صحيفة المثقف

مصطفى شقيب: ماذا يريد أن يقول الدكتور علي القاسمي؟

علاقتي بالعلامة القاسمي علاقة قارئ وكاتب ثان لأعماله السردية ومستكشف لنصوصه الأدبية؛ فقد وقعتُ في شراك ترجمتها الى الفرنسية-والترجمة كتابة ثانية للحقيقة-بدءً بالرواية التي أثارت المهتمين والنقاد ومازالت، وهي الآن في طور الصدور من طرف دار نشر باريسية "لارماتان"، وستليها لاحقا الأعمال القصصية الكاملة لهذا المؤلف المتعدد المواهب-أي ست مجموعة قصصية غنية ومتنوعة، والسابعة قادمة ولا أدري بم سيكلفنا استاذنا القاسمي أيضا؛ يبدو اننا لن نفلت من قبضة تنويره وتشجيعه على المعرفة والنقاش والتساؤل الدائم.

إذن ما يمكنني قوله نابع من علاقة مترجم بمؤلفه الاصلي طبقا لما عايشته في جميع نصوصه الجميلة التي سكنتني وسكنتها، وأصبت بمجموعة أعراضها المزمنة-الحميدة طبعا- ولو كان لعالم نفسي متخصص أن يبتكر أعراضا عن متلازمة ما في أدب القاسمي، لأدلى بأعراض رواية مرافئ الحب السبعة، الرواية الصادقة النابعة من غور الأعماق والتي جعلت المترجمة المشاركة معي في العمل، الدكتورة ماري ايفلين أستاذة الادب والترجمة تصرح في كلمة مؤثرة أن دموعها سالت بغزارة لقراءة الرواية وهي المتعاملة دائما مع النصوص الادبية تعاملا روتنيا فما بالك بالقارئ العادي؟

واستلهاما ممن سبقونا في عالم الترجمة، وأخص بالذكر المترجم الفرنسي العاشق للغة العربية، فيليب دوغرو، مترجم المقامات والكلاسيكيات العربية الحديثة والحائز حديثا على جائزة قطر للترجمة، يصرح هذا المبدع المتواضع أنّ كل مؤلف أصلي هو صاحب رسالة ما، يريد أن يبلغ عن شيء ما، أن يحذر من خطر ما، وهو بمثابة شاهد على مأساة ما، على فقدان ما.

وهكذا فإن كان نجيب محفوظ يرصد تحولات الساكنة الحضرية في القاهرة على إثر التحولات السياسية والاجتماعية تاركا القارئ في الحيرة والقلق والمآزق،

وعبد الرحمن منيف يثير الانتباه إلى تأثير استخراج النفط على سكان القبائل، فيما كان صاحب "جارات ابي موسى" أحمد التوفيق، ينبه بلغة المؤرخ وأمين المخطوطات من مخافة نسيان الشباب المغربي لتاريخ بلدهم الأسطوري في القرون الوسطى،

أما الكاتب الليبي إبراهيم الكوني فأسس لمفارقة الرّحل والاستقرار وبالتالي مصير بناء المدن وانتشار الثروات ومعها ذهاب المشاعر والأشياء الجميلة؛ كان يخشى من اختفاء ثقافة الطوارق الضاربة في القدم.3031 القاسمي

فما هي رسالة الأديب علي القاسمي؟

ماذذا يريد أن يقول لنا؟

وما هي شهادته؟

ومم يحذر، وعلى ما أو من يخشى؟

وإلى ما يدعو؟

يا ترى ما قد يريد قوله رجل هاجر مرغما من بلده ولم يهجره،

رحل عن المكان ولم ترحل الذكريات عن ذاكرته الخارقة، ولا المدرسين ولا الاصدقاء ولا الحيوان أو النبات ولا المنشآت والمباني.

ماذا قد يقول رجل فقد دفئ العائلة وحضن الوطن لحقبة طويلة جدا، ومع ذلك لم يجحد ولم ينكر بل ظل وفيا غاية الوفاء.

فكتب عن الأم ما لم يكتبه أحد، ونوه بالآباء وأشاد بالصداقة وسطّر أعظم كتابة عن الغربة والنفي وحنين الأوطان.

كانت الرسائل متعددة متداخلة شعارها وحيد: حرية الإنسان، العدالة الكونية، التسلح بالعلم، التشبث بلغة البلد والاعتزاز بالهوية.

هل كان ذاتيا الى حد ما؟ نعم ولكنها ذاتية ايجابية، مثمرة، مشاركة للهموم والانشغالات العامة-او لنقل ذاتية موضوعية-

ولم تفته الاشارات في كامل هذه الأرمادا القصصية إلى كل معنى إصلاحي أو فكرة تقويمية تخص حياة هذه الامة ومسارها؛ من لفت الانتباه الى طرق التدريس في الغرب وكفاءتها الى فسح المجال أمام تعدد الآراء ونبذ الرأي الأحادي والحكم بالغصب وتسيير العسكر ولعنة الانقلابات على الحكومات المدنية.

ولدى هذا المؤلف، لا يمكن اصطناع جذور أخرى، بل الجذور أصيلة، في الأرض الأصلية، فقد لا يطربك البيانو الغربي ولا تكترث بالسناجب اللطيفة في المدن الغربية العملاقة ذات البنايات الشاهقة ولا يغنيك تقدم بلد المهجر وفتياته الشقراوات عن وطنك المحبوب وعن نخلتك الفارعة الطول والناي العربي الحزين والدبكة الشامية الممتعة والمرأة العربية الساحرة.

كما أن الهوية والأمة واحدة، والتاريخ واحد ممتد في القدم، والمشرق والمغرب يلتقيان ولا يفترقان، ولا مجال للسير الى الأمام إلا بالرجوع إلى هذه العناصر جميعها.

وعند القاسمي، التعلّم دائم لا يتوقف، فأعلى شهادة ليست سوى شهادة بداية البحث والتفكير.

والحب غذاء اساسي-له سلطانه أحيانا والذي قد يأسر لأمد طويل-

والمرأة لازمة لنا-الرجل في حاجة ماسة الى حاستها الفائقة؛

ويبقى الوفاء للأحياء والأموات من شيم الأصلاء.

وقد لا أحصي كل ما أراد أن يوصله هذا القاص الاستثنائي المتفرد، الملتزم بقضايا أمته والمنظومة الانسانية،

الا أني اقول لاستاذنا ومعلمنا الدكتور علي القاسمي:

ألف شكر وشكر

وتنويه لا ينتهي

وتقدير دائم لكم

على كل ما أمتعتنا به من معارف ومعاني وأفكار ودعوات واستكشافات وتأملات وتساؤلات...

شكرا لكم.

 

مصطفى شقيب

كاتب ومترجم-المغرب

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم