صحيفة المثقف

سوران محمد: عتبات النص ومستوى الصراعات داخل (معابرُ ضيِّقة)

سوران محمداندهشت وتفاجئت من جمالية النصوص وعذوبتها ودلالاتها المتنوعة واسلوبها المتجددعندما فتحت صفحة ايبجراما ليوم ٢٧/١١/٢٠٢١ وجعلتني ارتبك ولا أعرف من أين أبدء قراءتي وأين أنتهي، في حين انتابتني الحزن وأنا أمر على كل تلك الصور الموءلمة والبليغة في مضمونها وتشكيلها في نصوص كـالـ: (وجعي) نرجس عمران، (أحد أحد) سلمى جمو، (هذيان منتصف الليل) عناد العسكري، (عاشق بلا جسد) سمير حماد، (ملحمة العشق) علاء راضي الزاملي، (المنفى الذاتي) سلمى جبران... وغيرهم، لكنني تجنبا للتفريط في حقهم قررت أن أقف علی تحليل نص واحد، لأن کل منها عالم خاص ولا يمكن التحدث عن کلها بنبرة واحدة وتجميع كلها تحت ظل خيمة واحدة، وهذا دليل علی قوة النصوص وغنائها التعبيري وتفاوت لغتها الابداعية واسلوبها، ياليت النقاد الحاذقين الموضوعيين يلتفتوا الى هذه النصوص ويتمتعوا باستكشافاتهم المتنوعة ولا يمروا عليها مر الكرام كما يحصل مع كثير من القراء السطحيين.    

هنا في هذا النص (معابرُ ضيِّقة) لـ د. ناديا حمّاد توقفت قليلا وتأملت في عتباته فسرعان ما جذبتني وأسر روحي لأول وهلة ومع أول قراءة ثم بدأت بمراجعته مرات تلو الاخرى، وسبب الاختيار ليس لأنه سهل ممتنع، ولا بدافع سلاستە وصرحات الآهات المستعلية داخل أزقته المهجورة والتي يسمعها القاص والداني من بعيد، بل لأن الشاعرة استطاعت ومن خلال فطنتها وقوة بلاغتها وتنظيم المشاهد فيه أن تجعل الحياة الخاصة فيها عاما وتخاطب بنصها كل قاريء أينما کانوا على وجه الارض بأختلاف أجناسهم وألوانهم وعرقهم وميولهم، وهذه من مواصفات النصوص العالمية، فاذا حذفنا الاسم علی النص وعاملناه كقطعة أدبية مستقلة ذات شكل ومضمون معين، لنرى انه لا يقل شئنا علی سبيل المثال من قصائد (لويز غلوك) الحائزة علی جائزة نوبل للآداب لسنة ٢٠٢٠، خاصة نحن کبشر بفطرتنا نشارك الشاعرة هذه المشاعر الانسانية والحالات النفسية الأليمة عندما نتلمس هول الموقف وربما قد واجهتنا ظروفا قاسية مشابهة أثناء الكوارث والحروب وتعلمنا منها ما يقوي بنياننا ويصبرنا على الشدائد أطول مدة ممكنة وكل منا عنده شيء من هذا الحصاد مسجل في تسجيل ذكرياته، كل حسب بيئته وتجربته الحياتية الخاصة. ليس هذا فحسب؛ بل يتسنى لنا من خلال القراءات ان نحيط علما بما لا يسعه القاريء البسيط الاحاطة به، کمعرفة ما يجري من فوضى في عالمنا المعاصر ومنها بيئة الشاعرة، المستجدات علی الساحة السياسية والواقع الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية، نفسية الناس أثناء الازمات، الحالة النفسية للشاعرة، مستوی الوعي وطريقة تعامل مثقفة واعية کشاعرتنا ناديا مع معطيات الظروف الصعبة ، وبالاخص كلنا نحيط علما بما يدور من مآسي ومشاكل وأزمات متعاقبة في سوريا وعلى أرض الشام منذ أكثر من عقد من الزمن. لكن الاهم من ذلك هو ان الشاعرة تلوذ بالكلمات وتستمد قوتها المعنوية منها وتکون رفيقة دربها بل تحاولُ أنْ تعيدَ إنتاجَ نفسها بالكتابة، وهذا هو الموءشر الايجابي لأستيعاب واقعها الاليم وتقوم بدورها بمسوءلية واخلاص وتكون قدوة لغيرها ، لكن في النتيجة مثلما قال رولان بارت ان الأدب هو ألا أستطيع أن أقرأَ دون ألمٍ ودون اختناقٍ وما هو الا سؤال ينقصه الجواب.

أول عتبة تواجهنا هو العنوان، فمن خلال العنوان نصل الى الجوهر المخفي في العمق المستور وخلف قضبان الكلمات الوضائة، فالعنوان فيه اشارة واضحة الی تعدد السبل والمعابر للوصول الی الهدف المنشود، لكن السبيل ليس واسعا ومنيرا، بل مليء بالمخاطر والمثابرة، ثم بعد قراءة المتن نصل الى قناعة بأن ثيمة هذا النص بمثابة خروج عن المألوف بحد ذاتها، فهي ليست البكاء علی الاطلال ولاتعالج مواضيع البعد عن الحبيب والفراق الموءلم فحسب، بل تطرق أبواب الفكر والفلسفة للبحث عن المنفذ والمخرج للأجيال نحو الضياء من خلال السرد الشعري لمعاناة الذات وتداول مواضيع مصيرية في غاية الاهمية ، فلو قمنا بتفكيك بنية النص ووزعنا العناصر المكونة منها الی أصناف وجداول فرعية عندئذ سنستنتج قراءات جديدة ومعطيات لم تكن في حسباننا من قبل.

بلا شك ان البنية الأساسية هنا واقفة علی أرضية صلبة للرحيل ولكن ليس سفر واحد أو رحلة ترفيهية، بل ان الشاعرة مبدئيا لا تنوي الهجرة واذا اضطرت فعليها البحث عن أقدامها وهي تری نفسها موجودة في الآخر (المخاطب) كي تشعر بالالفة والسکينة تناغما مع جميع عناصر الكون المزدوجة:

في كلِّ مرّةٍ تتركُني ،

أفتِشُ عن قدمي

التي ستَحمِلُني إليك

 يقول وليام جلاسر: تتحكم بنا خمس احتياجات جينية؛ النجاة، والحب، والانتماء، والقدرة، والحرية.

فهنا في جوهر هذا النص تنبع كل هذه الاحتياجات والميول الفطرية في ثياب المجاز والاستعارات، فبالرغم من ضعف بنيتها الفيسولوجية كأنثى والتي لا تقوي لتحمل مشقة الرحيل الطويل والمتعدد ومتاعب الطريق ومخاطر الهروب، يضاف اليها عامل العمر وبأسف شديد خلاء الأمعاء أيضا، لكن بالمقابل تواجه الشاعرة العالم المادي بالحلول المعنوية والروحية 'metaphysical' ومن بين تلك الحلول تعد أعادة إنتاجَ النفس بالكتابة شكلا من اشکال الصمود:

 أحاولُ أنْ أعيدَ إنتاجَ نفسي بالكتابة

و أمارسَ الصّمودَ

بأمعاءَ خاوية

اذن نجمع تلك العتبات من الضعف الفسلجي الی هول المشهد التي تواجه المتحدثة ونرسمها في شكل هذه الصورة التوضيحية كي يتسنی لنا ان نستوعب الوقائع من خلال سرد الشاعرة للأحداث ومجريات الأمور، دون الخوض في اشارات ورموز کـ(الريح الجنوبية) و(غرفة الحراسة) لأسباب غير أدبية:

3042 سوران محمدبعدما اتضح لنا شيء من هذه العتبات ثم نأتي الى العنصر الثاني الأهم في هذا النص ونبدء بسوءالنا عن ماهية غريزة الشهوة وما هو الوجه المجازي لها في هذا النص؟ في العادة ان الشاعر المتمكن لا يستعمل المصطلحات في اشکال أستخداماتها اليومية والمقصودة مباشرة، بل تصنع منها معاني أخرى توصلنا الی عالم مجازي غير هذا العالم المحطم والمليء بالنکبات والانكسارات، لأن الخيال جزء حيوي من نسيج النص الشعري الحي.

وبالرغم من ان الشهوات متعددة، لكننا اذا تعاملنا معها من منظور شعري غرامي، نأتي بأستنتاج جديد من خلال نظرة علي طنطاوي اليها فهو يقول: ان فطرة الشهوة مزروعة في جوفنا لغرض ادامة سلالة البشرية على وجه الارض، اذن من هذا المنطلق نتعامل مع مصطلح الشهوة هنا کرمز للرغبة في الأستمرارية والدوام والحياة على الارض، وتعتبر هذه حالة ايجابية من بين تلك السلبيات المحاطة بالشاعرة وبيئتها في هذا المقطع، کالـ: آهات، خوف، ارتباکات الايادي....

في كلِّ مرة ترسمُ الريحُ الجنوبيةُ

خرائطَ الشهوات

فوق أجسادنا

غير عابئةٍ بآهاتِنا

ولا بالخوفِ المتدلي

من ياقاتِنا

و لا بارتباكاتِ أيدينا

عندما نتكلمُ

عن المستقبل

ويمكننا ايضاح هذا المقطع من خلال هذا الرسم البياني:

3043 سوران محمدفي المقطع الأخير نأتي الی الأستنتاج الأهم ونحقق الهدف المنشود مع الشاعرة من خلال الوصول اليه، أي معالجة تفاصيل خاتمة الصراعات في هذا الشعر الدرامي. مثلما نعرف ان عامل الوقت نقطة مهمة وحيوية في نضوج الثمار، فلا قطاف للمستعجلين، ولذا من المستحسن ان نعطي لعامل الوقت مکانه الأنسب في تحاليلنا وخرائطنا للخروج من کل تلك العتمات، فدروس الماضي تجعلنا ان نتخلق بالحكمة والصبر ، ثم اذا عرفنا في البداية بأن سبل الخروج الی الضوء الموجود في الساحة ضيقة ومليئة بالمخاطر فعلينا الا  نقتحم هذه النقاط قبل ان نستعد لها ونسلح أنفسنا بعتاد المعرفة والجدية، ثم اذا أتى حين مناسب من الدهر لنيل المرام وضمان مستقبل أنسب لنا وللأجيال القادمة لا يكون فيه مكان للتجويع والاهانة والاختطاف القسري.

عندما نتكلمُ

عن المستقبل

و عبورِنا للوقت

من معابرَ ضيّقة ..

كلُّ الطرقاتِ إلى السّاحة

غارقةٌ بالعتمة ،

وحدَها غرفةُ الحراسة

ما زالت تنعمُ بالإضاءة

 وهذا الرسم التوضيحي الاخير تعبر عن محتوى المقطع الختام من القصيدة:

3044 سوران محمد في ختام هذه القراءة نحن وشاعرتنا الموهوبة المخضرمة ناديا حماد نضم صوتنا الی صوت نزار القباني ونقول بکل شوق واشتياق:

أيا شرق المشانق والسكاكين ..

 والأمراء ..

من كل السلاطين ..

 أريد أحب مثل طيور تشرين ..

***

سوران محمد

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم