوق ليس فوضويا وانما هو شكل من التخطيط اللامركزي.

2- لا وجود لمخطط مركزي يستطيع استيعاب الكمية الهائلة من المعلومات التي يعالجها  نظام السعر الحر (اليد اللامرئية).

3- السياسيون غير مناسبين ليكونوا مدراء اقتصاديين.

4- البيروقراطية هي "كابح للعجلة".

5- المخططون المركزيون لايمكنهم السماح بالاختيارات الحرة للعمال في أعمالهم، او الاتحادات العمالية او الإختيار الحر للمستهلك في السلع.

6- تجارب التخطيط تكشف عن اللاخطة، والحكومة لاتستطيع ادارة بعض واجباتها الاساسية مثل الاعتناء بالنظام النقدي.هيكشر توقّع جدالا كبيرا حول حجة الخيار العام: لا يستطيع المرء تعيين حالة نظرية تامة لتصحيح اللاكمال في السوق الواقعي. في العالم الواقعي هناك  فشل في كل من الحكومة والسوق. كاسل طرح فكرة مشابهة عندما  رفض "الايمان بالعقلانية المطلقة وبفاعلية ادارة الدولة للتجارة والصناعة".

التصور الشائع هو ان جونار ميردال،"المهندس الاجتماعي" الشهير،الى جانب وزير المالية الديمقراطي الاجتماعي ارنست ويغفورس، كانا المحرّض الاساسي لأفكار  التخطيط الاقتصادي في السويد. لكن، بيرتل اولين بدأ هجومه على ليبرالية السوق،متحفزا بالليبراليين البريطانيين الجدد عموما وجون ماينرد كنز خصوصا، قبل عدة سنوات من ظهور ميردل على مسرح التخطيط. رسالته هي ان "التنظيم المخطط، وضمان العقلانية والفاعلية بدلا من نظام المجتمع القديم في الحرية الاقتصادية، اصبح نظام اليوم". العقلانية كما سميت، كانت اكثر اهمية من الحرية.

في عام 1930،رسّخ هيكشر النقاش حول التخطيط الاقتصادي من خلال هجومه على اجراءات التدخل التي اريد بها مساعدة الفلاحين والتي وصفها بـ "تخطيط اقتصادي بدون خطة،بعد النموذج المألوف في روسيا السوفيتية". النقاش بلغ ذروته عام 1934.

التخطيط ،حسب ميردل، كان فكرة"تزحف في كل مكان" ولكنها كانت حقا "شيء أقل نجاحا". عندما أعقب ميردال  كاسل كبروفيسور في الاقتصاد في جامعة ستوكهولم،  ألقى محاضرة افتتاحية رفض فيها المعلمين الليبراليين وايمانهم في السوق كـ "مدينة فاضلة عفا عليها الزمن يغذيها الحالمون الطارئون". اولن و ميردل اكدا بان الظروف الاقتصادية تغيرت،من خلال الوحدات الاقتصادية الكبيرة والذهن الهندسي الذي استلزم اطارا سياسيا جديدا ومؤسسات جديدة. الأزمة الاقتصادية استلزمت مجموعة من تدخلات الحكومة – الخيار البديل كان الثورة والدكتاتورية – وهذه التدخلات يجب ان تُنسّق بطريقة عقلانية وفعالة.

الحجج الموسعة للمعارضين للتخطيط 

1- المخططون سوف يفضلون مصالح المنتج.

2- الحكومة ستكون مرهقة

3- سلطة التخطيط سوف لن تكون قادرة على التصرف بسرعة كافية بوجه الظروف المتغيرة

4- هناك ستكون اسواق أقل عددا ولكن اكبر حجما

5- التخطيط القومي يعني ان جميع إجراءات الأعمال تصبح فعلا سياسيا

6- النتيجة النهائية ستكون الدكتاتورية

هيكشر جرى تذكيره بفرانكشتن "الذي خلق الوحش والذي وقع هو ذاته ضحية له". اثناء نقاش شهير في مؤسسة الاقتصاد السويدية سخر من أصغر زملائه كـ "متحمس بقوة للاقتصاد المخطط" وأضاف: "انوفهم امتلئت بهواء جديد الى النقطة التي بدا فيها لا هواء آخر للتنفس". ميردل عزل نفسه عن "الوصف المرعب"لـ"الاقتصاد المفروض وغير المنظم وبلا خطة" الذي رسمه هيكشر، واولن قد لا يفهم الصورة التي اضفيت على "بعض انواع الاقتصاد الموجّه الغامض والمتطرف".

الداعون والمعارضون للتخطيط يشتركون بفهم أساسي. وهو ان جميع الظروف الاقتصادية – حجم الوحدات الاقتصادية وديناميكيات الاقتصاد العالمي – بالاضافة الى الذهنية الشعبية قد تغيرت. لكن، هم لايتفقون كليا حول كيفية معالجة هذه التغيرات. الداعون للتخطيط رغبوا باطار عقلاني طويل الأمد. المعارضون رغبوا بالاحتفاظ بأكبر حصة ممكنة من قوى السوق طالما هم اعتبروها أفضل شيء لإرشاد التحول الاقتصادي المستمر.

كلا الجانبين اعترفا بانه، مهما كانت التدخلات مؤسسية، فهي يجب ان تُنسّق. لكن، الداعين رغبوا بالكثير،والمعارضون بالقليل. الداعون رغبوا بحل مجموعة من مشاكل معينة. المعارضون حسبوا ان كل تدخل سيخلق تدخلا آخرا في عملية تراكمية تقود الى الدكتاتورية ونهاية الحرية الروحية،موضحين بالتفصيل ما سمي لاحقا التدخل الديناميكي.

كلا الجانبين رغبا في الدفاع عن الديمقراطية لكنهما لم يتفقا حول الوسائل. الداعون اعتقدوا ان الديمقراطيات عليها ان تستعمل الكثير من نفس وسائل  الدكتاتوريات لكي تكون قادرة على التنافس. قال اولن في اجتماع اقتصاديي الشمال عام 1935 "انهم متشددو مانشستر الليبراليين، يعارضون كل تدخل للدولة، يهيء الارضية للدكتاتورية والشيوعية". كاسل جادل عكس ذلك بان "تدخل الحكومة المحير بطبيعته التراكمية باستمرار" يعني ان "الاقتصاد المخطط سوف يميل دائما ليتطور الى دكتاتورية" ويخنق التقدم الاقتصادي. المعارضون كانوا مقتنعين ان اساس الديمقراطيات الليبرالية – اقتصاد السوق – يجب ان يُحمى . ميردل جادل بان التصور بان الحرية الاقتصادية يمكن ان تكون اكبر او اقل هو "معرفة قبلية ميتافيزيقية" في رؤوس ليبراليي السوق الساذجين.

الداعون الى التخطيط ربما كانت لهم اليد العليا في ادّعائهم كونهم مطلعين على آخر الظروف الاقتصادية، لكنهم مترددين في مناقشة المبادئ. هم رغبوا بمناقشة تدخلات معقولة لكن تنسيق جميع التدخلات كان هدفا يجب معالجته في وقت ما في المستقبل. في هذا الموقف، يمكن رؤية القرابة بين الاشتراكية والتخطيط  كنقد حاد للظروف الحالية لكن بتحفظ في مناقشة ما سيعنيه حقا النموذج البديل.

المعارضون رغبوا بمناقشة المبادئ، مناقشة ماذا يشبه الاقتصاد الموجّه المتطور بالكامل وهم احيانا استعملوا امثلة شيوعية وفاشية ونازية لإثبات الواقع السيء. عمل اولن – اقتصاد حر ام موجه في عام 1936 أنهى النقاش حول التخطيط وطرح "مسارا وسطيا". اولن كان رائد التخطيط  بين الاقتصاديين، وكان قاسيا مع معلميه هيكشر و كاسيل. هو كان دائما، عكس ميردول، وضع الحدود ضد الاشتراكية واقترح نوعا من الاطار التخطيطي. ومثل كنز، هو رغب بإنقاذ عناصر ضرورية في المشروع الخاص،وعندما انتعش الاقتصاد،نمت وبقوة السمات الليبرالية الكلاسيكية لليبراليته الاجتماعية . اولن توقّع الاقتصاد المؤسسي الجديد عندما اوضح بان المؤسسات تصنع "قواعد اللعبة" لكي تقلل من تكاليف الإجراءات. ميردل عبّر عن افكار مشابهة في مقالته الافتتاحية.

مصادر الإلهام

نادرا ما يشير الاقتصاديون السويديون الى مصادر الالهام. وهذا ليس غريبا طالما حججهم كانت قد طُرحت في النقاشات العامة والصحف. اولن كان استثناءً ومصادره كانت بريطانية فقط. الكيفية التي صاغ بها الآخرون افكارهم هي أكثر او أقل غموضا. كاسل وميردل، المدرب والمتدرب بقيا متشابهين في مجال واحد: كل منهما عُرف بالادّعاء كونه الأصل في معظم افكاره. احد الأسئلة التي يصعب الإجابة عليها هو ما اذا كان المعارضون للتخطيط واعين بنقاش الحسابات الاشتراكية المعاصرة. وفي اية حال، هم لم يشيروا الى مايسز او هايك. يجب على المرء ان يضع في ذهنه ان كاسيل وهيكشر كانا كلاهما اقدم من مايسز، واكثر قدما من هايك. كاسيل وهيكشر كافحا الاشتراكية منذ بداية القرن وربما لم يريا اية حاجة لإستيراد الحجج من الزملاء الشباب في دول اخرى. كاسيل بالذات كان سيء السمعة في عدم إعطاء الآخرين استحقاقهم،ولكن في مذكراته ذُكر معظم الناس الذين تفاعل معهم ولكن دون ان يكون معهم مايسز وهايك .هيكشر تبادل بعض الرسائل مع هايك ولكن فقط بعد الحرب العالمية الثانية.

مقارنة بين هايك ودربن

الى أي مدى استطاع السويديون تقديم حججا دائمة الصلاحية؟ سوف نقتصر على النظر في الحجج الرئيسية المترشحة من النقاشات السويدية حول أهم الحجج المؤثرة المضادة للاقتصاد المخطط، الطريق الى العبودية لهايك،والحجج المضادة له من الناقد  دوربن.

جميع الحجج الكبرى للسويدين المعارضين للتخطيط تظهر في كتاب هايك. اقتصاد السوق ليس فوضويا، لا مخطط مركزي يستطيع الاحاطة بكمية المعلومات التي يتولاها سعر السوق الحر، سلطات التخطيط غير قادرة على الفعل السريع بوجه تغير الظروف، البيروقراطية هي "كابح للعجلة"، تدّخل واحد سيخلق تدخلا اخرا في عملية تراكمية تقود للدكتاتورية.

بعض الداعين للحجج يمكن ايضا مقارنتهم بموقف هايك. رؤية ميردل للتخطيط كـ "كشيء غامض جدا" تتطابق مع قول هايك ان "فكرة التخطيط الاقتصادي المركزي تدين بجاذبيتها كثيرا الى غموض معناها". حجة ان التغيير التكنلوجي و العدد الكبير من الوحدات الاقتصادية يجعلان التخطيط حتميا هي حجة جرى نبذها من جانب هايك باعتبارها احدى "المغالطات الاقتصادية المألوفة". فكرة ان التخطيط ينبع من ذهنية هندسية لم يتم التحقق منها من جانب هايك، لكنه اعتبرها "ترسخت بفعل مشاكل المجتمع المتعلقة  بعادات التفكير الناتجة عن الانشغال بالمشاكل التكنلوجية".  

اخيرا، بعض المقارنات مع حجج دربن. نظر اولن وميردال الى التخطيط كشيء غير ناجح. دربن يقول ان "التخطيط لا يعني وجود خطة". اولن وميردل استجوبا صورة الاقتصاد الموجّه الشديدة والغامضة. دربن استجوب بنفس الطريقة صورة هايك لـ "المجتمع القاسي والصارم". اولن وميردل لم يريا التخطيط يقود الى الدكتاتورية. ولا دربن ايضا: "نحن لدينا تقاليد قديمة في نمو الديمقراطية مترافقة مع نمو فعالية الدولة".

يبدو ان الاقتصاديين السويديين كانوا متقدمين في انتاج جدال مع وضد التخطيط الاقتصادي. بعض الأسباب في تلك الصدارة تعود للثقافة السويدية القوية في ذلك الوقت في الانخراط الصريح والمفتوح  للخصوم المثقفين في المنتديات الرئيسية للخطاب العام. في مئات المقالات كاسل وهاكشر ناقشا مع ميردل واولن ، كل واحد منهم يدفع الآخر لشحذ وتوضيح الحجج لموقفه.

 

حاتم حميد محسن

.........................

More or less economic planning? Enduring Arguments from Sweden, Oct 5, 2020, Library of Economics and Liberty

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم