صحيفة المثقف

قاسم حسين صالح: العراق وطن بلا طفولة

قاسم حسين صالحتوطئة: في (20/تشرين الثاني/ 1989)، اعتمدت الجمعية العامة هذا اليوم يوما عالميا لإعلان حقوق الطفل، وقدم العالم تعهداً للأطفال (بأن نبذل قصارى جهدنا من أجل حقوقهم في البقاء والنماء وفي التعليم والتحرر من العنف وسوء المعاملة وفي المشاركة وإسماع الصوت..). وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة اوصت في عام 1954 بالقرار 836 بان تُقيم جميع البلدان يوماً عالمياً للطفل وتركت حرية الإختيار لها، واعتمد الاول من حزيران من كل عام يوما عالميا للطفل تحتفل فيه اغلب دول العالم بضمنها العراق.

*

منذ (41) عاما واطفال العراق ضحايا مفجوعون صامتون.كان اول ما استلب منهم هو حياة الطفولة بمرحها وبهجتها والعابها واغانيها، يوم نشوب الحرب العراقية الأيرانية (1980).اذكر انني كنت عام (1978) عضو لجنة مشرفة على برامج الاطفال في تلفزيون بغداد تضم ايضا الروائية لطفية الدليمي والكاتب باسم عبد الحميد.كانت برامج (الكارتون) تنتقى من مناشىء مختلفة: تشيكوسلفاكيا، بولندا، الاتحاد السوفيتي، اليابان، وامريكا.وكانت البرامج المحلية المخصصة للاطفال هي الاخرى ممتازة مثل: لغتنا الجميلة، سينما الاطفال، الشاطر، وبرامج تعليمية اخرى.وكانت اغاني الاطفال تعبّر عن عالم الطفولة ومفرداتها، منها اغنية تقول: (شوفو شحلو بيدي الطباشير.. شوفو شحلو ارسم عصافير.. رسمت وردة.. وفراشة عالحقل اتطير). 

أطفال العراق.. أكثر أطفال العالم معاناة من الخوف والجوع والفقر

وكان اخطر خلل سيكولوجي حدث للاطفال المولودين عام 1980 وما بعده، ان تشكّلت لدى هذا الجيل (يؤلف حاليا بحدود 70% من المجتمع العراقي) صور ذهنية ومعتقدادت ومدركات مشوهه بخصوص نفسه والاخرين والعالم والحياة، وأخرى غير سوية بمواصفات الصحة النفسية. ففي السنوات الثمان للحرب العراقية الايرانية تشكّل لدى الاطفال مفهوم ان العالم عدائي وان الاخرين يريدون افناءه. وبمشاهدته لجثث قتلى الحرب بدءا من برنامج ( صور من المعركة) في الثمانينيات، الى مشاهد التفجيرات اليومية في المدن العراقية التي صارت تستهدف المدنيين، الى بشاعة جرائم قطع الرؤوس.. تراجعت لدى هذا الجيل (قيمة الحياة) التي كانت مقدسة.

اذكر حين كنت طفلا بالخمسينيات، وانا ابن قرية، حضرت موكب تشيع رجل توفي وهو في السبعين من عمره.. كان الجميع يشعر بالأسف والحزن على وفاته. هكذا كان ذلك الجيل (الكبار حاليا الذين لا تتجاوز نسبتهم 30%)، يحترم قيمة الحياة التي انعدمت لدى جيل الشباب.والى هذا السبب نعزو جرائم القتل وبشاعة قسوتها في الاحتراب الطائفي التي قامت بها مليشيات من الشباب.

كنّا نأمل ان تنتهي استلابات الطفولة بسقوط الدكتاتورية ويعود للطفولة عالمها الذي يشبه عالم العصافير.. لكن ما حصل للاطفال في الزمن الديمقراطي كان افضع وابشع. فبحسب تقديرات وزارة العمل (2010) فان (4,5) مليون طفل فقدوا والديهم او احدهما. (بالمناسبة، يتيم الحرب لا يعرف من قتل اباه فيما يتيم الاحتراب الطائفي يعرفه، ولهذا ينشأ لديه دافع الاخذ بالثأر ولن يخف دافع الانتقام لدى هؤلاء اليتامى ما داموا احياء).

وتشير منظمة اليونسيف الى ان اطفال العراق يعدّون اكثر اطفال العالم معاناة من الخوف والجوع والفقر جراء العنف والارهاب والتهجير والاهمال منذ وقوع العراق تحت الاحتلال، وان اكثر من (360) الف طفل يعانون من امراض نفسية، فيما افادت ممثلة الامين العام للامم المتحدة قبل عشر سنوات ان 50% من طلبة المدارس الابتدائية لا يرتادون مدارسهم ، و 40% منهم فقط يحصلون على مياه شرب نظيفة.. فيما صار حالهم الان اقسى واوجع بعد التهجير القسري لثلاثة ملايين عراقي!

العراق وطن بلا طفولة

ولأول مرّة في العراق تم استخدام الاطفال في اعمال اجرامية بقتل ابناء وطنهم، بدأت بمنظمة طيور الجنة التي شكلتها القاعدة ووصلت الى قيام داعش بتشكيل افواج من الاطفال ، لاسيما في مدينة الموصل، بتدريبهم حتى على قطع الرؤوس. ولأول مرّة ايضا تم بيع اطفال العراق قبل عشر سنوات في دول الجوار واخرى اوربية، وأجبرت فتيات بعمر الصبايا على الدعاره، وعرضن للبيع في سوق النخاسه كالفضيحة التي بثها التلفزيون السويدي عام (2013).. لتصل فيما بعد الى بيع الفتيات بعمر ست سنوات بمئتي دولارا للأيزدية الواحدة!.

ومع كل هذه المصائب ، فان بين السياسيين من يعدّ موضوع الاطفال قضية ثانوية ازاء وطن منكوب وشعب موجوع مفجوع، مع انه اهم ثلاث قضايا الى جانب الامن والخدمات، لسببين:لأنهم اكثر الفئات الاجتماعية التي يجب ان تحظى بالرعاية في اوقات الازمات والكوارث، ولأن هذا الجيل الصامت الان، والمأزوم نفسيا، هو الذي سيحدد مستقبل العراق.

لكن واقع الحال يشير الى انهم مهملون.والمفارقة ان المسؤولين في حكومات ما بعد التغيير ليسوا جميعهم جهلة، بل بينهم من جاء من مجتمعات متقدمة لا سيما المجتمع البريطاني.. يعرفون ان الطفل في بريطانيا يخصص له راتب يوم يولد، يوضع في البنك ويستلمه حين يكمل السابعة عشرة مع الارباح المتراكمة، فضلا عن تأمين صحي واجتماعي، فلماذا ما تعلموا هذا العمل النبيل من بريطانيا التي عاشوا فيها سنين ويحملون جنسيات تؤكد انتماءهم لمجتمع متحضّر؟

لا تفسير لهذا الاهمال سوى ان الذين صاروا بالسلطة وفّروا الرفاهية لأطفالهم وامّنوا مستقبل حتى احفادهم، وما عاد يعنيهم بؤس وشقاء ملايين الاطفال.. بل ان لديهم من قساوة القلب وموت الضمير ودناءة النفس انهم يسرقون مخصصات النازحين.. وعجبي كيف ان الممثلة الامريكية، انجلينا جولي، بكت حين شاهدت اطفالنا النازحين.. وما اهتزت شواربهم على اطفال اهلهم وكأن الغيرة العراقية.. مسحوها من جبينهم بورق التواليت.

اللعنة منّا عليكم.. مباشرة وبالوجه.. واخرى مؤجلة.. تأتيكم من جيل الاطفال هذا يوم تغادرون السلطة والدنيا.

 

ا. د. قاسم حسين صالح

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم