صحيفة المثقف

عقيل العبود: إيقاعات زمن مُتَنافِر ..مقاطع من الذاكرة

عقيل العبودلم تكن مساحة من المكان تجمعها لقاءات العابرين، ولا مقاطع لحكايات ألف ليلة، وليلة فحسب، بل هي مجموعة شهادات أستأنف الخير فيها فصول محنته، لعله يستقطر العطر من الطين الطهور، ويستنشق لغة الفيض من المحبة وفقا لمتوالية أزمنة لم تبتعد عنها ذاكرة الشهود.

**

كانت الدينا تفوح بعطر محبتها، وكنا نستقبل أزهار الحدائق، والبرتقال، ومع الفرح ننشد الأغاني، ننظر نحو الأشجار بحثًا عن تقاطيع الصمت المكتظة بالأحلام، ننتظر الصبح، وأرصفة العاشقين، ترتوي مسامعنا بضجيج الباعة، بينما تلك الأغصان تعانق العصافير.

**

وعلى الضفاف تستلقي قلوبنا مع الزرقة الحافلة بالأمل، والأمنيات، متصالحة مع انسياب الأمواج، تترقب القادمين، وتشتاق إلى ضحكات الصيادين، وشباكهم، ليتها مع الزوارق تشدو لغة الرجاء.

**

تستقبل الوافدين إليها من الجنوب، والمدن المنكوبة، تجمع فصول معاناتهم، تدور بها في أروقة الزمان، تستدعي نافلة عصر تسوده الألفة.

**

ملاذ للعابرين، والأسماء السرية، مدينة قدسية تسكنها الملائكة، ويلوذ بها الطيبون، ذاكرة تبحث عن دروبها المترفة، وأزقتها الفقيرة، تتبعها قوافل القادمين إليها.

**

أسطورة من المحبة، والرفعة، والإبداع تمشي عند أكتاف تراث أثري، تتطلع نحو ذلك المد من الحضور، فجر بروعته تكتحل العيون، ويستبشر بذاكرته الوافدون.

**

كنا بسرية نستمع إلى حكايات الفارين من المراقبة الأمنية في مدن الجنوب، يستأجرون غرفًا رثة بحثًا عن طريق آخر للنجاة، أملاً بالوصول إلى ملاذ آمن.

**

وهنالك على الخط قافلة يزهو بها المبتغى؛ فالطب، والمسرح، والتراث فضاء تجتمع تحت سقفه مفردات عبقرية فذة، وإبداع مستنير؛ كفاءات يقتدي بها ذلك المد من المهارات.

**

وفي الزاوية البعيدة معرض بغداد، والفن، والتراث، والمتحف البغدادي، والمقام العراقي، والكتب القديمة، والرواة ، وحتى ذلك الرسام العجوز، الذي كان يحط بآهاته المتعبة عند الركن الصغير من الرصيف في شارع الرشيد، وعلى الإمتداد باتجاه الشمال من المقهى البرازيلي.

**

مضافًا إلى نكهته ذلك السقف الحالم بحضور طلبة ينتظرون النجاح، منهم جليس تتزاحم أوراقه، وكتبه مع فنجان قهوةٍ إضافي، وسجائر البغداد التي لا يتجاوز سعرها السبعين فلسًا.

**

المشتاقون لأحبتهم يلتقون، تجمعهم المحافل وتلك اللقاءات؛ شارع الرشيد، وشارع السعدون، والمقاهي على أعقابها يحتفي الشعر، بأروقة المنصات ، ليته يلد جيلاً آخر من الطيبين.

***

عقيل العبود

.........................

* في العام ١٩٧٨/١٩٧٩ تحديدًا، هرب الكثير من الملاحقين من قبل السلطات الأمنية التابعة لنظام حزب البعث في المدن الجنوبية إلى بغداد، على أمل الهجرة لاحقًا خارج الوطن.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم