صحيفة المثقف

جمال العتّابي: بماذا وصف ستالين كاتبها؟

جمال العتابيرواية (الحفرة) ...مدفن لأنقاض الأحلام والآمال!

.. إنتهى  الكاتب الروسي أندريه بلاتونوف (1899-1951)، من كتابة روايته (الحفرة) عام 1930، ولم تنشر إلا عام 1987، توفي الكاتب قبل أن يرفع الحظر عن نشر رواياته، لهذا السبب لم يكن بلاتونوف إسماً معروفاً لدى القارئ العربي، وكذلك القارئ الروسي، إلا ان دار السؤال اللبنانية للنشر، يسّرت لنا ثلاث روايات باللغة العربية (الحفرة، بحر الصبا، الأشباح)، بترجمة خيري الضامن، في أواسط العقد الثاني من هذا القرن، ونحن بصدد قراءة نقدية لرواية (الحفرة)، التي ظلت ممنوعة منذ عام كتابتها، لأفكارها الجريئة في إنتقاد البيروقراطية، ودكتاتورية الحزب الواحد، والنظام السوفيتي الشمولي، ويعدها بعض النقاد انها من أهم ما كتب بلاتونوف.

تدور أحداث الرواية في إحدى نواحي (الإتحاد السوفيتي)، حيث يجري الإعداد لبناء مجمع سكني تعاوني، لأبناء الحي، وطالما تبنت الدولة بناء هذه المجمعات، على أمل تعزيز الخطوات نحو بناء (الإشتراكية)، الا ان العقلية البيروقراطية في الادارة، والصراع بين عمال المشروع من جهة، ومع الادارة من جهة أخرى، ومع فلاحي المنطقة، دفعت بالمشروع الى الفشل، وقد عبَّر بلاتونوف عن أزمة حقيقية واجهتها الدولة، تتمثل بصعوبة تحقيق التوازن بين تلك القوى، والتغلب على التناقض ومخلفات الصراع بين القديم والجديد.

لقد شعر بلاتونوف بالنفور والإمتعاض من إجراءات إرساء نظام اشتراكي دون مراعاة واقع المجتمع وظروف البلاد، كان معارضاً للحروب، بإعتبارها حروباً إمبريالية،  وقودها أبناء الفقراء، ولحمهم طعماً لنيران المدافع.

وصلت الرواية الى يد ستالين، كتزكية لقراءتها، على أساس ان بلاتونوف أحد أعضاء الحزب وشبابه، فكان تعليق ستالين عليها: هذا كاتب خبيث، فهل يعقل أن يكون عمال الحزب بهذا القدر من الخسة والدناءة كما يصورهم هذا الملعون؟؟ ويبدو ان مستشاري ستالين  دفعوا بالرواية له، كتشجيع لروائي شيوعي شاب، قبل أن يقرأوا الرواية.

مُنعت الرواية من النشر لعقود من الزمن، وفي حينها جرت محاولات لملاحقة الكثير من المثقفين.

لم يكن من السهل مواصلة التطور الحثيث نحو خلق البنى التحتية (للإشتراكية)، بعد ثورة أكتوبر عام 1917، الإنعطافة الكبيرة في مسيرة التاريخ العالمي، كان أمراً غاية الصعوبة، في ظل إقتصاد ضعيف متخلف مدمّر، وتوفير السكن والطعام والخدمات.

إعتمد بلاتونوف الإيحاء، والتصوير، والرمز، وكانت الحفرة التي إشتغل بها مئات العمال، ترفد الرواية من الداخل برمزيتها، وتثريها بالحوار والصراع والتأزم، ولم تبرأ الرواية من الخطب الصغيرة، والمناقشات المعبّرة عن آراء الكاتب في تلك الأزمة، وإلتزم الروائي ببناء سردي يتراوح بين تداخل القيم، والصراع في دوامةالحب الزائف والكراهية، يحمّل كل طرف مسؤولية ما يحدث أيما طرف آخر، الروائي يلجأ للامعقول، والكوابيس، والاحلام، وهو لا يحتاج إلى أن ينتحل تجربة، أو أن يتخيلها، بل يكشف عن قدرته في إستثمار الحياة اليومية بنبض المعايشة الحارة، وصدق الألم الإنساني، في القبض على الحقيقة، التي ظل يبحث عنها (فوشيف)، الشخصية الرئيسة في الرواية، المتأملة، المنطوية على نفسها، شاردة الذهن، فوشيف يعبر عن ازمة المثقف بالقول: كنت أتأمل وأفكر أثناء العمل، لذا فصلوني، بدني يعاني ويخور لغياب الحقيقة. ويتسع عالم السرد لشخصيات أخرى تتقاسم دور البطولة، فيتراجع الفاعل الرئيس بينها.

يضع بعض النقاد  بلاتونوف بين الكتاب المتشائمين، ويصفه آخرون بأنه (كافكا روسيا)، ورواية الحفرة تنطوي على أجواء كابوسية، في الأحداث، والأسلوب، والكشف عن أبعاد الشخصيات، غير ان العالم الذي ينتجه خيال سقيم، يبدو في كثير من الاحيان مطابقاً للواقع الإجتماعي، أو التاريخي،

(الحفرة)، عالم للغربة،  والنزاع، والإنسان المزدوج، وهو أيضاً العالم الذي يفقد فيه الإنسان وعيه بذلك. ويبدو بلاتونوف في فصول عديدة من الرواية أميناً، لتقاليد الرواية الروسية، ببنائها الرصين المألوف في مزايا السردية الروسية، لذا يصفه النقاد انه أهم الروائيين الروس ما بعد ثورة اكتوبر، ويقف الى جانب غوركي، وشولوخوف، وبولغاكوف، في وحدة الجو والأثر، والبناء المستقر، والمغزى الواضح، من وراء عرض التجربة الإنسانية في تنويعات سردية مألوفة وجديدة. وعلى مستويات وأبعاد متعددة، يوصلها للمتلقي بلغته الروائية الخاصة. التي تسيل بعفوية ولغة شعرية، مع امتلاك قدرة هائلة على الوصف.

بلاتونوف جعل من الحفرة نقطة الإرتكاز التي تدور حولها الحوادث، والنص الروائي يتركز حول هذه البؤرة من التجربة السياسية، لتتحول رمزياً الى مدفن جماعي، يقوم على أنقاض الاحلام والآمال، يمتلك الراوي مزيداً من الجرأة، ويسلك طريق المواجهة لا طريق السلامة، فيزداد على تحطيم الاطر التقليدية، وإستنباط الصور والرموز من اللاوعي، إستنباطاً عفوياً، الإنسان في الحفرة في حالة إغتراب عن المجتمع والنظام، والمؤسسات، وهو في حالة صراع لتجاوز إغترابه.

الحي أو المدينة هيمنا على تمثيل الوطن، حيث فقد ركائز علاقته بالواقع والمجتمع والسلطة، وإستطاع بلاتونوف أن يفضح الكوامن كاشفاً عن مصير تسقط فيه التجربة. وإنهيار الحلم. ان تراجيديا الانهيار والسقوط تحطم العلائق المنطقية، وتعيد خلط الاوراق إذ يتحول العالم إلى سديم، إلى رؤية غائمة لا تتميز فيها ملامح الوجوه والأسماء، كل الفلاحين الفقراء يبذلون قصارى جهدهم، وكأنهم ينشدون النجاة إلى الأبد في أعماق الحفرة، هذه نهاية الرواية، أوالنتيجة التي  سعى إلى تأكيدها بلاتونوف.

 

   جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم