صحيفة المثقف

جمال العتّابي: منحوتات بغداد.. بين الفن والسياسة

جمال العتابيتمثال للفنان فائق حسن يعيق (المترو)!!

تعتمد الرؤية الجمالية في النصب والتماثيل على مجموعة من الإتجاهات، والتقاليد الفنية الجمالية، والخبرات التي يتفاعل معها الفنان والمتلقي، وشهدت بغداد العاصمة منذ التماثيل الأولى التي نحتها الفنان الإيطالي (بيترو كانونيكا)، أستاذ النحت في أكاديمية الفنون الجميلة في فينيسيا، البدايات الأولى في الإلتفات لتأسيس ذائقة بصرية، تشكلها التماثيل المنصوبة في الفضاء العام، وكانت تلك التماثيل تمثل ركائز النظام السياسي الملكي في العراق، وهي تمثال الجنرال مود، القائد البريطاني الذي إحتل العراق، وتمثال الملك فيصل الأول، والآخر الثالث لعبد المحسن السعدون. وخارج هذا السياق، إتجهت أمانة العاصمة في أوائل الأربعينات نحو حملة لتجميل شوارع العاصمة، فكلفت أحد النحاتين الروس( إسكندر الروسي)، بتشييد نافورة من الحجر في شارع الشيخ عمر، تمثل أربعة أسود يندفع من أفواهها الماء نحو حوض دائري، الفكرة مستلهمة من الموروث الأندلسي، وسمي المكان (ساحة السباع)، التي شهدت إنعقاد أول مؤتمر لتأسيس اتحاد الطلبة العام 1948، وحضره الشاعر الجواهري

تمكنت المهندسة المعمارية ميسون الدملوجي، في كتابها (منحوتات بغداد بين الفن والسياسة)، الصادر عن دار درج للنشر والتوزيع 2021، من تتبع محاولات تأسيس فن نحتي عراقي، عبر التاريخ، ومنذ الحضارات التي قامت في بلاد الرافدين، وأكدت على فكرة إستخدام الفضاء العام كوسيلة لإجتذاب المجتمع بعيداً عن الإنتماءات الفرعية، والتركيز على إعادة بناء هوية وطنية.

إن انموذجاً مثل هذه الكتابات، من شأنها تحقيق حوارات ثرية لاحقة، تعمق الصلة بمورثنا الفني النحتي، بما يستدعي توظيف قوانا الثقافية والوجدانية، لإضاءة العالم المرئي، وحسم الموقف لصالح الأثر الفني، غير ان الدملوجي وجهت إهتمام القارئ والمتتبع نحو الجانب التوثيقي في فصول الكتاب الأربعة، في سياق تاريخي، بدأ مع بناء الدولة العراقية في العام2021، وبحسب إختصاصها المعماري، فأنها أنارت جانباً مهما من تاريخ العمارة العراقية في إطارها الكولونيالي، بتأثير المهندسين المعماريين الإنگليز، وكان أثر ذلك واضحاً في مباني جامعة أهل البيت في الأعظمية، والمحطة العالمية في الكرخ للمعمار جيمس ولسن، بلمحات من طراز (الآرت ديكو)، الذي لم تقدم لنا الكاتبة تعريفا لمعناه، فظل لغزاً للقارئ غير المتخصص، وهو في الحقيقة، تيار تصميم معماري ظهر في فرنسا أواخر القرن التاسع عشر، يعتمد الأشكال الهندسية البسيطة، والزخارف التقليدية مع المواد الممكنة.

ان التحول المهم في العمارة العراقية بدأ في أوائل الخمسينات، إذ ترافق مع تأسيس مجلس الإعمار العراقي، الذي وجه الدعوة لكبار المعماريين في العالم للمشاركة في برامج التنمية، وكان بينهم فرانك لويد رايت، وكوربوزييه (صمم قاعة الالعاب المغلقة قرب ملعب الشعب)، ووالتر كروبيوس، وغيرهم من المعماريين الحداثويين.

وفي الخمسينات كذلك ظهرت الحاجة لنصب جديدة تنسجم مع متطلبات العهد الجديد بعد تموز 58 ، وشهدت بغداد، إرتفاع نصب الحرية في ساحة التحرير، الذي صممه الفنان الخالد جواد سليم، وشاركه المهندس رفعت الجادرجي بتصميم الجدارية على شكل لافتة تظاهرات،

شهدت الخمسينات التحولات الأهم في ميادين الإبداع العراقي، وكانت الأعمال الفنية النحتية (النصب والتماثيل)، التي توزعت في ساحات بغداد، ومدن أخرى، تمثل خبرة تجارب جيل من النحاتين الذين تمكنوا من إتقان الأساليب الفنية الحديثة، وتأثروا بمدارسها في أوربا، فقدموا نماذج ناجحة من الأعمال الفنية، ملمّة بموجبات المعاصرة، وبوعي إنساني، وبصياغات غير معقدة في الصورة والرمز والإستعارة، فقاد الفنان العراقي جمهوره نحو أرفع الأحاسيس وأنبلها في جداريات وتماثيل، وأعمال نحتية ظلت خالدة طيلة العقود الماضية.

وتميزت عقود الستينات والسبعينات، وما بعدهما نهضة جديدة، في إنتشار التماثيل والنصب، بمضامين وتوجهات جديدة، وبعناوين وأغراض متعددة،

وبمواد مختلفة، شارك فيها جمهرة واسعة من الفنانين، مغامرين في آن، ومجددين في آن آخر، أو متأثرين بالموروث الحضاري والشعبي، بما يتضمنان من أفكار ورموز تمثل حقيقتنا الزمنية، وتواصلها الإيحائي مع المستقبل. كعنصر فعال في نسيج مدينة بغداد، كما تصفها الدملوجي، والكثير منها، ولاسيما التي تستوحي التراث الرافديني، أصبحت رمزاً من رموز الوحدة والهوية الوطنية، لهذا فان الصراع على إزالة التماثيل والنصب، أو الحفاظ عليها، هو جزء من صراع أوسع بين قوى تتباين في التفكير، والرؤى، والمنهج، والسلوك.

إن ما تأسس منذ خمسينات القرن الماضي، تعرض لأولى محاولات الإجتياح والتخريب والسرقة، بعد الإحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، والجرأة في النقد والصراحة في المواجهة، ونبل المقصد تدعونا إلى إدانة هذة الممارسات ورفضها، فالشعوب المتحضرة تحرص على تراثها الفني والحضاري وتحميه، وعلينا ان نتعلم الدرس من تجارب دول أخرى، وإن تغيرت أنظمتها وحكوماتها.

إن أفكاراً تمثلت بالدعوة لبناء هوية وطنية في النصب والتماثيل، تعدّ آراءً حية ويقظة وغنية، إلا أنها تناولت جانباًمن الأزمة، فالوجه الآخر منها يتمثل بغياب التخطيط، وسوء الإدارات التي تسيدت المشهدين الإداري والفني، وعدم تخصصها، وحالة من الفوضى، والتخبط، والعبث، وغياب المنهج، تسود العلاقات بين الدوائر ذات الشأن (الأمانة العامة لمجلس الوزراء، أمانة بغداد، دائرة الفنون التشكيلية)، بهذا الصدد بودي أن أسوق مثلاً واحداً مضحكاً، ويدعو للرثاء بآن واحد، إذ إتجهت النية لإقامة تماثيل لرموز وطنية وثقافية وفنية عراقية، في بعض المواقع، على هامش فعاليات بغداد عاصمة الثقافة العربية عام 2012، ، ان مشروعاً من هذا القبيل يتطلب موافقة أمانة بغداد على موقع التمثال، كي لا يتعارض و(مترو بغداد!!!!!) الوهمي، بمعنى آخر ان تمثالاً للفنان فائق حسن أمام كلية الفنون الجميلة، أو غيره من الرموز العراقية، تتطلب إقامتها عدم إعاقة المترو !!! وفي ظل المماطلة الفارغة والتسويف، ضيعت العقلية البيروقراطية مشروعاً فنياً كاد أن يجد طريقه للتنفيذ، وما يثير العجب ان هيأة (إجتثاث البعث) منحها الحاكم المدني للإحتلال (بريمر)، صلاحيات واسعة في إعادة النظر بمخلفات النظام السابق، فأقدمت على (إجتثاث) نصب وتماثيل جميلة من ساحات بغداد، بقرارات مستعجلةغبية، وحاولت ان تمدّ يدها الى نصبي الشهيد، والنسور، والأسوء من ذلك ان أقامت تماثيل بديلة لا تتوفر فيها أدنى المعايير الفنية، والقيم الجمالية، وجرت محاولات أخرى، بإقامة تماثيل مشوّهة لاتنتمي لأبسط مفاهيم الذوق بإرادة أشخاص، وإدارات فاشلة، وأحزاب سياسية (اسلامية)، تحديداً، حسب الأهواء والولاءات الطائفية، ومن المعيب والمؤسف ان تنتشر بعض الاعمال في ساحات مدن عديدة عراقية، في الوسط والجنوب على وجه الخصوص نماذج هزيلة وفاشلة، تمثل حالة من الإنحطاط والبؤس ، وتحدٍ لذائقة الجمور، وإستهانة بتراث العراق الحضاري والفني، وبتراث فنانيه ونحاتيه، دون إحترام للجهد الفكري والمعرفي للإنسان في هذا البلد.

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم