صحيفة المثقف

عبد الرحيم جداية: ثنائية الطين في ديوان "الأشجار تحلّق عميقا" للشاعر الدكتور سعد ياسين يوسف

3026 عبد الرحيم جدايةإضاءة:

"لست

قطرة ماء في محيط

بل أنتَ محيط بأكمله

في قطرة ماء

واحدة"

جلال الدين الرومي

المشروع الشعري المتوالي:

يعد المشروع الشعري للشاعر الدكتور سعد ياسين يوسف مشروعاً متوالياً، إذ تناولت مجموعاته الشعرية الصادرة بعد قصائد حب للأميرة عام 1994م، مجاميع متوالية تشكل الشجرة عنصراً أساسياً في تكوين الديوان، ومن هذه المجموعات "شجر بعمر الأرض"  عام 2002م، كذلك مجموعة "شجر الأنبياء" عام 2012م، ومجموعة "أشجار خريف موحش"، تلتها مجموعة "الأشجار لا تغادر أعشاشها "عام 2016، ثم مجموعة "أشجار لاهثة في العراء"  وصولا إلى عام 2021م حينما أصدر الشاعر مجموعته "الأشجار تحلق عميقا"، ويبدو من هذا التسلسل لهذه المجاميع، أن فكرة المشروع ابتدأت عام  2002م ،واستمرت في ست مجموعات إلى عام 2021م.

والشجرة الرمز أخذت صفة الجمع، بأشكال متعددة (شجر، شجر الأنبياء، وأشجار والأشجار) والملاحظ أن الشجر بالجمع لم تأخذ صيغة التصغير، مثل شجيرة أو شجيرات، لكنها أخذت صيغة المفرد في قصيدته "أوراق من شجرة التحرير"، كما "شجرة العود" و"شجرة التحليق"، و"شجرة الموسيقى"، كما وظف في ديوانه بالمفرد "شجرة الأغاني"، واستفاد الشاعر من مفردتي (أوراق وغصن) في ثلاثة قصائد ليدل على الشجرة، في قصائد "أوراق من شجر شتى" و قصيدة "غصن الريش" و قصيدة "غصنان"، وفي خاتمة الديوان تأتي قصيدة "شجرتها" التي ينسبها إلى الأنثى، ولم يذكرها بقوله "شجرته" مما يتوافق مع العنوان "الأشجار تحلق عميقا" حيث شجرتها تؤنث، والأشجار تؤنث أيضا، فلماذا استمر في عناوين دواوينه وآخرها "الأشجار تحلّق عميقا"؟

إنَّ عنونة الديوان ( الأشجار تحلّق عميقاً) لم تأتِ صدفة بل وفق معنى خاص وعميق لتقدم لنا منظومة شعرية خاصة بالشاعر سعد ياسين يوسف تسلّم فيه كلّ قصيدة زمامها للقصيدة التي تليها وكلّ قصيدة من قصائد المجموعة هي جزء من منظومة محكمة ببناء متقن للنصّ الشعري ومن يقرأ هذه المجموعة بتسلسل من النصّ الأول إلى الأخير سيجدها تتحدث عن ثنائية الطين والوطن في مواجة التحديات التي واجهت شعبه.

ومما يطرح السؤال حول عنوان الديوان، هل تحلق الأشجار في الداخل الإنسانيّ العميق، في بوح صوفي رقيق، وتعيش عزلتها أم تشكل انطواءً تاماً، هذا ما نجده في قصائد الديوان، خاصة في قصيدة "ما تحت الرماد"، أما حالة التشظي فقد تكون حاضرة في قصيدة "يابس وأخضر"، ولربما يكون التحليق عميقا هو التحليق عاليا في عمق السماء، ومما يدل على التحليق قصيدته "شجرة التحليق"، وأيضا قصيدة "جذور واجنحة"، وقصيدة "تحليق" أيضا.

وبالعودة إلى السؤال ربما يلاقي هذا الاستفسار أجوبة عدة ومنطقية، تتوافق مع ضمير الشاعر، أو يؤولها الناقد، وربما يكون التأويل والتحليل والتفسير في قصائد الديوان دالاً في قصيدة "مشهد مرتبك" التي سبقت قصيدة "اغتيال الخضرة" لنجد القلق الوجودي بادياً عياناً في قصائد الديوان، وفي مجمل قصائده، لكنَّ الأمل يبقى معلقاً في قصيدة "نخلة وفسيلتان" فهي رمز التعدد والتنوع والانتشار.

وأعتقد أن قاعدة الجمع للأشجار جاءت لتدل على جمع القلة (3-9)، على عكس شجر التي تدل على الكثرة، والتعدد والانتشار، فالجمع عدد إما قليل وإما كثير، وهذا واقع الحال على الكرة الأرضية، التي تشكل عنصرا من عناصر الكون، الكبير والمتنوع، فليست الأشجار وحدها متنوعة وكثيرة ومنتشرة، بل الشعوب والقبائل من البشر متنوعة وكثيرة، فليس المفرد الأصل، إذا تمعّنا في الواقع ودرسناه، لكنَّ الجمع هو الحقيقة، فالمفرد واحد والواحد أحد هو الله وحده لا شريك له، وما دون ذلك متنوع، وأكثرها أزواجا للحفاظ على ديمومة النسل، والحفاظ على الوجود والنمو والتطور، وعدم التعرض للهلاك والانقراض.

عناصر الولوج إلى فهم الديوان:

جاء الديوان قيد الدراسة، والبحث والتحليل للشاعر الدكتور سعد ياسين يوسف، بعنوان "الأشجار تحلّق عميقا" ولفهم المقصود ب(عميقا) يقدم الباحث احتمالات ثلاث:

1- الرسوخ:

فالشجر يدل على الصلابة والقوة، بسبب مظهر ساقه، وهذا غير النباتات الأخرى الرقيقة، فالشجر هو كل ما قام على ساق، فالشجر يحلّق عاليا، والنبات ينجم عن الأرض، أي يرتفع عنها، والشجر شديد التحمل والصبر، فالنخلة تقابل الجمل في عالم الحيوانات، وتأتي الأصالة من جذور الشجر القوية الممتدة في باطن الأرض، والأصالة هنا عند الشاعر أصالة معنوية، تدل على تاريخ العراق القديم المتجذر في الجغرافيا والتاريخ، لهذا جاء الرسوخ بسبب الأصل العميق منذ آلاف السنوات للعراق القديم، ولا ثبات لمن ليس له أصل ثابت، وتأتي كلمة أشجار عندما تجمع على القلة مؤنثة،  فيقول الشاعر "أشجار تحلّق عميقا"، أما شجر فهي اسم جنس جمعي مذكر، لهذا جاء ديوان الشاعر "شجر الأنبياء" فنقول هذا شجر.

فالأشجار مهما تعالت، عليها أن تبث جذورها عميقا للثبات، والصمود، والنمو، والرسوخ في الطين والوطن، حيث يقدم الشاعر مصطلحي الطين والوطن، في مساحات مختلفة من ديوانه، كما يفتتح ديوانه بالطين والوطن، فهذا الرسوخ عملي ورمزي، عملي لاستمرار الحياة، ورمزي للشهادة على طين الأرض، ومحتوى الوطن التي تنبت فيها الأشجار.

2- الذات:

والذات مفرد ذوات، وهي ما يجول في الخاطر، ودواخل البشر من أفكار، وأحلام، وأسئلة وأبحاث، فالذات والنفس قرينان، وثالثهما الروح، مما يشكل مثلث علاقة الداخل عند الإنسان بين الذات، والنفس، والروح، التي يصعب تحليلها وشرحها الآن، إذ تحتاج سياقا آخر للشرح والتفسير، لكن هذا المثلث هو الصوت الداخلي للإنسان، ضعف الصوت أم كان قويا، فقوة الصوت رسوخ وإيمان، وضعف الصوت هزيمة وانكسار، ويعيش البشر بالجمع كما الأشجار في تفاوت مستمر بين قوة الذات والنفس، وقدرة الروح على الصمود.

والذات تعيش بين الموجب والسالب، بين إقدام واحجام، فالذات الموجبة صنو الأشجار، بصلابتها وأصالتها، وقوتها، وشموخها، وتحليقها عاليا، لتشكل رمزا لحضارة ما بين الرافدين، حضارة العراق القديم والجديد.

3- الكون:

فالأشجار والإنسان جزء من هذا الكون، المتنوع، والمتغير بأرضه وسماءه، والممتد والمتسع، بكواكبه ونجومه، والذي ما زال العلماء يبحثون في أسرار هذا الكون، محاولين الوصول إلى تلك المجرات التي تشكل هذا الوجود.

وبالعودة إلى العنوان الأشجار تحلّق عميقا، يأتي السؤال هل تحلق في الداخل العميق، أي في الذات، والضمير، والنفس، لتشكل انطواءً وعزلةً داخل الواحد، مما يجعل من الفرد واحد في منظومة، حسب التصنيفات المتبعة، أم هو التحليق عميقا في السماء، فالعصافير تحلق والطيور تحلق، والوصول إلى أبعد نقطة هو العمق، وكذلك الأشجار تحلق في السماء وصولاً إلى أبعد نقطة تستطيع الوصول إليها لتبلغ عمق السماء.

فالديوان الأشجار تحلق عميقا، عنوان بسيط المفردات، إشكالي المعنى والعلاقات، هذه الإشكالية التي تأخذنا إلى جدلية التحليق عميقا، فأي عمق تريد وأي عمق تصل، وما الغاية من هذا التحليق، أهو الانخلاع من الطين والوطن، وهذا لا يتناسب مع ماهية الأشجار، وصلابتها، والنخل وسموه، والعراق الضارب في التاريخ، لكنها تبحث دائما عن الرسوخ عميقا في طين الوطن.

مقاربة فلسفية وفكرية وتأملية:

وقد ضمن الشاعر مقولة ابن عربي التي يقول فيها:

"إنّي نظرتُ إلى الكونِ وتكوينهِ،

وإلى المكنون ِوتكوينهِ،

فرأيتُ الكونَ

شجرة"

قد يعتقد البعض أن الشعر من الشعور، وهذا صحيح قولاً وعملاً، لكن الشعور المستمد من هموم، وقضايا، ومشكلات الوطن، إضافة إلى ذلك الشعور المستمد من خبرات، وأقوال العلماء في الدين، والتصوف، وفي الكون والفيزياء تشكل قصيدة مثقفة، ولا يقصد بمثقفة أنها قصيدة تقوم على الفيزياء، أو تقوم على ايدولوجيا معينة، أو قصيدة تسرد لنا التاريخ، فالقصيدة المثقفة تستمد قوامها من الشعور المغذى بكل تلك المكونات، حيث تعلو قيمة القصيدة بالموروث الذي تحمله، والثقافة التي تمدنا بها.

وها نحن نقف امام الشاعر الدكتور سعد ياسين يوسف، متسائلين هل الناظر في هذا النص لابن عربي، الشاعر أم المتلقي، وهل يمثل هذا النّصّ القصيدة المثقفة عند الشاعر، فنستطيع أن نرى ابن عربي في ثنايا ديوان "الأشجار تحلّق عميقا"، وكذلك الديوان الذي كتبه سعد ياسين يوسف، يعيد النظر في ذاته، من خلال لافتة ابن عربي، التي تشمل عدة مفردات وهي:(أنا، نظر، الكون، التكوين، المكنون، شجرة)، هذه المفردات الست، يقرأ الناقد من خلالها، والمتذوق العلاقة الثقافية بين ابن عربي والشاعر، مع اختلاف فلسفات كلّ منهما.

فالشاعر يتدبر بعقله، ومشاعره، وأحاسيسه لفهم هذا الكون، أما ابن عربي فيفهم الكون في غيابه عن الكون، ورؤية وجه الله، فالصوفي في خلوته يصل إلى علم لدنّي لا يصل إليه الشاعر، فيستعين الشاعر بالفهم الماورائي لابن عربي، ليعمق فهمه في الكون وتكوينه، والبحث للوصول إلى هذا المكنون، فتنسجم رؤية ابن عربي، والشاعر في رؤية الكون (شجرة).

وهذه الرؤية تحتاج التأويل دائما، لأن الرؤية هنا رؤية قلبية، لا رؤية عينية، ويقصد ابن عربي بأني رأيت الكون شجرة، أي تفكرت في هذا الكون، فلم أجد مثالا لتماسكه وترابطه واتساعه وعمقه إلا الشجرة، فالشجرة في الرؤية نظير الكون عند ابن عربي، وهذه الرؤية تطابق الصورة العقلية والذهنية والقلبية عند الشاعر الدكتور سعد ياسين يوسف.

فكلاهما يطرح السؤال هل هو الكون أم الغياب؟، أي هل هو الظاهر أم الباطن؟،

فالكون ظاهر للعيان والباطن هو التأويل، وهذا الغياب عند المتصوفة هو الوجود في حضرة الله، كيفما نظر واينما نظر، وهذا الاختيار لابن عربي، هو اختيار واع لما يجد الشاعر في نفسه من سمات، لا يجدها إلا في ابن عربي، فكلاهما باحث في هذا الوجود وما خلفه، الذي يسميه البعض العدم، وآخرون يسمونه بالماوراء، أي ما لا تستطيع الحواس أن تدركه، فيدركه الشاعر، وابن عربي في الطاقات ما فوق الحسية، وهنا يعلوان على الثقافة، والفكر، والاحاسيس، إلى مشاعر وعاطفة لا تلتقط ذبذباتها إلا روح صافية، تحلّق في الملكوت عميقا عميقا.

وكذلك تحلّق الأشجار عميقا في الملكوت، ولا أقول بهذا أن ديوان "الأشجار تحلّق عميقا" ، هو ديوان صوفي، بل إنه ديوان مثقف أخذ من الصوفية خطاه، وتتبع آثارها وأخذ من الفلسفة خطاه وتتبع آثارهم، فالفكر مزيج من أشياء ندركها، وأشياء لا ندركها، فما الذي أدركه ابن عربي، وما الذي أدركه الشاعر سعد ياسين يوسف، سؤال قابل للإجابة، من قرأ ودرس وعمل وبحث جاداً في مفردات ابن عربي، وسعد ياسين يوسف، ليرى مدى التطابق والتحول بينهما.

فما الذي يدل على الشاعر؟2719 الاشجار تحلق عميقا سعيد ياسين

دلالة الشاعر في الديوان:

يقدم الشاعر نفسه في قصيدة بلا جذور ص 68، في ديوانه الأشجار تحلّق عميقا ،ويقرن الأشجار التي زرعها بقصائده الخضراء، فالشاعر الذي بنى قصائده بالمفردات، واللغة والجمال وموسيقى الشعر يقدم نفسه بقوله:

"الأشجارُ الَّتي زرعتُها بيَدَيَّ

قصائدَ من خضرةٍ

تهفو لأفقِ الصَّنوبرةِ

الَّتي كلَّما سقطتْ دمعة ٌأسفلَ قَدَميها

نهضتْ بتلةُ الفجرِ..."

 

ويظهر الشاعر جلياً في ختام قصيدة مشهد مرتبك في ص 72 بقوله:

"ولذا...

أغادرُ المشهدَ صوبَ أشجاري

تاركاً...

ابتساماتي..."

وأهم ما يؤكد وجود الشاعر في ثنايا الديوان متعالقا مع الشجر، يرى ما لا يرى، كلما أغمض عينيه، وذلك في قصيدة "تحليق" ص 74:

"وها أنا...

كلَّما أردتُ أنْ أبصرَ

ما لا يُرى

أُغمضتُ عينيَّ

لأتبعُ اسرابَ فراشاتِها

وهي تحلّقُ

عالياً.. عاليا ً

في شرايينِ

شَجَرتي...!!!"

ثنائية الطين:

إن دراسة الثنائيات، في ديوان "الأشجار تحلّق عميقا" للشاعر سعد ياسين يوسف، هي دراسات قيمة، وتعطي الكثير من الدلالات، والعلاقات الجمالية، الناتجة عن تلك الثنائيات، ومن تلك الثنائيات، التي يمكن أن ترتكز على الأشجار، هي ثنائية النخل والطين، والتي تشكل علامة بارزة في بلاد العراق القديم والحديث على مرّ التاريخ، كما يمكن أن يدرس الباحث ثنائية الماء والطين، والتي تتمثل في جغرافيا العراق في نهري دجلة والفرات، والأرض الزراعية الواسعة المنتجة للزراعة والصالحة لحياة الإنسان، والثنائيات عدة في الديوان أبرزها، ثنائية الطين والوطن، وهي متمثلة بشكل واضح في السطور الأولى من قصيدة "عطر أور" أولى قصائد الديوان.

لكن اختيار ثنائية الطين في ديوان "الأشجار تحلّق عميقا" هي ثنائية رمزية، تتناسق كثيرا مع الرموز الكثيرة التي أوردها الشاعر سعد ياسين يوسف في ديوانه، ومنها (أور، الزقورة، النخل، الألواح، ساحة التحرير، المنطقة الخضراء، الجسر، جسر الجمهورية، ساحة الطيران، رصاصات القناص، الباب الشرقي، جبل الفيل، زرياب، الحسيني، القبانجي، السومريون، جدران الهيكل، غناء الشبوي، شناشيل التوراة، الختم الأسطوري، بابل، كربلاء، المجر، نهر العدل، الرقم) والعديد من تلك الرموز، فالطين فيزيائيا، هو مكون مهم للحياة النباتية، والحياة الحيوانية التي تعيش عليها، والتي تشكل دورة حياة الإنسان على الأرض بشكل عام، كما أن طين الطمي في مصبات دجلة والفرات، تشكل طبقات للخزف، وصناعة الفخار، والأدوات اليومية، وهنا يكون الطين لازم للوجود الحيوي على الأرض.

وأما الثنائية فهي لازمة جاءت من السماء، وهو الإنسان، الذي ورد في قوله تعالى:" لقد خلقنا الإنسان من صلصال كالفخار" وكل من قرأ القرآن يعرف آيات الخلق، وأن الإنسان صنعه الله من طين ثم صوره، كما جاء في القرآن بقوله تعالى في سورة الأعراف آية 11: "ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس لم يكن من الساجدين"، وهذا ما جاء به الشاعر في قصيدة "أقول هو وأبكي" ويؤكد على ذلك بقوله:

"ويرسمُ وجهَ الصرخةِ

بصلصال النشأة ِالأولى

بدمِ الزهورِ على جدارِ الليل

ناشراً قمصانهم شفقاً قتيلا"

ويقول الشاعر في النشوء في قصيدة "نبض عالق" ص 42:

" ولذا ستظلُّ الفاجعةُ

تقرعُ أجراسَها السَّوداءَ

حتى يغمرَنا البحرُ

بأجنحةِ الطُّوفانِ

لتطلَّ منْ عينيهِ الحمراوينِ

موسيقى النّشوءِ...."

ولم يكتفِ الشاعر بصلصال النشأة، وقصة الخلق في ديوانه، حين أتبعها بموسيقى النشوء، التي صاحبت هذا التكوين، وقد تشكل الموسيقى كنه هذا التكوين، لكن الغالب على البشر الحيرة، التي تولد السؤال، فيقول الشاعر في قصيدة الفسيلة 2 ص 50:

" كادَ أنْ يَفنى

بين وريقاتِ أسئلةِ النّشوءِ

وانطلاقِ الموجِ في نسغهِ.

لغةُ انشطارهِ المرّةُ

بين جذرينِ من حجرٍ وماء."

والنشوء، وأسئلته، وموسيقاه، وصلصال النشأة الأولى، كلها صنو التكوين، فلا نشأة دون نهاية، ولا نشأة دون كنه كوني، كما قال ابن عربي، وكما قال الكون والتكوين، فيقول الشاعر في قصيدة "مقص أبي" ص 57:

" مُذْ أمسكَ بمِقَصِّ حياتهِ

الّذي كادَ أنْ يُطبقَ على غُصنه ِ

وهو يقصُّ لنا قَصَصَ التَّكوينِ

لنغفوَ قبلَ الموقدِ

نَحلُم بالبحرِ المنشقِّ،

بالرُّطبِ المتساقطِ."

ويقول في صفحة 66 في قصيدة قافها:

" تعلو مِئذنةُ الصُّبح ِالذي

لمْ يوقظْهُ النَّفخُ في الصُّورِ

لتصيرَ جذوع ُالزَّيتونِ

التي اشتعلتْ رؤوسُها...

مرايا تشي بالكامنين

ياسيّدَ القسطلِ*..."

وثنائية الخلق تمثلت في آدم وحواء، أما الخطيئة، التي هبطا لأجلها من الجنة إلى الأرض، عندما أغواهما ابليس لأكل ثمار الشجرة، كما ورد في قوله تعالى آية 35 من سورة البقرة : "وقلنا يا آدم اسكن انت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيثما شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين"، فهبط الإنسان المخلوق من صلصال من طين إلى الأرض، ليلتقي الصلصال بالصلصال، ويلتقي الطين بالطين، فمن هنا جاء العنوان "ثنائية الطين"، في ديوان الأشجار تحلق عميقا، للشاعر سعد ياسين يوسف، وهذا يكون منطقا عميقا في بنية الديوان، التي تتحدث عن الإنسان العراقي، كما تتحدث عن الإنسان في الكون، تتحدث عن الشجر المتجذر عميقا في باطن الأرض، والشجر المتباهي فوق الأرض ، فالشجر المتوغل في الطين، الراسخ فيها هو الذي يحلق عاليا وعميقا في السماء، وثنائية الطين بين الإنسان والأرض، من طين وشجر، فالشجر أساس حياة الإنسان الذي يعمر الأرض.

حضارة بلاد الرافدين والنظرة الكونية:

ولأن الشاعر عراقي الهوى والمنبت، فإن العراق هي حضارة الطين، حضارة صناعة الأدوات الفخارية، وحضارة الكتابة على الألواح الطينية والرقم، وحضارة البناء بالطين، فالحضارة العراقية قامت على فكرة الطين، وإمكانية التعامل مع هذه المادة الموجودة في بيئة العراق، فكانت العمارة، والكتابة، والصناعات من الطين، لتشكل مع الإنسان الذي خلق من طين ثنائية الطين.

وفي قصيدة "أقول هو وأبكي" ص 12 التي يبدأها الشاعر بصوت الأنا، يليها ضمير منفصل "هو"، ويعود على صوت الأنا بقوله "وأبكي"، مما يشكل تبادل في الضمائر بين الأنا والهو، إذ يقول في مطلع القصيدة:

"هوَ...

الطُّفلُ المرتعشُ

بقدمينِ مِنْ ضجرٍ

وطينٍ....

ونبوءةٍ

نُقشتْ على جدرانِ لحمهِ العاري

سوى...

من زرقةٍ لا تشبهُ السَّماءَ.... "

فتبادل الضمائر هو تبادل الأماكن بين طين الأرض، وطين السماء في ثنائية الطين، وما يربط بينهما هي النبوءة، فآدم أول الأنبياء، وأول البشر، وأول نفخة من روح الله، في طين نضج منه الإنسان، ليؤكد على ثنائية الطين، موضوع الدراسة في هذا البحث، ويؤكد ما ذهب إليه الباحث قوله: "لحمه العاري" حين أكل من الشجرة، وانكشفت سوءته، فأخذ يخصف عليها من ورق الشجر، يقول في قصيدة، "غصن الريش" ص 98-100:

"ولذا "طفقنا نَخصِفُ علينا

من ورقِ الجنّةِ"،

الجنّةِ التي لم ندخلْها... بعدُ "

إن دراسة ديوان "الأشجار تحلق عميقا"، تحتاج إلى عناية للوصول إلى المتخيل عند الشاعر، وما تصوره أثناء كتابة القصيدة، وكيف تعالق الخلق على الأرض، مع الخلق في السماء، فالطفل المرتعش، مؤشر أول لإنفصال الطفل عن أمه، وانفصال آدم وحواء عن الجنة، ويقول في قصيدة، "مجرة المجر" ص 95:

"مُذْ خلقَ اللهُ مجرَّتَها...

وأجرى على الأرضِ نهرَيها

شَقَّ بمِروَد  أمِّنا حواءَ

عينيها فكانتْ مجرَّة ً للسَّماءِ "

وعلى عكس ذلك، فهو يؤكد التصاق الشاعر بطينه وأرضه، وقد يشير الالتصاق والانفصال، إلى الذات العميقة حيث تحلق الأشجار.

وبالعودة إلى قصيدة "من ألواح الحلم"، نتعرف إلى التحليق الكوني، في ثنائية الحلم والمجرة، ذلك الحلم الذي بعث أبجديته على ألواح الطين، لنفهم الكون، ونفهم السماء بعمقها، ونفهم سلالة الضوء والشمس، ونفهم الطين في ثنائيته، ونفهم تلك الشجرة، التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، وذلك في قوله من قصيدة الواح الحلم ص 10:

"ممسكونَ بالمجرَّةِ

منذُ أنْ توسّدَ القرنفلُ

ألواحَ البدءِ راسما ً سُلالةَ الضّوءِ،

ملامحَ الغبطةِ الغامضةِ في الطِّينِ "

وكلما أمعنا النظر، في القصيدة وشعريتها وثقافتها ورمزيتها، نجد التاريخ حاضراً، إذ يتمثل بالحلم الضائع الذي ركض خلفه، وذلك بقوله:

"وكلَّما اقتربنا

من الإمساكِ بحلمِنا الضَّائعِ

فرَّ هارباً...."

فالنظرة الكونية، بوعيها الفيزيائي قد لا تقف عند الشاعر بالكون الذي نعرف، ولكنها تنتقل إلى أكوان موازية، تضيء ظلاما آخر، فإن تمثل الظلام في الكون، فيتمثل الظلام في أكوان أخرى، وقد لا تكون أكوانا، لكنها حالات بشرية متعددة، وكما يقال: فالتاريخ يعيد نفسه، والتاريخ حلم الشاعر الضائع، الذي لا يستطيع الإمساك به، لكن الطين يبقى طقوساً في لوحات الشاعر سعد ياسين يوسف الساحرة، إذ يختم قصيدته بقوله:

" تحتَ ذريعةِ الحُلمِ الّذي

ما أجدنا رسمَهُ....

ونحنُ نلقي برؤوسِنا على

ألواحِ طينِ طقوسِنا

السَّاحرة ِ...."

كما يؤكد لنا الشاعر في قصيدته، عن مدى حرفيّة الشاعر، وتمكنه من إيقاعه الفني، وتماسك الفكرة التي يتمثلها رسالة للوطن، على ألواح من الحلم في نصّ شعري مثقف جمالي، يدّعي أنه ما أجاد رسمه، لكنه استطاع التخييل لنا، بفنه الشعري فأجدنا التلقي لتلك اللوحات الساحرة، فتمثلنا ديوانه "الأشجار تحلّق عميقا"، فثنائية الطين هي ثنائية الوطن، الوطن الأرض، والوطن الرحلة الأزلية، والبحث المتواصل، وكشف الصدر للرصاص دفاعا عن الوطن، والوطن الأصالة، والعطر الفواح من قارورة أور، والوطن عندما يرفع الشجر للسماء أغصانه، كي يحلق عميقا، فأور رمز تاريخي قديم، وهذه المدينة التاريخية، تبعد عن الناصرية حوالي 40 كم، فمن عطر أور يفيض عطر المقاومة، وصمود الناصرية، في مقاومة العدوان الثلاثيني على العراق، وهذا التحليل لم يقفز له الشاعر، أو يلوي عنقه ليا، لكنه بحث في جغرافيا أور والناصرية، والتاريخ المعاصر، وهذا ما استنتجه الباحث من حواره مع الشاعر سعد ياسين يوسف.

يقول الشاعر في قصيدة عطر أور ما يدلل على علاقة أور بالناصرية:

" ألا تكفي ابتساماتُ الدَّمِ

في صدورِهم

حين تعروا للرَّصاصِ

الباحثِ عن وطنٍ فيهِم

في رحلتِهم الأزليّة ِ

للبحث ِعن وطن....؟؟!!!!"

إنَّ الشاعر تعامل مع نصوصة بذكاء إنطلاقاً من البعد الفكري والذي مال فيه ميلاً فلسفياً معتمداً الانزياح والتقديم والتأخير في الجمل الشعرية  ومن يقرأ الديوان ببعد رئيوي وفلسفي سيصل إلى رؤية فكرية عالقة في ضمير الشاعر الذي استطاع أن يصوغها في حلة ٍ جميلة لم يلو ِ فيها عنق الشعر من اجل الفكرة ولا الفكرة من أجل الشعر بل جاءت متساوقة ً من البداية حتى آخر قصائد المجموعة .

 

بقلم: الشاعر والناقد عبد الرحيم جداية (الأردن)

..........................

* "قدمت هذه الدراسة في المكتبة الوطنية، في حفل توقيع ديوان الأشجار تحلق عميقا للشاعر العراقي الدكتور سعد ياسين يوسف الساعة السادسة مساء الأحد 7/11/2021م"

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم