صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: قراءة جديدة في رواية (الرجل العجوز) للكاتب الأمريكي وليم فوكنر

حيدر عبدالرضاالعجوز المائي المتوحش في زمن السرد وخسران الانموذج المقصدي

توطئة: تأخذنا المفاصل وآليات البناء السردي في دلالات شكل ومضمون رواية (الرجل العجوز) للكاتب الأمريكي (وليم فوكنر: ترجمة سمير عزت نصار) نحو علامات متماثلة من الشد النواتي المحكوم بحضور الشخصيات الخطية الواقعية المرسلة داخل فضاء من الحبكة الصراعية التي جعلت تتوزع فواعلها الذواتي والزمانية والمكانية في رقعة موضوعة استيلاء الفيضان على مزرعة السجن الاصلاحي وصولا بهذا المد الطوفاني الكاسح إلى مجمل المدن والقرى الكبيرة، بعد ما أن اضطرت السلطات الحكومية إلى تفجير بعض مواضع السدود المائية، نظرا للسماح بمرور هذه القوة المائية بالانتشار داخل مجرى الأنهار والجداول. ويأتي هذا الأمر بفعل يقارب التماثل الملحمي في مؤشراته النواتية والدلالية، إذ يكون الكون الحكائي في الرواية، وكأنه يحيا داخل مرحلة جيلوجية مرعبة في الوحشية المائية الكاسرة.

ـ المتن الحكائي بين التصدير العتباتي المرسل والعلاقة التعالقية في الدلالة.

يمكننا تسمية إذا شأنا من جهة ما تلك المدخلية الأولى من النص الروائي بما يناسب مرحلة (التصدير المرسل) أو التجسيد السردي في ظل علاقة متقاطعة ومنفتحة تتكون من خلالها الأدوار العاملية للشخوص السجناء في المعتقل الاصلاحي ومن جهة ما بين طرف المبررات التي قادت كل من ذلك السجين الطويل الضامر البطن الساخط حول مجمع الشرطة والقضاة والمحامين الذين احبطوا محاولته في السطو على ذلك القطار والذين هم من قد أودوا به إلى هذا المصير من السجن: (أمضى في السجن خمسة عشرة عاما ـ إذ وصل بعد فترة قصيرة من عيد ميلاده التاسع عشر ـ لمحاولته السطو على القطار . / ص8 الرواية) مما قد أثار انتباهنا في أحوال جريمة هذا السجين الطويل القامة، إنه كان يمارس في عملية سرقاته استنادا على مخططات نادرة ومثيرة في الحبكة والإخراج، كان جلها ما يتبع رؤى ووسائل أغلبها كانت مصادر من الروايات والقصص كحال حكايات دياموندديك وجيسي جيمس، ومن كان على شاكلتها من روايات عائدة لأمثال من هؤلاء الكتاب. لذا فهو تراه ساخطا أيضا على هؤلاء الكتاب في رواياتهم في الوقت نفسه، لأنهم مع أحكام المادة القانونية لجريمته، غدا وضعهم أيضا من تسبب في مصير سجنه هذا. تظهر لنا العتبة التصديرية من الرواية مثل هذه الوحدات الزمنية والظرفية ـ ظاهر واقع النص: (كان هذا في نهر الميسسبي، في أيار / مايو أثناء فيضان سنة 7291 . / ص7 الرواية) كما تؤكد لنا الأحداث الأولى من المتن الروائي، كيفية ممارسة حياة السجين الطويل القامة جل يومه في العمل لحراثة الأرض، إذ تنكشف لنا حقيقة بأن السجن كان عبارة مزرعة للقطن، يشتغل فيها السجناء المصفدون الأرجل تحت أمرة التهديد بالبنادق المصوبة نحو أجسادهم بفوهاتها المدببة والمتصلة من أسفلها بأنصال حراب لامعة. وهكذا يمض السجين طوال عمله بمواصلة تفكيره المتشنج حول قيم الرطانة القانونية التي ساقته بين غرف المحاكم والمحامين وكتاب العدل، ولكن دون جدوى ما من تغيير واقع انقياده الحتمي إلى السجن الذي هو مزرعة مثمرة للقطن يعمل فيها طوال ساعات يومه والسلاسل تقيد أرجله المعفرة بالطين والبذور. أما السجين الثاني المكتنز الأطراف وقصير القامة، كان عاجزا عن إتمام عمل الحراثة في الأرض على الوجه الأكمل، حتى أنه بدا منغلقا على نفسه، وكأنه جاء بلا إدانة قانونية على جريمة ما أرتكبها على نحو ما، سوى أنه أختار سجن ولاية المسيسبي والاصلاحية الاتحادية في اتلانتا. وتكمن حقيقة مفاضلته لهذا السجن،  لسبب كون طبيعة هذا المعتقل يسمح لسجنائه أن يتعرضوا للهواء الطلق وتحسس دفء أشعة الشمس: (كان دليلا آخر على لغز شخصيته المنغلقة، كشيء مميز يظهر للعيان للحظة من تحت ماء آسن غير شفاف، ليعود ويغرق فيه ثانية..لم يعرق أي من زملائه السجناء طبيعة جريمته..لم يعرفوا سوى أنه سقيم في السجن مائة وتسعا وتسعين سنة. / ص11 الرواية) في الحقيقة تسعى أنظمة علامات الرواية من خلال شيفرات محاور أحداثها المنقولة على لسان حال الراوي كلي العلم، إلى نوع من جزالة الإدانة بحق السلطة والتشريع القانوني في زمن كتابة هذه الرواية في أمريكا. فالكاتب وليم فوكنر راح يرمز محتواه النصي في الاتجاه الذي بدت من خلاله كل أعراف القضاة وكتاب العدل وشريحة الشرطة، ممن اساؤا استخدام نفوذهم السلطوي والقانوني على حساب مصير حياة السجناء المساكين، فهو ـ أي فوكنر ـ قد لا يتفق من جهة ما مع حقيقة كون أولئك السجناء هم من الأناس الأشراف قطعا، بقدر ما كان يحاول أن يصور للقارىء مدى فوضوية تلك الأحكام الجائرة والمفتعلة في حجم مصداقيتها على حال جانحة السجين نفسه. وهذا الأمر بدوره ما راح يفسر لنا كيفية إجراء محكومية السجين الأخير في هذا المأهول من الأعوام الخرافية، دون ظهور أية شائبة عليه في سابق ولاحق زمن سجنه.

1ـ التحيين الزمني كفاعلية مشدودة نحو العقبة الظرفية:

من يقدم المحكي في الواقع الشخوصية، ويديم من ضرورة الاستقلال الدوري والصوتي هو الراوي كلي العلم نفسه، ولكن ضمن ملكة خاصة من التحيين الزمني ـ الأدائي ، الذي يجعل من السارد العليم وكيلا بديلا على وظيفة محكي الشخوص، ولكن هذه الوظيفة بدورها لا تتخذ بذاتها موقعا شخوصيا بالوكالة التامة عنه، إذ يتطلب التحيين العاملي، أن يكون الشخصية القائم بصوته المفرد في جمل حوارية واستذكارية، إي ما أود قوله أن الراوي كلي العلم لا يمكنه أن يكون بديلا عن الشخصية في كل مواقع وظيفة العامل الشخوصي، فقط هناك ما يسمة بـ (الخطاب المعلن / الخطاب الاسنادي) والقول التحييني المستقى من قبل وسائط دمج صوت الراوي في خطاب الشخصية عبر خطابه المباشر، يبقى هذا النوع من الخطاب والذي وجدناه غالبا في رواية الرجل العجوز موظفا عبر تمفصلات أجزاء عديدة من وحدات السرد، إذ بتدخل الراوي فيما ينقله من مروي سردي، هو في حد ذاته يمثل علاقة تنافذ ما بين الراوي والشخصية عبر مبثوث موحيات الراوي نفسه بالصوت الشخوصي في الخطاب الراوائي. وعلى هذا النحو تصور لنا أحداث الرواية كفيفة الوظائف العاملة على أدائية دور الراوي في الخطاب المباشر إلى جانب مؤشرات الشخصية ذاتها في المشهد وتوزعها عبر بلاغة بينية تحكمها ضوابط الراوي المتحين توخيا نحو اكتساب درجة مقنعة من ملفوظ ومؤهلات الشخصية المكونة في النص. فهذه الاعتبارات منها يمكننا فهم ما كان يقوم به السجين البدين الكسول من أعمال فاشلة في كل مجالات العمل مثالا في ورشة النجارة أو دفع المحراث في الأرض أو حصد الثمار، فأمام كل هذه الأعمال بدا خاسرا، ما جعله متفرغا لأعمال تخص التنظيف والطبخ وغسل الصحون وقراءة الصحيفة اليومية بين حشد غفير من السجناء ممن لم يكونوا يجيدون القراءة والكتابة.

2ـ الفضاء الداخلي للذوات وعنفوان الظهور المائي:

إن النقطة الفاصلة بين نهر الميسسبي وحقول القطن في مقر السجن، لا يفصلها  سوى ذلك السد الضخم، ورغم أن أغلب السجناء ممن لم يتاح لهم النظر إلى ذلك النهر أحرارا، سوى أنهم أحيانا يرهفون السمع إلى صفير وصافرات بعض الزوارق الطافية سيرا من خلال مجرى النهر بين أوقات متباعدة نوعا ما، ولكنهم عندما سمعوا أخبار ما قرأه عليهم السجين القصير القامة في منشور الجريدة، من أخبار أرتفاع منسوب المياه من خلف السد: (وسرعان ما عرف حتى أولئك الذين ربما لم يسبق لهم أبدا، كالسجين الطويل، أن رأوا ماء يزيد حجم ما تجمع منه عن حجم بركة سقي الخيول: ماذا تعني ثلاثون قدما على جهاز قياس منسوب ماء النهر في كايرو أو ممفيس، فصار باستطاعتهم أن يتحدثوا ـ وتحدثوا بالفعل ـ بطلاقة عن تحطيم المياه للسدود..لعل ما أثرت فيهم فعلا هي قصص المجندين العاملين في السد..خليط من سود وبيض يعملون في نوبات عمل مضاعفة ضد أرتفاع الماء المطرد..قصص رجال، حتى أن كانوا زنوجا، أجبروا مثلهم على عمل لا يتقاضون عنه أجرا يزيد عن طعام خشن يتناولون ومكان في خيمة أرضيتها من طين . /ص13 . ص14 الرواية) قد يلاحظ بأن الراوي المتكلم في وحدات السرد قد أشار بمحمل التوكيد عبر وحدة هذه الجملة (وتحدثوا بالفعل؟) فالصوت المروي هنا جاء بصيغة المعروض الجمعي الخطابي المشار إليه في مسرحة الفعل المبئر نحو المجال المشارك من الفعل الشخوصي كحالة من الإفراد في تفعيل دورها وبتأطير وصولا إلى مرحلة الرؤية الفردية لكل واحد من السجناء، فيما ونقل الأحداث وفق رؤية جماعية لها من العلاقة التجسيدية الجماعية في حدوث مثل ذلك الأمر، وليس من المصلحة العامة للرواية الإبقاء على صوت الراوي الكلي في مخصوص هكذا نقطة عاملية فاصلة التكوين. أما ما ذكره الراوي في صدد وحدة(زنوجا، اجبروا مثلهم على عمل لا يتقاضون عنه أجرا لا يزيد عن طعام خشن) فهذه بدورها التفاتة إلى المرحلة العنصرية الزمنية القائمة في النزاع التمييزي بين الجنس الأبيض والأسود في الولايات المتحدة الأمريكية، غير أن الأمر الآن صار مصيرا واحدا أخذ يتعاضد عليه(الأبيض =الأسود) في مجال زمني ومكاني وجنسي متوحد، ومجال المبئر هنا ينسحب أيضا على مصير السجناء في هذا الموقع الزنزاني القريب من السد بعدة خطوات أو أكثر: (قال أحد السجناء: أظن أن هذا يعني أنها ستنهار الليلة؟. / ص15 الرواية) من خلال هذه الوحدة الحوارية، صار للأصوات الشخوصية الأخرى من قرار واهتمام وقلق، ليتسلل إلى داخلهم ذلك الخسران حينا بكونهم هم من قام بزرع الأرض التي سوف تهتكها الأمواج القادمة، وحينا لايغادرهم ذلك المقت بأن هذه المحاصيل التي تحملها فسائل النبات لا تعود إلى ملكيتهم ،حتى ولا إلى أولئك الحراس الذين لن ينفك أحدهم من تغيير موضع فوهة بندقيته من أمام أجسادهم رغم صعوبة المصير الذي سوف يلحق بهم جميعا.

ـ الفجائية الطوفانية والشخوص المصفدة في عربات اللامكان.

أن من جملة مميزات آليات رواية(الرجل العجوز) هي طاقة استعادتها في خلق الخوف والرعب في أرجاء ملحمة النص الروائية، فجميع الأبعاد الرمزية في صنيع المؤلف هي دليلا على حضور صورا معادلة من وظيفة الرمز المحمول في الأنموذج الحبكوي. قد نعاين من هنا من آلت إليه اسطورة الفيضان الفجائي في متن النص وإغراق الحقول والبيوت والمؤسسات والمعتقل  بصورة جزئية ما، وهذا الأمر بدوره ما جعل حراس السجن يطلقون حالة الطوارىء وإخلاء لجميع السجناء إلى أماكن مجهولة الجهات: (حين يبزغ الفجر المتأخر والسيال، كان السجينان مع عشرون سجينا آخر في شاحنة / وبلا سابق إنذار، رأوا الفيضان الذي ظل السجين المكتنز يقرأ عنه وهم يصغون إليه منذ أسبوعين. / ص17 الرواية) أن وليم فوكنر يطرح في مساحة روايته هذه، موضوعا كبيرا، بخاصة أن الأمر يتعلق بحيوات سجناء مكبلين بالأصفاد وهم يواجهون أعتى خرافة فيضانية في العالم، يستمر الصراع مع السجناء في كيفية الوصول إلى بر الأمان، ورغم أنهم يواجهون عقبات قد تحالفت عليهم في المساحات الغارقة من الطوفان: (بدا كأن الماء نفسه مؤلف من ثلاث طبقات، منفصلة ومحددة، السطح الرقراق المتهاوي حاملا نفاية مزبدة وأطواق غيرة الحجم من حطام عساليج شجر ويحجب كما لو كان هذا بحساب شرير اندفاع وعنف الفيضان نفسه. / ص19) نرى أن محفزات الخطاب الروائي، يستمد محاوره من خلال وصف الروائي إلى طبيعة الفيضان، وكيفية صعود منسوب الموجات إلى مستويات متجاوزة قمم الأشجار وأعمدة الكهرباء وسقوف المنازل، إذ بدت أرتفاعات منسوب المياه تغزوا مرافق وسطوح وسفوح المرتفعات الكبرى.

1ـ العجوز المائي ومبأرات الفضاء المغلق والمفتوح:

أن ما جعل الراوي كلي العليم يبئر (الجسد المائي) ويضفي عليه تلك الهالة الموحشة والاغترابية، يعود إلى طبيعة التصوير الذي قام به فوكنر إلى تلك المحققات من تراتيبية (الفضاء المكاني المغلق) والذي غدا محددا في وسائط نقل مجموع السجناء إلى أماكن مبهمة من الخارج الفيضاني المفتوح، أما فيما يتعلق بالشخوص فبدت كدوال مضغوطة داخل الشاحنة، وبذلك صارت الأبعاد المكانية كهوامش من المفتقد والغائب إزاء جبروت الكائن المائي العجوز المتوحش: (مرت الشاحنة بكوخ زنوج، كان الماء مرتفعا حتى عتبات النوافذ..امرأة تمسك بطفلين قرفصت على عارضة السقف العلوية.. بدأت من هناك امرأة جالسة على قمة بيت تصرخ على الشاحنة المارة وصوتها يصل إليهم ضعيفا شجيا عبر الماء البني، ليخفت شيئا فشيئا بينما الشاحنة تمر بها وتواصل سيرها إلى أن انقطع صوتها أخيرا،دون أن يعرف أولئك الذين في الشاحنة إن كان هذا الانقطاع بسبب المسافة بينهم وبينها أم بسبب أنها كفت عن الصراخ ./ ص20 الرواية) ومن خلال هذه الوحدات السردية الأخيرة، نعاين كيفية الدقة والحركة في غياهب الزمن، فعملية انسحاب صراخ المرأة، عن أسماع السجناء، تتكفل بأداء تماثلات زمنية مفارقة في وسائل بلوغ الزمن نفسه لمواضع المكان، فهذا الأمر بحد ذاته يبلغ من الزمانية مكانا للتفارق والتوحد، فهو مفارقا لأن الشاحنة كفضاء متحرك، وثانيا متوحدا لأن الظرف الذي فيه المرأة مساويا إلى مصير الشاحنة وهي تشق رحلتها المجهولة في أمواج من الحياة الكونية الفيضانية القاهرة. كما سوف نلاحظ لاحقا بشكل مسهب، تلك الإضافة المكانية في واقعة تأزم سير الشاحنة: (توقفت الشاحنة، نزل السجين الموثوق به من القمرة وأتجه نحو مؤخرة الشاحنة وجر رفشين من بين أقدامهم وحداهما يصطدمان بتلوي السلسلة الأفعواني حول كواحلهم. / ص21 الرواية) أن المجال المكاني هنا يلوح بديمومة (الزمن المنقطع) ما جعل من السجين الموثوق به والحارس في حركة توتر نفسانية، وهذا الأمر راح ينسحب بدوره على مشاعر السجناء المحشورين بأجسادهم داخل زنزانة الشاحنة: (قال أحد السجناء: ما هذا؟ ماذا تنوي أن تفعل؟ لم يجب السجين الموثوق به، عاد إلى القمرة التي نزل منها أحد الحارسين ورشاشه ليس معه . / ص21) فينفصل بذلك صوت السارد العليم عن منظور المخاطب الشخوصي، ليسلط الضوء على سمة أن الحارس بلا بندقية مجردا هكذا من ضوابط العلاقة الداخلية، كونه رجلا يقوم بحراسة شاحنة محشوة بالسجناء، ذلك لأن هول المكان غطى بتفاصيله على كل الاعتبارات النزوعية، ليحل محلها ذلك الأحساس بالنجاة بالمصير الفردي لذاته.

ـ البنية التشكيلية في إيقاع المكان والمصير المضمر

إذا ما تفحصنا البنيات المكانية المؤطرة في مفاصل المشروع الفيضاني، لربما ألفيناها موسومة بذلك المسار الوصفي المحفوف بدلالات المبنى التشكيلي الكامن في سياق الحكي، إي بمعنى أدق نقول أن التواصل في الأجزاء المتقدمة من رحلة الشاحنة داخل انحرافات رشاش الماء من بين حواف بواطن العجلات الموحلة،تذكرنا بمكونات لوحة (ساحرة الأفاعي) لهنري روسو. لولا بعض الاختلافات ما بين النصين كون الأول بصريا، والثاني مقروءا، قد نعاين مؤثثات ذلك المكان الذي وصلت إليه أخيرا رحلة الشاحنة المقررة بالتوقيت الظرفي: (حوالي الظهر وصلوا إلى المدينة..كانت الشوارع مرصوفة، أصدرت عجلات الشاحنة صوتا كتمزيق حرير..الشاحنة تسير بأسرع الآن..الحارس والسجين الموثوق به في القمرة ثانية / أرصفة المشاة مغمورة بالماء وعبر المروج المجاورة، منحدرات وشرفات.. مداخل بيوت حيث يقف أناس بين أكوام أثاث..مروا عبر منطقة الأعمال، ظهر رجل بجزمة ردفية مغمورا حتى ركبتيه بالماء خارجا من مخزن. / ص22 الرواية) في الحقيقة أن هذه المراحل من الوصف التشكيلي ـ البانورامي، يستنهض خلفيات دالة من منظور (إيقاع المكان) التشكيلي، كما يعني ذلك السير للشاحنة بتجاوز السارد والأفعال الشخوصية نحو مزامنة زمنية لاحقة من وقائع السرد الروائي .

ـ تعلق القراءة:

في الحقيقة إن حكاية رواية (الرجل العجوز) من المضامين والأشكال الروائية المتعددة في تأويلاتها، بخاصة أن المدهش فيها يكمن في ذلك العنوان الروائي الموسوم بـ (الرجل العجوز) والذي لا ينطوي بدوره على أية هوية شخوصية في الرواية بكاملها، سوى بقائها ضمن وظائف محتملات رمزية خاصة قد تعنى فيما تعنيه ذلك النهر أو ذلك السجين الطويل الذي غامر بحياته من أجل إنقاذ تلك المرأة الحبلى، وعندما يعود من رحلته يجد إنه زج بجناية هربه من السجن، بعدما قام وكيل آمر السجن بتكليفه والسجين القصير القامة في رحلة إنقاذ ضحايا الفيضان وأكثرهم كانوا من العالقين في قمم الأشجار وسطوح البيوت، وفي طريق المهمة تخلف زميله الكسول عن التقاطه بعد أن طاش بهم الزورق وغاب السجين الطويل القامة في دوامة الماء، وعندما عاد هذا السجين القصير بواسطة زورق بخاري للأنقاذ كان قد ألتقطه طاقمه بعد أن وجده عالقا في أحدى أغصان الأشجار، وعندما حكى هذا السجين لآمر السجن بموت السجين الطويل، حاولوا تدبير صيغة قانونية ما تقر بإطلاق سراح ذلك السجين من فترة حكمه، ولكن الغريبة أن السجين الطويل لم يمت بل راح ينتشل الزورق وينقذ تلك المرأة الحبلى، وعندما عاد السجين أخيرا بصحبة المرأة وطفلها الرضيع، قضى آمر السجن بحقه البقاء في السجن بتهمة جديدة وذلك ما راح يجعل السجين الطويل يظل كل حياته داخل السجن. هكذا حاول وليم فوكنر في روايته الحائزة على جائزة نوبل عام 1949، أن يقدم لنا صورة معقدة من مكونات النهوض بالأنموذج الشخوصي في متواليات مفصلية مستفيضة بالطموح المقصدي الذي كان يطمح إليه ذلك الرجل السجين في أعقاب مغامرته في إنقاذ ضحايا الفيضان، ولكن هذه المقصدية للأسف قد تحولت إلى قيمة محبطة بالخسران الذاتي والعمري للسجين الذي شاء القدر أن يبقى طوال حياته محكوما بالسجن المميت . فعلا أن هذه الرواية تستحق ما وصلت إليه من جائزة نوبل، لأنها جعلت من الهامش فعلا مركزيا مضحيا، ولأنها من جهة هامة جسدت لنا أهم محاورها السردية لأجل أظهار مظلومية الفرد الأنساني ،رغم ما كان عليه من جناية قانونية سلبية سابقة ،إلا إنه من الممكن أن يكون نموذجا مثيرا ومنتصرا وشامخا في ناصية المثال والصورة المثالية بأفعاله العاملية و مكوناته الأمثولية، فيما ظل دال (نهر الميسسبي) بمثابة ذلك المقارب الرمزي المعادل للعلاقة المتراوحة ما بين تاريخ هذا النهر ومكونات وجوده الحافلة بالإيحاء ومتعلقات المعنى اللامرئي أو هو المحقق في نزعة البنية والتشكيل المدلولي المحتمل .

 

حيدر عبد الرضا

 

  

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم