صحيفة المثقف

حاتم حميد محسن: مواعظ من البايولوجيا التطورية.. قراءة في كتاب جديد

حاتم حميد محسنهذا الكتاب (1) يعرض استطلاعا مثيرا للتوتر بين تاريخنا التطوري ومشاكلنا الحديثة وحول ما يجب علينا فعله تجاهها. نحن نعيش في اكثر العصور ازدهارا على مر التاريخ ، ومع ذلك، نحن باردون، منقسمون، وتعساء. الثروة والراحة لا مثيل لها، لكن مناخنا السياسي غير مستقر، ونسب الانتحار والوحدة والأمراض المزمنة في تصاعد مستمر. كيف نفسر الفجوة بين هذه الحقائق؟ وكيف يجب ان نستجيب؟ بالنسبة للبايولوجيين التطوريين بريت وينشتاين وهيذر هيينغ فان السبب في مشاكلنا واضح وهو ان سرعة التغيير المتصاعدة في العالم الحديث فاقت قدرة أدمغتنا وأجسامنا على التكيف. نحن تطورنا لنعيش في جماعات عائلية، ولكن اليوم العديد من الناس لا يعرفون حتى أسماء جيرانهم. في نبذنا المتسرع لأدوار الجنسين القديمة، انما ننكر باستمرار حقائق اللحم والدم الجنسية واصولها القديمة.

سنرى من خلال هذا الكتاب، ان الناس يتكيّفون بشكل مذهل، مهيئون للتغيير. لكن التغيير ذاته هو سريع جدا وان عدم الانسجام المعرفي نشأ من محاولة العيش في مجتمع يتغير بدرجة أسرع من قدرتنا على التلاؤم معه الأمر الذي حوّلنا الى اناس لانستطيع الدفاع عن أنفسنا (ص1).

الكاتبان لا ينسجمان كما يبدو بشكل جيد مع أنظمتنا السياسية المعاصرة. هما لا يتفقان مع الشركات والرأسمالية . وكذلك يتخذان موقفا هجوميا عندما يأتيان الى القضايا الثقافية وخاصة العلاقات السائدة بين الذكر والانثى وتربية الأطفال.

الكتاب نُشر قبل عدة ايام من مراسم العطلة اليهودية (يوم الغفران). لذا من اللافت ان الكتاب ربما يُعتبر سلسلة من المواعظ، ولو وضع المرء العلوم والسياسة جانبا، فهو يستطيع بسهولة تصوّر ان رؤى المؤلفين حول العدالة الاقتصادية والسلوك الجنسي وتربية الأطفال كأنها تأتي من حاخام يهودي.

المؤلفان كبايولوجيين تطوريين مندهشان من قدرة الناس على التكيف والنمو في مختلف البيئات.

قدرتنا العجيبة في التكيف، ذكائنا، ومقدرتنا الاستغلالية، مكّنتنا من التخصص في كل شيء عبر مئات الآلاف من السنين. نحن نتمتع بالمزايا التنافسية كوننا متخصصين. الكاتبان يقولان اننا انجزنا هذا من خلال مركّب الثقافة والوعي. الثقافة هي عاداتنا المشتركة وتقاليدنا، التي تسمح لنا بالعمل بفاعلية في بيئات مستقرة. الوعي هو براعتنا واستعدادنا للتجربة، التي تسمح لنا للتكيف مع بيئات جديدة. بالنسبة لكتاب دانيال كاتيمان (التفكير سريع وبطيء)، يرى الثقافة مثل (نظام 1)، فيه نستجيب اوتوماتيكيا للحوافز. اما الوعي فهو يشبه (نظام 2)، فيه نتأمل، نخطو للوراء ونفكر قبل الفعل.

3054 حاتم عبد الحميدنحن اكتشفنا كيف نبادل ما لدينا من سوفتوير اجتماعي ونستبدله عندما تبرز الحاجة بفعل التأرجح بين الثقافة والوعي (ص10). الكاتبان يركزان على اللياقة التطورية evolutionary fitness.

اللياقة هي احيانا حول التكاثر، لكنها دائما حول الاستمرارية... الانقراض فشل، بينما الاستمرار نجاح.

كل فرد هو بداية خط سلالة، والفترة التي يستمر فيها المنحدرون بالوجود هي ممثل جيد للّياقة.

الكاتبان يجادلان بان الثقافة والوراثة كلاهما يتطوران لتعزيز اللياقة.

التساؤل حول ما اذا كانت سمة معينة ناتجة عن الطبيعة ام عن التنشئة ينطوي على انقسام زائف بين الطبيعة، الجينات، والتطور في جانب وبين التطبيع والبيئة من جانب آخر. في الحقيقة، كل ذلك تطوري.

اي سمة ثقافية ثمينة وطويلة المدى (مثل التقاليد المنحدرة نزولا ضمن الاسلاف عبر آلاف السنين) يجب الافتراض انها متكيفة (ص16-17).

ما اذا كانت السمة ثقافية او وراثية، او كانت معقدة ومكلفة ومستمرة لفترة طويلة، نستطيع الاستدلال بانها تخدم بعض الوظائف، يجب ان نفهمها ونتعامل معها بطريقة عقلانية وعدم نبذها كشيء غير ضروري. وفق هذا الاطار، يجب ان نحذر من الابتكارات التي تقدم مكاسب متواضعة قصيرة الأجل وذات مخاطر طويلة الأمد. ومع التضاد الحتمي بين الفاعلية والقوة ، هما يدعوان الى مبادئ وقائية تقول ان الابتكارات يجب إدخالها بعناية وببطء. الاقتصادي توماس سويل عُرف بقوله، "لا توجد هناك حلول، هناك فقط مقايضات". الامر بالنسبة للكاتبين يشبه القيام بتدخلات طبية.

السعي لحل سحري، لأجوبة بسيطة تُطبّق عالميا على كل الناس وفي جميع الظروف، هو امر غير معقول. اذا كان ذلك سهلا، فان الأختيار بالتأكيد سوف يجد طريقه (ص64).

بالارتكاز على هذه الانواع من الاعتبارات، ينصح الكاتبان حول الطعام، النوم وتقرير كيفية علاج الامراض المزمنة . وحول قضية الجنس والنوع يكتب الكاتبان:

هناك ثلاث استراتيجيات للتناسل:

1- زواج واستثمار طويل الأجل، تكاثري، اجتماعي وعاطفي.

2- تناسل إجباري قسري على شريك غير راغب.

3- لا إجبار لأحد، ولكن ايضا استثمار اكثر بقليل من الفعالية الجنسية القصيرة الأجل(ص117).

الكاتبان يشيران الى ان المرأة مقيدة بايولوجيا لإتّباع الاستراتيجية الاولى. ومن جهة اخرى، جميع الاستراتيجيات الثلاث متاحة للرجل، ولكن الاستراتيجية الاولى هي استراتيجية الذكر وهي الأفضل للمجتمع وللأطفال وللمرأة، والافضل لجميع الرجال الاّ حفنة منهم (ص118).

الكاتبان ينظران الى الزواج الاحادي كاسلوب قوي لكنهما يخشيان من اللامساواة الاقتصادية، لأن الرجال ذوي المصادر القليلة جدا هم غير جذابين كأزواج.

هذا بالضبط ماحدث بين الرجال الذين قاد نقص الفرص الاقتصادية لديهم وقلة تمويل المدارس الى ارتفاع نسبة الوفيات والجريمة والسجن. في الولايات المتحدة، أجبر عدد كبير من الرجال السود على مثل هذا الموقف. الرجال الذين يتجنبون هذا المصير السيء يجدون هناك طلبا جنسيا عاليا عليهم ويميلون لتكون لديهم علاقات جنسية متعددة، تاركين العديد من النساء السوداوات يخلقن عوائل بدون شريك ملتزم. العديد من افراد الطبقة الحاكمة تظاهروا منذ وقت طويل بان هذا الاسلوب يُشتق من الفشل الاخلاقي المُتصور بين الناس السود، بينما من الواضح ان ذلك ينشأ .. في أي مجتمع سكاني يواجه نفس الظروف (ص135).

الكاتبان لايعتقدان كثيرا بالرأسمالية. هنا نتائج البحث عن كلمة "سوق". في الكتاب:

السوق مليء بخداع الآخرين.. السوق يبيع قيم طفولية.

الأسواق تقتل الإحساس بالعدالة (ص202)

قوى الأسواق الضارة هي تعبير عن الاستغلال (ص228).

السوق لايجب ان يُسمح له بالتدخل في العديد من الاشياء، بما فيها الحب والجنس والموسيقى والفكاهة.

البالغون سوف يوفرون خارطة طريق للبيئة ينمو فيها أطفالهم، مالم تتدخل قوى السوق (ص149).

الأسواق الاقتصادية تقتل هذه النزعة، تزعزع استقرار إحساسنا بالذات والجماعة (ص201).

الاسواق تقتل إحساسنا بالعدالة. هي تخدعنا للاعتقاد بان كل شخص آخر يحصل على الثمار.(202).

السوق مرة اخرى يحاول قتل الميول الشريفة للانسان (ص203).

ما هو "صحي" بالطبع فيه كثير من التحدي ويصعب فك شفرته بوجود قوى السوق وفي جميع القرارات (ص204).

باختصار، تقريبا كل اشارة الى السوق هي متحيزة. ولكن من السهل للمرء الجدال بان السوق سمة مكلفة وطويلة الأمد وبهذا يجب الافتراض انها متكيفة.

"الكتاب يعاني من اطار ينخرط فيه الفرد في معركة وحيدة مع البيئة الطبيعية والاجتماعية".

عموما يمكن القول ان المواعظ في الكتاب مفيدة وذات قيمة، اذا كان التغيير سريعا، فهما يتسائلان كيف يمكننا كأفراد الدفاع عن أنفسنا.

لو نظرنا في عام 1800 حيث كان الفلاح يستطيع إصلاح أي شيء تقريبا يتعطل في المزرعة. حتى في عام 1950 ، الناس غير المدربين يستطيعون اصلاح العديد من الادوات التي يستعملونها، بما في ذلك السيارات. اليوم نرى العديد من ادواتنا متضمنة في شريحة كومبيوتر يُحتمل ان نكون يائسين عندما تتعطل. اننا الان اكثر اعتمادا على الناس الآخرين وعلى التكنلوجيا لإنجاز أهدافنا مقارنة بالماضي لكن علاقاتنا بالبيئة تتوسطها مؤسسات، السوق احد هذه المؤسسات. السؤال حول التغيير السريع هو ما اذا كانت مؤسساتنا تستطيع التكيف كي نستطيع استغلال منافع الأفكار الجديدة وتقليل الأذى. في هذا الشأن يكون القلق اكثر على الاكاديمية والصحافة والمؤسسات السياسية منه الى الأسواق.

في هذا الكتاب، يعتمد المؤلفان على عقود من التدريس في الكلية مستطلعين أعظم التنوعات البيئية والأنظمة الايكولوجية في الارض لكي يواجها الأمراض الاجتماعية الملحّة الحالية بدءاً من الانتشار الواسع للحرمان من النوم مرورا بالأغذية الخطيرة وحتى أساليب التربية الضارة وممارسات التعليم المتخلف. هذه الأسئلة التي يخشى العديد من الناس طرحها اليوم. الكاتبان يعرضان رؤية مرتكزة على العلم ستحفز وتثري كل منْ يريد العيش بحياة أفضل واكثر حكمة.

 

حاتم حميد محسن

................................

(1) كتاب دليل الصيادين – جامعي البذور حتى القرن الواحد والعشرين للكاتبين بريت وينشتاين وهيذر هينغ صدر عن دار portfolio في 14 سبتمبر 2021 في 320 صفحة.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم